حدّد رئيس مجلس النواب اللبناني، ورئيس "حركة أمل"، نبيه بري، سقفاً سياسياً مُرتفعاً للأزمة الحادة بينه وبين وزير الخارجية، ورئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل، على خلفية التسريبات الصادرة عن باسيل، والتي يسمي فيها بري بـ"البلطجي"، ويتوعده بـ"كسر رأسه".
أزمة شخصية ــ سياسية باتت أقرب إلى أن تكون طائفية، مع اصطفاف الشارعين الشيعي والمسيحي كل منهما خلف بري وباسيل في هذا الاشتباك، مثلما هي العادة في لبنان، في كل مرة تحصل أزمة سياسية سرعان ما تتحول إلى مذهبية طائفية. واشترط بري استقالة باسيل من الحكومة، بينما تمسك الأخير برفض الاعتذار، مكتفياً بـ"التأسف"، في حين ظهر موقف الرئيس ميشال عون، العراب السياسي لباسيل ووالد زوجته في الوقت ذاته، كمحاولة لاتخاذ موقف الحكم المترفع عن الأزمة. وقال عون، في بيان أمس الثلاثاء، هو الأول تعليقاً على الأزمة، إن "ما حصل أمس (الإثنين) هو خطأ بني على خطأ". ويمكن تفسير العبارة بطريقتين اثنتين: فإذا كان عون يقصد بعبارة "ما حصل أمس" هو تحركات الشارع المؤيد لبري حرقاً للإطارات ونزعاً لصور عون من الشوارع والهجوم على مقرات "التيار الوطني الحر"، يكون المقصود من الخطأين هو التحرك بهذا الشكل في الشارع وخطأ كلام جبران باسيل عن بري. أما إن كان المقصود بـ"ما حصل أمس" هو تسريب فيديو باسيل، فيكون المقصود من الخطأ الأول هو تمسك بري بحق توقيع وزير المال (من حصته الطائفية ــ السياسية) على مرسوم حكومي يتعلق بترقيات ضباط الجيش تعود إلى العام 1994.
لكن تحييد الشارع وموعد الانتخابات النيابية، الذي توافق بري وباسيل مع آخرين على تأجيله منذ العام 2013 وحتى اليوم، لن يُقلل من حدة المعركة التي ترقى إلى حد محاولة إلغاء باسيل سياسياً، بعد مهاجمته رئيس مجلس النواب. وسبقت حرب الإلغاء هذه الكثير من الاحتكاكات الشخصية بين باسيل وبين عدد من وزراء ونواب "حركة أمل"، تحت عنوان "انتزاع حقوق المسيحيين"، كامتداد للخلاف السياسي التاريخي بين عون وبري. وفي مقابل التصعيد السياسي الذي تبناه بري مع دعوة كتلته البرلمانية لاستقالة وزير الخارجية، أبدى رئيس البرلمان حرصه على "الاستقرار وعلى الانتخابات وعلى وحدة لبنان واللبنانيين"، بعد لقاء الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، الذي يزور لبنان، وهو ما يؤسس لمرحلة سياسية مُعقّدة في البلد حتى موعد الانتخابات النيابية في الأسبوع الأول من مايو/أيار المقبل. واجتمع الفريقان على طاولة رئيس الحكومة، سعد الحريري، عبر ممثلين لهما في أول حكومات عهد الرئيس ميشال عون، الذي ساعده بري في أداء قسم اليمين بعد أن وافق على مضض في المضي بالتسوية التي عقدها الحريري مع عون، وأدت لانتخاب الثاني رئيساً مُقابل عودة الأول إلى موقع رئاسة الحكومة.
وخلال عام وشهر من عمر العهد الجديد، اشتبك الطرفان سياسياً وتقنياً، ولكن دوماً تحت سقف وساطات وتدخلات مسؤولي "حزب الله" الذين يلعبون دور "الأخ الأكبر" بين حلفائهم المختلفين. لكن تتابع الخلافات وتشابكها، ثم كلام باسيل عن بري في التسجيل المصور، عقّد الموقف بين بري من جهة وبين رئيس الجمهورية وباسيل أيضاً. واليوم يُشكّل العهد الجديد، بحكومته وبرئاسته الأولى، هدفاً سياسياً واضحاً وسهلاً لبري، بما يضمن له رداً مناسباً وشاملاً على باسيل، الذي رفض الاعتذار حتى قبل دعوته إلى الاستقالة. وتتفاوت التقديرات السياسية في لبنان لخطوات بري بين تأليب الشارع ضد العهد، من خلال النقابات المؤيدة له في الشارع مثلاً، أو عبر الاستقالة من الحكومة، وهو ما يفتح المجال أمام تحولها إلى حكومة تصريف أعمال حتى موعد الانتخابات. ومن ثم استكمال الخلاف عند تشكيل الحكومة بعد الانتخابات، والتي يبدو أنها - وإن وُلدت - ستكون مُكبّلة بحجم هذه الخلافات. وإن منح احتجاج أنصار بري ليل الإثنين في منطقة المتن الشمالي (ذات الغالبية المسيحية الساحقة) أفضلية طفيفة في الكباش الدائر لصالح باسيل الذي نال تعاطفاً نوعاً ما من عدد كبير من المسيحيين، فإنه لم يُلغ اصطفاف "حزب الله" إلى جانب بري ببيان واضح.
اصطفاف سياسي انتخابي
ومع اقتراب موعد الانتخابات وحاجة مُختلف القوى لبحث التعاون الانتخابي فيما بينها، تُشكّل الأزمة الحالية مدخلاً لتثبيت بعض التفاهمات القائمة وبحث أُخرى جديدة. وقرر رئيس "حزب القوات اللبنانية"، سمير جعجع مثلاً الاصطفاف إلى جانب "التيار الوطني الحر"، شأنه شأن الحريري، الذي وقف جنباً إلى جنب مع رئيس الجمهورية في مُختلف محطات الخلاف بين عون وبري. بينما وجد رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، النائب وليد جنبلاط، نفسه أقرب سياسياً إلى بري، ومعه "تيار المردة" الحليف اللدود لـ"الوطني الحر". ولا تزال تسود خشية كبيرة في لبنان من فداحة ثمن لجوء القوى السياسية إلى خيار الشارع، وصعوبة العيش في قلق اقتصادي وأمني دائم، وبما يذكر بأجواء الحرب الأهلية.