وبينما بدت بريطانيا، أمس، بشقيها المؤيد للخروج من الاتحاد والرافض له، تحاول التكيف ببطء مع النتائج، اختارت أوروبا لنفسها مساراً مختلفاً عنوانه تطويق التداعيات، والإسراع في تأمين خروج بريطانيا للتفرغ لما تراه دفاعاً عن مستقبلها والحفاظ على وحدة الاتحاد، بعدما شكّلت النتائج ضربة لها ووضعتها أمام اختبار ستظهر تطورات الفترة المقبلة ما إذا ستكون قادرة على اجتيازه أم أنها ستفشل.
كاميرون الذي بدت عليه علامات الهزيمة والانكسار، قال للصحفيين الذين احتشدوا أمام مقر الحكومة صباح أمس، إنه دافع خلال حملات الاستفتاء عن "بريطانيا أقوى وأكثر أمناً، وأفضل حالاً داخل الاتحاد الأوروبي". وأردف بالقول: "لكن طالما أن الشعب البريطاني قد اتخذ قراراً واضحاً جداً، وقرر المضي في مسار مختلف، فالبلاد تتطلب قيادة جديدة للسير في الاتجاه الذي اختاره الشعب". واعتبر كاميرون أن مهمته خلال الأشهر القليلة المقبلة ستنحصر بالمحافظة على "استقرار السفينة قبل تسليم مقودها". هول الهزيمة التي أصابت معسكر "بريطانيا أقوى في الاتحاد الأوروبي"، الذي دافع بقوة لأجل بقاء بريطانيا في الاتحاد، دفع كاميرون للاستقالة، بعد يومين فقط من تأكيده البقاء في منصبه مهما كانت نتيجة الاستفتاء.
زلزال سياسي
منذ إغلاق صناديق الاقتراع مساء الخميس، وحتى ساعات مبكرة من فجر أمس الجمعة، وبعد فرز ملايين الأصوات في مناطق مختلفة من أقاليم المملكة المتحدة، كان المراقبون والمعلّقون في مختلف وسائل الإعلام البريطانية المرئية والمسموعة، يرجّحون تقدم المعسكر المُؤيد لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. استطلاعات الرأي التي واكبت الاستفتاء البريطاني منذ أشهر، أكدت في اليومين السابقين لموعد الاستفتاء في 23 يونيو/حزيران، وحتى بعد انتهاء عملية الاقتراع، على تقدّم حاسم لمعسكر "البقاء". لكن النتيجة النهائية، جاءت مخالفة تماماً لكل ذلك، إذ قلَب الناخبون "الطاولة" على كاميرون، ومن خلفه معسكر "بريطانيا أقوى في الاتحاد"، على الرغم من كل التخويف الذي مُورس عليهم من قِبل مؤيدي "البقاء" طيلة شهرين من الحملات الدعائية التي سبقت يوم الاقتراع. استيقظ البريطانيون "يوم الاستقلال" كما سمته صحيفة "ديلي ستار" على "بلد آخر"، كما قال الكاتب في صحيفة "الغارديان"، جوناثان فريلاند، بعد أن "هزت العالم بتصويتها للخروج من الاتحاد"، على حد تعبير صحيفة "ديلي تلغراف".
انقسام اجتماعي
تُظهر قراءة ديمغرافية للنتائج أن حوالي 60 في المائة من سكان العاصمة لندن، وسكان المدن الكبرى في إنجلترا، صوّتوا لصالح بقاء البلاد في أوروبا. في المقابل صوّت سكان المدن الصغرى، والأرياف والأطراف الساحلية في جميع أنحاء إنجلترا وويلز لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. أما إقليما اسكتلندا وويلز فصوّتا لصالح البقاء بأغلبية ساحقة. وقالت صحيفة "الإندبندنت" إن كاميرون الذي كان واثقاً من فوز معسكر البقاء في الاتحاد الأوروبي، ومن أن هذا الفوز سيوحّد البلاد، تسبّب في شرخ الأمة بين فئة العاصمة الليبرالية وأبناء الطبقة العاملة القلقين من الهجرة، بين الذين ربحوا من العولمة، وأولئك الذين "تُركوا وراءها" غير مستفيدين من الوظائف أو الأجور، بين إسكتلندا وإنجلترا، بين لندن وبقية إنكلترا، بين الناخبين الشباب وكبار السن، وبين الأغنياء والفقراء.
ويعكس هذا الانقسام نجاح خطاب "الكراهية" في دفع 52 في المائة من البريطانيين للتصويت لصالح "الخروج". وقد وظّف القائمون على حملة الخروج التي قادها عمدة لندن السابق، بوريس جونسون، ومن خلفه أحزاب اليمين الشعبوي، أزمة اللاجئين والمهاجرين، باعتبارها المشكلة الأخطر التي تواجه المجتمع البريطاني. وزعم هؤلاء أن قوانين الاتحاد الأوروبي هي السبب في تدفق المهاجرين إليها، مما أثر سلبياً على مستوى المعيشة، وعلى مستوى الخدمات العامة، لا سيما في قطاعات الصحة والتعليم والإسكان والمواصلات، ناهيك عن ترهيب الناس بالتركيز على خطر الحدود المفتوحة وخطر تسرب عناصر متطرفة من الجماعات المتطرفة المنتشرة في الشرق الأوسط وسط اللاجئين.
ومع أن ورقة اللاجئين كانت الورقة الأقوى في يد معسكر الخروج من الاتحاد، إلا أن الأرقام التي أفرزتها صناديق الاقتراع تشير إلى مفارقة لافتة، إذ إن المناطق التي تعتبر جاذبة للمهاجرين، هي أكثر المناطق التي صوّتت لصالح البقاء في الاتحاد، في المقابل أيّدت المناطق التي يسكنها قلة من المهاجرين الخروج. وقد أيّدت لندن ومانشستر وبيرمنغهام، وهي المدن التي استقبلت أغلبية المهاجرين القادمين من أوروبا الشرقية، بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في حين صوّتت إسيكس التي استقبلت في العام 2015 حوالي 80 مهاجراً، لصالح الخروج بنسبة 72 في المائة. وفي الشمال رفضت هارتليبول البقاء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 69 في المائة، علما بأنها لم تستقبل من المهاجرين سوى 113 شخصاً فقط.
خسارة كاميرون وتقدّم جونسون
لا شك أن تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد، وخسارة معسكر "البقاء" الذي تزعمه كاميرون، ثم إعلان هذا الأخير الاستقالة خلال المؤتمر العام لحزب المحافظين في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، فتح أبواب المنافسة داخل حزب المحافظين، على قيادة الحزب، ورئاسة الوزراء. ويبدو عمدة لندن السابق، بوريس جونسون، الذي عارض كاميرون، وتزعم حملة "الخروج"، المرشح الأقوى لخلافة كاميرون. وتُرجح الأوساط السياسية أن يُسارع جونسون ومعه وزير العدل مايكل غوف، ووزير العمل المُستقيل من حكومة كاميرون، إيان دنكن سميث، إلى تشكيل تيار ضغط للإطاحة بحلفاء كاميرون في الحزب، وفي مقدمتهم وزير الخزانة، جورج أوزبورن، أحد الطامحين لرئاسة الوزراء بعد كاميرون، وكذلك وزيرة الداخلية، تيريزا ماي، التي لا تخفي طموحها في رئاسة الحكومة. وحتى انعقاد المؤتمر العام للمحافظين، ستشهد صفوف الحزب، اصطفافات جديدة على خلفية الانتصار الذي حققه مؤيدو الخروج من الاتحاد الأوروبي، بمن فيهم 5 وزراء في الحكومة الحالية، وحوالي 172 نائباً من الحزب في مجلس العموم.
ويبدو بوريس جونسون منتصراً في معركة الزعامة داخل حزب المحافظين حتى قبل أن تبدأ لأن 60 في المائة تقريباً من أعضاء الحزب قد صوّتوا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، أي أنهم صوّتوا للحملة التي قادها جونسون، في مواجهة معسكر "البقاء" الذي ضم كاميرون وأوزبورن وماي.
أما خارج حزب المحافظين، فكان زعيم حزب العمال المعارض جيريمي كوربين، يعتبر أن البريطانيين أيدوا الخروج من الاتحاد لغضبهم من المعاملة التي تلقوها من الحكومات المتعاقبة. ونبّه كوربين في حديث لتلفزيون "بي.بي.سي" إلى العواقب التي سيسببها خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي على فرص عمل البريطانيين مشيرا إلى أنه يتعين على الحكومة العمل على تقليص هذا الأثر لأقل درجة ممكنة.
فيما كان زعيم حزب الاستقلال نايغل فاراج يقول أن "الاتحاد الأوروبي انتهى، الاتحاد الأوروبي مات". وطالب بتشكيل "حكومة خروج من الاتحاد الأوروبي".
سقوط الدومينو البريطاني
لم تنتظر زعيمة الحزب القومي الإسكتلندي، ورئيسة وزراء إسكتلندا، نيكولا ستورجن طويلاً بعد الإعلان عن النتائج النهائية للاستفتاء البريطاني، حتى صرحت بأنها ترى مستقبل إسكتلندا داخل الاتحاد الأوروبي. وقالت ستورجن في أول رد فعل لها على نتائج الاستفتاء البريطاني، إنها تعتزم استكشاف كل الوسائل الممكنة للحفاظ على مكان إسكتلندا في الاتحاد، وأن خيار استفتاء ثانٍ حول استقلال إسكتلندا عن المملكة المتحدة بات على الطاولة.
وقد تُسارع ستورجن إلى "الاستفتاء الثاني" مدفوعة بتعبير أغلبية الإسكتلنديين عن تأييدهم للبقاء في الاتحاد الأوروبي، خلافاً لما قرره المصوّتون في إنجلترا وويلز. ومن المتوقع أن تدعم دول الاتحاد الأوروبي استقلال إسكتلندا، على خلاف الموقف في الاستفتاء السابق. ويرى مراقبون أن الاتحاد الأوروبي قد يتخذ هذا الموقف لاعتبارين، أولاً الرغبة في ضم إسكتلندا المستقلة للاتحاد تعويضاً عن خروج بريطانيا، وثانياً من باب الضغط لدفع إنجلترا لإعادة النظر في موقفها والتفكير في العودة للاتحاد.
وعلى الرغم من المواقف التي عبّرت عنها زعيمة الحزب القومي الإسكتلندي أمس، إلا أن من المستبعد أن تسارع إسكتلندا في خطوات استفتاء جديد، قبل انتهاء مفاوضات الانفصال بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، من جهة، وقبل ضمان دعم شعبي واضح من أجل الاستقلال، يتجاوز الـ55 بالمائة من الشعب الإسكتلندي، كما قالت ستورجن. وكان الإسكتلنديون رفضوا الاستقلال في استفتاء عام 2014 بنسبة 55 إلى 44 في المائة. ولا شك أن نتيجة استفتاء الأمس سوف تدعم رؤية الحزب القومي الإسكتلندي الذي يسيطر في الانتخابات العامة التي أجريت بشهر مايو/ أيار 2015 على 56 من جملة 59 مقعداً لإسكتلندا في مجلس العموم البريطاني.
كما يخشى سياسيون أمثال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق جون ميجر، وخليفته توني بلير، من أن يُؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم انفصال إسكتلندا، إلى تقسيم المملكة المتحدة، وعودة التوتر والنزعة الانفصالية لإيرلندا الشمالية حيث الكاثوليك القوميون يسعون لضم الإقليم لجمهورية أيرلندا، في حين يرغب خصومهم من البروتستانت في البقاء ضمن المملكة المتحدة. وبالفعل، فقد دعا حزب "الشين فين"، الواجهة السياسية للجيش الجمهوري الأيرلندي صباح الجمعة، إلى استفتاء على أيرلندا موحدة بعد تصويت البريطانيين لمصلحة الخروج من الاتحاد. وأكد الحزب أن الاستفتاء على عضوية الاتحاد "له عواقب هائلة على طبيعة الدولة البريطانية"، بعد أن صوّتت إسكتلندا وأيرلندا الشمالية على بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد. فيما رفضت رئيسة وزراء أيرلندا الشمالية أرلين فوستر إجراء استفتاء على الوحدة الأيرلندية، ووصفتها بأنها دعوة "انتهازية".