حينما هرعتُ إلى باب المكتبة البريطانية في لندن، استقبلتني فتاة جميلة المحيا وكأنني أعرفها. ظننت للوهلة الأولى أنها خارجة من كتاب في الطفولة، وكان حدسي في محلّه، إنها أليس.. من غيرها التي أخذتني في رحلة حُلم في "بلاد عجائب" هذه المكتبة التي بالمصادفة تحتفي بمرور 25 عاماً على إنشائها في منطقة سانت بانكراس، وأيضاً بمناسبة مرور 150 عاماً على صدور رواية "أليس في بلاد العجائب" (1865)، لكاتب الأطفال الإنجليزي لويس كارول (1832 - 1898).
أول ما تقع عليه عيناك في هذه المكتبة، هو معمارية الكتب التي تبدو كنوافذ مفتوحة تحكي إطلالة الإنسان على المعرفة.. طوابق عالية من الكتب متعدّدة الألوان والإضاءة، بل والعتمة أيضاً، رُصّت بكل أناقة، علّك "تطّلع على الأسباب"..
لكن أليس أخذتني إلى جناحها؛ حيث أبطال حكايتها ومتعلّقاتها معروضة كهدايا وتحف مختلفة الأشكال والألوان، ليس ابتداءً من الكتب، وليس انتهاءً بمخدة النوم التي تغفو عليها "أليس في بلاد العجائب". فما كان مني إلّا أن اقتنيت نسخة شعبية ملوّنة للحكاية كهدية لها في عيد ميلادها.
وحين رأت أليس وقوفي الطويل أمام عمارة الكتب، فطنت لدهشتي وولعي؛ فشدّتني من ذراعي إلى مغارة زمن الكتب، عائدة بي إلى 2000 سنة قبل الميلاد، لأشاهد، مأخوذاً، كتباً ومخطوطات بكل اللغات المعروفة وكأنها "مكتبة بابل" البورخيسية؛ حيث تحتوي على نحو 14 مليون كتاب ومخطوطة ورقية ورقمية في الأدب والموسيقى والشعر والرسم والنصوص المقدسة.. إلخ.
هنا، عثرتُ على كتابات بخط اليد لمسوّدات قصائد ويستن هيو أودن (1907 - 1973)، وأوسكار وايلد (1854 ـ 1900) مثلاً، إضافة إلى مسوّدات لقصص وروايات تشارلز ديكنز (1812 - 1870)، وتوماس هاردي (1840 -1928)، وغيرهم.
أما في تاريخ الموسيقى، فتضم المكتبة نوتات تمتد لأكثر من ألف عام من الترانيم والأناشيد والأغاني، وصولاً إلى أغاني البوب والجاز والروك، فضلاً عن أعمال عظماء الموسيقى الكلاسيكية، كـ موزارت وباخ وشوبان وهاندل وغيرهم؛ حيث يمكنك، في الوقت نفسه، أن تستمع إلى تسجيل صوتي لهذه الأعمال قبل أن يطلب منك أحد الزوار، مثلاً، مغادرة الموسيقى.
أما في زاوية تاريخ الكتابة، فأخذتني أليس إلى الصين، حيث عثرنا على كتابات تعود إلى 13 ألف سنة وعظام نخرة لكتابة عمرها ثلاثة آلاف سنة، ولفائف حرير تعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، فضلاً عن كتابات محفورة على الخشب تعود إلى 500 سنة قبل الميلاد، إضافة إلى زاوية لتاريخ الطباعة في الشرق وأوروبا، حيث كانت تنتظرني في البهو مطبعة قديمة تقابلها آلاف من نماذج الطوابع البريدية وتاريخها في إنجلترا والتي يعود أقدمها إلى عام 1891م.
أما المدهش في هذه الرحلة، فهي حقاً النصوص المقدّسة من التوراة والإنجيل والقرآن الكريم والبوذية والهندوسية؛ إذ ترى رأي العين كيف خُطّت هذه النصوص بكل محبة وجمال، تُبرزها حرفية الغاوي المسحور بروح النص المقدس مع صور آخّاذة للرحلة الروحية، وصولاً إلى "النيرفانا"، أو إلى الإيمان بوحدة الوجود.
رأيت، وودت لو بالكاد قلّبت بطرف إصبعي، ورقة من هذه النصوص - لم يسمح لنا حتى بالتصوير، فكيف باللمس تحديداً في هذه القاعة. رأيت مخطوطة للعهد القديم تعود إلى منتصف القرن الرابع من المحتمل أنها خُطّت في فلسطين، كما يشير الشرح، وبجانبها أقدم مخطوطة مكتملة للعهد الجديد، ومخطوط للكتاب المقدس باللغة الإغريقية، ومخطوطات مضيئة بـ Breath Of God، تأخذ بمجامع قلبك ولبّك.
أما في زاوية الذي وُصف بـ"إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة"؛ فتأملت ثلاث مخطوطات للقرآن الكريم، عراقية ومصرية ومغربية، إضافة إلى شرح مُقتضب لرحلة نزول القرآن بآية "اقرأ"؛ جمعه زيد بن ثابت، ودُوّن في عهد عثمان بن عفان.
في النسخة العراقية، هناك كتابة بالخط الكوفي تعود إلى القرن التاسع الميلادي لآيات من سورتي العنكبوت ولقمان، لم يُشر إلى اسم الخطّاط أو الناسخ. أما النسخة المصرية التي كتبت بماء الذهب لمصحف كامل كبير الحجم كان مفتوحاً على سورة الواقعة، فتعود إلى عام 1304م (704هـ)، في عهد الظاهر بيبرس، نسخها الخطاط محمد بن الوليد وزيّنها محمد بن مبادر.
في حين تعود النسخة المغربية، التي بدا فيها التنقيط واضحاً مقارنة بالنسختين السابقتين، فقد كتبت في عام 1568م (975هـ)، في عهد السلطان الشريف، بالخط المغربي لسورتي الحج والمؤمنون، من دون إشارة إلى اسم الناسخ. لكن الشرح يشير إلى أن هذا النمط من الكتابة كان مستخدماً في شمال أفريقيا والأندلس.
أعدت الدوران أكثر من مرة حول نفائس الحروف وسر الخلود، إلى أن ألفيتني في البهو أبحث عن أليس، لكن دون جدوى. على ما يبدو أنها عادت إلى جُحر الأرنب بعد أن ضيّعتني صغيراً وتوّهتني كبيراً في أروقة المكتبة البريطانية؛ أتأمل بإجلال كبير، وبمحبة طاغية، هذا الذي اسمه كتاب.
اقرأ أيضاً: حالم مُرعب بجهنم