ألهمت لوحة "الغداء على العشب" التي رسمها الفرنسي إدوارد مانيه ما بين 1862 و1863، عدّة فنانين من بينهم مونيه وتيسو وسيزان، كما قيل أنه أيضاً استلهمها بدوره من أعمال سابقة لفنانين من بينهم رافييل وغوغان، واليوم، يعود إليها الفنان السوري بطرس المعري، ويقتبس منها عدّة تفاصيل في بعض الأعمال التي يضمّها معرضه الذي افتتح الخميس الماضي في غاليري "أوروبيا" في باريس.
وجوه متعدّدة للمعري يكشفها معرض "قهوة"، الذي يتواصل حتى الثلاثين من الشهر الجاري، ومرجعيات بصرية من الفنون الشعبية والشرقية التقليدية، مثل المنمنمات إلى جانب الفن الغربي الحديث، يضاف إلى ذلك تعدّد لوني وأسلوبي يظهر في قرابة عشرين لوحة.
يبدو "قهوة" كما لو كان استراحة من العنف والغضب، يقول الفنان في تقديم مجموعة لوحاته الجديدة: "الطفل الذي فقد أمه بحاجة إلى كرة يلعب بها قرب بيته المتهدّم، والمرأة التي فقدت زوجاً بحاجة لفنجان قهوة وأنيس تروي له قصّتها والدخان الأسود يلبد السماء فوقها، كما أن الشيخ بحاجة إلى استحضار ذكرياته حينما كان يأخذ عائلته، التي فقد أحد شبابها، في سيران تقليدي إلى الغوطة".
في إحدى اللوحات المستلهمة من عمل مانيه، تظهر المرأة وهي تحدّق في الناظر إلى اللوحة، كل شيء حولها يبدو ذائباً كما لو كان ذكرى بعيدة في رأس الشيخ، الذي نراه في اللوحة يغمض عينيه مستسلماً لنسمة عليلة دخلت من الماضي، حين كان اللهو والنزهات أموراً عادية تتكرّر في العطلات ونهايات الأسبوع.
نتعرّف على المعري بشكل جديد في هذا المعرض، إنه يتخلّى عن سخريته المعهودة، ويقترب أكثر من مكان آخر، يجرّب مع مانيه ثم يجرّب في مزاوجة الرسم بالقصيدة؛ ثمّة عدّة لوحات اشتغل فيها على قصائد ونصوص للشاعرين محمد الماغوط ومحمود درويش والقاصّ زكريا تامر.
يقول الفنان إن الأعمال قد تدخل البهجة إلى نفوس الزائرين، وربّما لا يمكننا أن نتفّق معه بالكامل في أمر البهجة، فالأعمال حتى تلك التي تقدّم المرأة والطبيعة الصامتة خلف الجسد الجميل والعاري، لم يتركها المعري من دون حزن، حيث كل شيء يشي بأن الجمال ينتمي إلى عالم ليس أرضياً، فيه ملاك يطير فوق رأس امرأة تقطف الورد من حقل ليلكي، عازفاً على الناي.
ثمّة عدّة أعمال عُري في المعرض، تبدو كما لو أنّها استراحة العين وهروبها من مرأى الجسد المقتول والجريح والمبتور والمتألم والمحجوب والأسير، وتأكيد على ضرورة استدعاء الجسد الجميل والحيّ والحرّ، كما لو أنّ في الفنّ ردّاً من قوة الحياة على قسوة الموت.
يعدّد المعري في أحجام اللوحات، ثمة أعمال عادية ومتوسّطة، وأخرى كبيرة نسبياً أطلق عليها "المعلّقات"، من بينها عمل عن القدس، والذي يوظف فيه الفنان عدّة تفاصيل تعرفها مخيلة شاهدت المنمنمات ورسومات القصص الشعبية والحكايات الغرائبية. ثمّة كائن طائر جسده حصان ورأسه لامرأة وذيله ذيل طاووس، يُحلّق كما لو كان خارجاً من منمنمة قديمة بألوان كلّها حيوية، ثمة فارس على حصان وملاك طائر وغيوم وقصيدة لنزار قباني، واستعادة لأغنية "مدينة الصلاة" لفيروز.
يترك المعري أعماله بلا تأطير، فسرعان ما تتحوّل إلى قطعة من المحيط حولها. يرسم بتقنيات مختلفة وفي مواضيع متعدّدة، مرّة يستخدم تقنية المونوتيب، ويرسم بالأكريليك مرّة أخرى، كما أنّ هناك أعمالاً منفّذة بطريقة الكولاج أيضاً.
لا ينسى الفنان شخصيته المعهودة، والتي تحضر من خلال عمل واحد حيث الرجل بلباسه التقليدي تحوّل إلى كائن بجناحين وطار بين الكواكب، في لوحة تذكّرنا بأجواء أعمال شاغال وشخصياته المجنّحة، وحتى بشكل الطيران ووضعية الشخصية على مساحة اللوحة، بل وألوان شاغال أيضاً الحاضرة في بعض أعمال المعري.
يختم الفنان تقديمه لمعرضه قائلاً: في المرة الماضية قلنا من هنا، من هذه الصالة: "أوقفوا الحرب" (عنوان معرض الفنان في 2015)، "ولكن أحداً لم يسمع. فالجميع مؤمنون بمشروعهم، ماضون وما بدّلوا تبديلا... لنشرب القهوة إذن، وإن كان في هذا خيانة".