20 نوفمبر 2024
بعد الرحيل
كلّما أسمع بحالة وفاة، أهرع إلى بيت العزاء المخصَّص للنساء؛ فأُقدم التعازي لقرابة المتوفَّى منهن، ثم أنزوي في ركن بعيد، وأختفي بين النساء المتَّشحات بالسواد؛ لكي أبكي. هذا المكان الذي لو بكيت فيه لن يسألك أحد لماذا تبكي؟ أفعل ذلك بالتحديد، منذ عشر سنوات، منذ وفاة أمّي، رحمها الله.
لم أكن قبل وفاتها أعرف أن الحزن يمتصّ الروح، وأن الفقدان ليس موت شخص، بل هو يميت كلّ يوم فيك شيئًا، ولم أكن أعرف أن الحياة قاسية؛ لأنها تستمرّ بعد رحيلهم، بالرّتابة نفسها، ويمارسها الآخرون بالحماسة نفسها، فحزنك لا يخصّ أحدًا سواك.
توقفت أمّي عن كلّ شيء كنت أحبُّه، وأودعتني إياه في قلبي، ورحلت. ولا أُخفي عليكم أنني، منذ رحيلها، أبكي كلَّ أم أَسمع برحيلها، وبعد رحيل أبي كنت أبكي كلَّ أبٍ عرفته، أو لم أعرفه، ولكني أتخيّل الأبناء والبنات، وكيف يجدون أنفسهم بدون أمّهات وآباء، مثلما وجدت نفسي بلا قلبٍ حنون، ولا ملاذ أخير، بعد رحيلهما.
بعد رحيلهما، توقفت عن عادةٍ، كادت تقتلني، أكثر من مرّة، وأيقنت أنك يجب ألا تموت إلا من أجلهما، وهي أنني كنت أتدلّى من درج البناية مرحّبة، حين كانت أمي تصعد الدرج، صوب باب بيتي، وكذلك يفعل أبي. أمي تصعد، وصوت لهاث صدرها يعلو؛ بسبب مرض الرَّبْو الذي كانت تعانيه. وعلى الرغم من ذلك تقسم عليّ ألا أُتعب نفسي، ولا أهبط الدرج؛ لكي أساعدها على الصعود. أما أبي فكانت ابتسامته تسبقه، وخصوصا يوم العيد، حين يهتف بي وهو يقول: يا بنتي، سوف تقعين، وأنت تتدلّين بنصف جسدك، من قائم الدرج، تذكّري أن رأس الإنسان أثقل من جسمه.
في حياتنا أعزّاء وأحبة صبغوا أيامنا بذكريات، ولوَّنوا حياتنا ببهجة وأمان. يرحل الأب وترحل الأم، ولكنهما يبقيان في دواخلنا، مع كلّ ِتنهيدة، خصوصا حين يصيح بنا مَن حولنا: ماذا دهاك؟ امتلأ رأسك شيبًا وتبكي رحيل أُمك وأبيك! فتقرِّر أن تسكت وتصمت. ولكنك تختار، بعد ذلك الزوايا المظلمة، والأركان الهادئة، وتستغل انشغال الآخرين؛ فتقلِّب أُلبوم الصور، وبمجرّد أن تسمع وقع أقدام أحد تخفيه، وتضع صورًا صغيرة لهما من تلك التي تلتقط للأوراق الثبوتية، في حافظة نقودك؛ لكي تطمئن أنك سوف تراهما كثيرًا كلما تفتح الحافظة، ولن يراهما غيرك بالطبع، فلا أمان لذكرياتك أكثر من هذا المكان.
كلما أقع على نعيٍ لأم أو أب على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أضع إشارة حزن من دون نعي. وحين أقرأ نعيًا لأم أو أب يخص صديقا أو صديقة من المقرَّبين مني، تسيل دمعتي. لا أستطيع أن أمنعها، يلتهب جرح قلبي؛ لأني عشت تلك المشاعر، وما زلت، فالحزن لا موعد له لكي يولِّي!
قبل أيام قليلة، رحل ممثل صنع البهجة في كل بيت، وكنت أشعر برابطة ما بينه وبين أبي. حين رأيت حزنه الحقيقي على رحيل ابنته الوحيدة قبله بمرض السرطان، وحين يطلُّ بتلك البذلات القماشية التي يرتديها الكهول في الخريف والربيع، والتي يحيكها خيَّاط عجوز غالباً، وكان الراحل حسن حسني يذكّرني بأبي، حين يطل برأسه الخالي من الشعر، وبذلته تلك في دور الموظف البسيط الذي يعارك الحياة، وخصوصا في أدواره، صاحب مبادئ، أو حتى موظف متواطئ في الفساد؛ لكي يركب الموجة، كما يقولون، أذكر ذلك الخياط في شارع طلعت حرب في القاهرة الذي خاط معظم بذلات أبي، وأتخيل أنه خياط كل الآباء، فللآباء قواسم مشتركة وللأمهات كذلك. وربما كان إبراهيم الكوني محقًّا، في روايته "نزيف الحجر"، حيث تنادي روايته بوحدة الوجود وحلول الله في كل مخلوقاته؛ من جماد وحيوان وإنسان. ولذلك، الآباء والأمهات يتجلّوْن على وجوهنا، في كل لمحةٍ بعد الغياب، ولذلك كلما رحل أحد الآباء، أو رحلت إحدى الأمهات من بعيد، بكيت أنا يا رفاق.
توقفت أمّي عن كلّ شيء كنت أحبُّه، وأودعتني إياه في قلبي، ورحلت. ولا أُخفي عليكم أنني، منذ رحيلها، أبكي كلَّ أم أَسمع برحيلها، وبعد رحيل أبي كنت أبكي كلَّ أبٍ عرفته، أو لم أعرفه، ولكني أتخيّل الأبناء والبنات، وكيف يجدون أنفسهم بدون أمّهات وآباء، مثلما وجدت نفسي بلا قلبٍ حنون، ولا ملاذ أخير، بعد رحيلهما.
بعد رحيلهما، توقفت عن عادةٍ، كادت تقتلني، أكثر من مرّة، وأيقنت أنك يجب ألا تموت إلا من أجلهما، وهي أنني كنت أتدلّى من درج البناية مرحّبة، حين كانت أمي تصعد الدرج، صوب باب بيتي، وكذلك يفعل أبي. أمي تصعد، وصوت لهاث صدرها يعلو؛ بسبب مرض الرَّبْو الذي كانت تعانيه. وعلى الرغم من ذلك تقسم عليّ ألا أُتعب نفسي، ولا أهبط الدرج؛ لكي أساعدها على الصعود. أما أبي فكانت ابتسامته تسبقه، وخصوصا يوم العيد، حين يهتف بي وهو يقول: يا بنتي، سوف تقعين، وأنت تتدلّين بنصف جسدك، من قائم الدرج، تذكّري أن رأس الإنسان أثقل من جسمه.
في حياتنا أعزّاء وأحبة صبغوا أيامنا بذكريات، ولوَّنوا حياتنا ببهجة وأمان. يرحل الأب وترحل الأم، ولكنهما يبقيان في دواخلنا، مع كلّ ِتنهيدة، خصوصا حين يصيح بنا مَن حولنا: ماذا دهاك؟ امتلأ رأسك شيبًا وتبكي رحيل أُمك وأبيك! فتقرِّر أن تسكت وتصمت. ولكنك تختار، بعد ذلك الزوايا المظلمة، والأركان الهادئة، وتستغل انشغال الآخرين؛ فتقلِّب أُلبوم الصور، وبمجرّد أن تسمع وقع أقدام أحد تخفيه، وتضع صورًا صغيرة لهما من تلك التي تلتقط للأوراق الثبوتية، في حافظة نقودك؛ لكي تطمئن أنك سوف تراهما كثيرًا كلما تفتح الحافظة، ولن يراهما غيرك بالطبع، فلا أمان لذكرياتك أكثر من هذا المكان.
كلما أقع على نعيٍ لأم أو أب على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أضع إشارة حزن من دون نعي. وحين أقرأ نعيًا لأم أو أب يخص صديقا أو صديقة من المقرَّبين مني، تسيل دمعتي. لا أستطيع أن أمنعها، يلتهب جرح قلبي؛ لأني عشت تلك المشاعر، وما زلت، فالحزن لا موعد له لكي يولِّي!
قبل أيام قليلة، رحل ممثل صنع البهجة في كل بيت، وكنت أشعر برابطة ما بينه وبين أبي. حين رأيت حزنه الحقيقي على رحيل ابنته الوحيدة قبله بمرض السرطان، وحين يطلُّ بتلك البذلات القماشية التي يرتديها الكهول في الخريف والربيع، والتي يحيكها خيَّاط عجوز غالباً، وكان الراحل حسن حسني يذكّرني بأبي، حين يطل برأسه الخالي من الشعر، وبذلته تلك في دور الموظف البسيط الذي يعارك الحياة، وخصوصا في أدواره، صاحب مبادئ، أو حتى موظف متواطئ في الفساد؛ لكي يركب الموجة، كما يقولون، أذكر ذلك الخياط في شارع طلعت حرب في القاهرة الذي خاط معظم بذلات أبي، وأتخيل أنه خياط كل الآباء، فللآباء قواسم مشتركة وللأمهات كذلك. وربما كان إبراهيم الكوني محقًّا، في روايته "نزيف الحجر"، حيث تنادي روايته بوحدة الوجود وحلول الله في كل مخلوقاته؛ من جماد وحيوان وإنسان. ولذلك، الآباء والأمهات يتجلّوْن على وجوهنا، في كل لمحةٍ بعد الغياب، ولذلك كلما رحل أحد الآباء، أو رحلت إحدى الأمهات من بعيد، بكيت أنا يا رفاق.