يرى المستعرب الصيني شوي تشينغ قوه، المعروف باسم بسّام، أن "التبادل الثقافي بين العرب والصين طالما كان محدوداً، بما في ذلك عصور طريق الحرير، لأن العلاقات كانت تجارية أساساً، وهذا استمرّ إلى اليوم.
غير أن حركة التبادل هذه تنامت خلال العشرين سنة الأخيرة بسبب توفّر المادة، إذ أصبح باستطاعة الصين الإنفاق لدعوة فرق الرقص والغناء العربية وإقامة المعارض الفنية، لكن هذا يبقى سطحياً، فنحن كي نعرف العرب أكثر علينا أن نقرأ ماذا يكتب العرب، وهذا ما زال محدوداً حتى الآن. رغم أن هناك اهتماماً كبيراً في المنطقة العربية فإن هذا الاهتمام يصبّ في المواضيع والنقاط الساخنة، هذا مهمّ بلا شك، ولكن لا بدّ من الاطّلاع على الفكر والأدب العربيين ومعرفتهما عن قرب".
يتحدّث بسّام في حديثه مع "العربي الجديد" عن ضرورة التعرّف بصورة أوسع إلى الفكر العربي المعاصر، ويقول إنه غالباً حينما يسأل حتى الباحثين الصينيين ماذا يعرفون في هذا الشأن، يذكرون له أسماء مثل سيد قطب وحسن البنّا، في حين أن هناك عدّة مدارس فكرية مهمّة أخرى، ومفكّرين بارزين مثل الجابري، وأركون، ومالك بن نبي، وهشام جعيط، وحسن حنفي، وغيرهم.
يرى أن العديد من المسلمين في الصين تقتصر معرفتهم بالثقافة العربية الإسلامية على بعض الرموز الدينية، وفي أفضل الأحوال تنحصر في رموز فكرية قليلة أخرى. لذلك يعتقد أنه من الضروري أن يتعرّف المسلمون الصينيون على الفكر المستنير في العالم العربي. حيث يُلاحظ وجود اهتمام بالجانب الديني وعدم الاهتمام بالفكر، ولهذا يظنّ أن من الخطأ أن يعبّر رمز معين للتفكير الديني عن الثقافة الإسلامية أو العربية، خاصة أن هذه الرموز أثبتت فشلها.
وعن أسباب اختياره العمل في مجال التبادل الثقافي الصيني العربي، يقول بسّام: "رسالتي هي تعزيز المعرفة المتبادلة بين الجانبين، وتشييد جسر بين الثقافتين، وتكوين معرفة شاملة وعميقة وموضوعية بين الصينيين والعرب.
قالت لي شاعرة في ندوة مؤخراً: "كنا نعتبر الشعر العربي شعراً هامشياً، لكننا نكتشف مع هذه الترجمات الجديدة قيمة عالية للشعر العربي". أنا أكثر ميلاً إلى الموضوعات الثقافية والأدبية، ومعرفة الثقافة والأدب أمر مهمّ بالنسبة لكلّ من يمارس السياسة، لأن السياسة تتحرّك في مجال الثقافة، والتعرّف على الأدب العربي يفيد في فهم المجتمع العربي وجذور مشاكله وقضاياه، كما يساعد في وضع السياسة الخارجية تجاه العالم العربي.
معرفة الثقافة والأدب العربي تساعدني أن أعرف نفسية وعقلية العرب وأسلوب تفكيرهم، وتساعدني على معرفة الأساليب اللغوية التي تعوّد عليها العرب وتلك المناسبة لهم، وحتى خطابي في وسائل الإعلام هو خطاب يختلف عن الخطاب الإعلامي الرسمي، لأنه يستند دائماً إلى معرفة بالثقافة العربية".
بدأت مسيرة بسّام في ترجمة الأدب العربي مع جبران، ثم نجيب محفوظ، وحكايات ألف ليلة وليلة، وقصائد متفرقة لبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وأمل دنقل وغيرهم.
وحول انتشار ترجمة الشعراء والأدباء العرب الذين كتبوا بلغات أجنبية أو حقّقوا شهرة في الغرب يعتقد بسّام أن اهتمام مدرسة الاستعراب في الصين اعتمد على ما هو رائج في "السوق" إلى حدّ كبير، لأن المترجم محكوم أيضاً بطلبات دار النشر وتفكيرها في الربح، إذا ما استُثنيت المشاريع التي تدعمها الدولة وهي قليلة. لذلك تُترجم أعمال الشعراء الذين يملكون شهرة لا بأس بها، ولا بدّ، بالطبع، من إقناع دار النشر بقيمة العمل وبهامش الربح المتوقّع.
يقول بسّام إنه أراد في ما اختاره للترجمة الشعرية أن ينقل قصائد تعبّر عن مراحل مختلفة من تجربة الشاعر، مثل تطوّر تجربة محمود درويش على سبيل المثال. "أعتقد أن اختياري كان موفّقاً لأنه يعطي صورة شاملة عن مسيرة الشعراء، بأساليب ومواضيع وتجارب مختلفة".
وبخصوص ترجمته أعمالاً للشاعرين أدونيس ومحمود درويش، فيرى بسّام أن هناك قيمة متفرّدة لكل منهما، حيث يمثّلان أسلوباً جديداً لديه خصوصيته بالنسبة للصينيين، ومن الأسباب التي أنجحت أدونيس خصوصية لغته ومفرداته التي تدور حول أصل الوجود كالشمس والقمر والريح والماء، فهو لا يتحدّث عن تفاصيل الحياة، بل عن أصل الوجود، النور والظلام. يحكي بسّام أن هذه مفاهيم قريبة من مقاربات وفهم الصينيين لأصل الخلق، كما أن أدونيس كان لديه تجديد في القصيدة فكل مجموعة من الأبيات يمكن أن تؤخذ بشكل مستقل: "كل ذلك إلى جانب الأفكار الكونية والإنسانية التي تعجّ بها أشعار أدونيس، والتي يتقبّلها أيّ إنسان.
من جهة أخرى، انتقد أدونيس كثيراً السلبيات في الثقافة والسياسة العربيتين، لكن في نفس الوقت كان لقصائده خصوصية شرقية، تشمل كل الثقافات الشرقية التقليدية، وهناك كثير من قرّاء أدونيس هنا شعروا بأن انتقادات أدونيس تتحدّث عنهم، رأوا أنفسهم في أشعاره ورأوا فيها صورة المجتمع الصيني.
قال لي شاعر صيني: "بعد أن قرأت أدونيس ازداد احترامي للثقافة العربية، فهي ثقافة ما زالت قادرة على نقد ذاتها من الداخل، والنقد الآتي من الداخل لا من الخارج هو رمز الحيوية، في حين إن التمجيد يعني الركود والموت". إلى جانب ما سبق فإن شعر أدونيس مليء بالمفاهيم الفلسفية".
طالما كانت الترجمة من اللغة العربية مصحوبة بصعوبات كثيرة يتشاركها معظم المترجمين على اختلاف لغاتهم الأمّ، وحول النقل إلى الصينية يتّفق بسّام على وجود مشاكل عامّة يواجهها كلّ مترجم، لكنه يرى أن ثمة مشاكل تخصّ شعراء معيّنين، خاصّة في ما يتعلّق بالإيقاع والموسيقى الشعرية، وهو نفسه أحياناً يتراجع عن ترجمة العديد من القصائد لأن نقلها إلى الصينية يفقدها جمالها الإيقاعي.
يوضح لـ"العربي الجديد": "هناك خصوصية في اللغة العربية، وهي أنّ تكوين الجملة فيها يعاكس تكوينها في الصينية، فقد يكون معنى البيت الشعري بالعربية في آخر الجملة، لكن الضرورة اللغوية في الجملة الصينية تحتّم عليك أن تقلب الجملة، وهو ما يُفقد القصيدة عنصر المفاجأة أحياناً.
الصعوبة الأخرى، هي ثراء الصورة الشعرية والكناية في الشعر العربي، وهو ما يجعلنا في حاجة إلى وضع هوامش، لكن كثرتها بالتأكيد يُثقل على القارئ ويُفسد متعة القراءة. لذلك أحرص في ترجمة الأدب العربي على استعمال لغة صينية شبيهة باللغة التي كُتب بها النص الأصلي، مثلاً حينما ترجمت "حديقة النبي" لجبران، قمت بقراءة الترجمات الصينية للإنجيل لأستلهم أسلوباً لغوياً قريباً من الروح التي كتب بها جبران.
كما أستلهم من إيقاع اللغة الشعرية ومرونة الجملة في القصيدة الصينية صياغات غنية في ترجمة الشعر العربي، وأحرص على تفعيل خصائص اللغة الصينية ومميزاتها أثناء عملية الترجمة، ليكون النص المترجم أكثر أصالة".
يستعيد بسّام أطيافاً تاريخية من علاقة الصينيين والعرب: "قبل مئة عام كان شكيب أرسلان يتحدّث بتعاطف وشفقة عن الصين، لكن الصين تغيّرت كثيراً خلال العقود الأخيرة. في المقابل ظلّ العالم العربي كما هو، وأحياناً يتراءى لي أنه يعود إلى الوراء.
هناك بعض الرحالة الصينيين الذين زاروا مصر في ثلاثينيات القرن الماضي، مثل العالم المسلم "ماده شين"، تحدّث عن مصر بإعجاب وانبهار، وثمّن العديد من الأشياء والنواحي في المجتمع والدولة المصرية، ولكن للأسف الوضع الآن في مصر وفي العالم العربي ليس على ما يرام، والصورة انعكست الآن، فالصين تعيش تقدّماً مستمراً، بينما الوضع في العالم العربي يدعو إلى القلق".
ويرى بسام أن نظرة العرب إلى الصين "بصفة عامة، إيجابية دائماً، وهناك أسباب كثيرة وراء تشكّل هذه النظرة، أوّلها أن العرب والصينيين يشتركان في الانتماء إلى حضارات عريقة، ثم إنه، سواء في الماضي أو الحاضر، طالما ارتبطت الصين مع العرب بعلاقات صداقة، ولم تسعَ للتمدد أو الاستعمار.
كما أن موقف الصين من القضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية كان دائماً أقرب إلى الموقف العربي. يُضاف إلى ذلك إعجاب العرب بالنهضة الصينية، وتطلّعهم إلى تحقيق نهضة مشابهة. أخيراً، هناك الحديث النبوي الذي يقول: "اطلبوا العلم ولو في الصين"، وله بلا ريب تأثير في نفوس المسلمين، حيث يقدّم الحديث الشريف الصين في صورة بلدٍ منتج للعلم".
وعن نظرة الصينيين إلى العرب والثقافة العربية يقول بسّام: "عموماً لا يعرفُ الصينيون اليوم الثقافة العربية، ولديهم أفكار نمطية عن العرب.
وبالرغم من أن المثقّفين يعرفون أن العرب يمثّلون أمة عريقة، إلا أنهم لا يفهمون أسباب الاقتتال والانقسام المستمرّ في ما بينهم، ولا يفهمون سبب تشبّثهم الكبير بالماضي والرغبة في الإبقاء عليه كما هو. لكنهم، في المقابل، لا يعرفون أن العالم العربي متنوع ويحتوي على تيّارات فكرية وثقافية مختلفة، وهنا تكمن قيمة جهود الترجمة".
ويشير بسام إلى مفارقة في نظرة الصينين إلى اللغة العربية: "يعتقد الكثير من الصينيين أن اللغة العربية هي "لغة صغيرة" أو ثانوية، وهذا خطأ كبير، لأن هذه اللغة هي إحدى لغات الأمم المتحدة الستّ، يتحدّثها قرابة 400 مليون شخص، إلى جانب انتشارها الواسع لأسباب دينية.
لكن مع ذلك ما زال المتخصّصون بالدراسات اللغوية والأدبية والثقافية يعتقدون أنها لغة صغيرة، لذا فإن عدد المهتمّين بدراسة وترجمة الأدب العربي في الصين ما يزال قليلاً، وهذا لا يواكب أهمية الثقافة والأدب العربي الحديث. شخصياً، بعد أن مارست ترجمة ودراسة الأدب العربي منذ سنوات، أشعر بفخر لأنني أسهمت ولو بالقليل في نشر الأدب العربي في الصين".