27 أكتوبر 2024
بعيداً عن اليمين واليسار
لم يكن مصطلحا السياسة، يمين ويسار، مكتملي التحديد حتى نهايات القرن الثامن عشر، حين جلس أنصار لويس السادس عشر إلى يمين المنصة في الجمعية الوطنية الفرنسية، وجلس أنصار التغيير إلى اليسار. وبعد إعدام الملك لويس في عام 1793، تغيرت وضعية معتنقي اليمين واليسار، وتحولوا إلى ما يشبه "الطبقات" في تعريفٍ قريبٍ من تعاريف كارل ماركس، فاليمين هي طبقة وسطى تبنّت أفكاراً ليبرالية، لتحمي نفسها من طبقة الملاك والصناعيين التي شكَّلَت أرستقراطيي المدن، فيما تجمّع العمال حول مجموعة أفكار اشتراكية، لتشكيل يسارٍ معادل سياسياً لليمين.
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح مفهوما اليمين واليسار أكثر وضوحاً وقابليةً للفهم، وتقسمت المجتمعات الغربية بينهما، على الرغم من وجود أطياف متمايزة ضمن كل تيار، إلا أن الجميع ظل مخلصاً لمرجعه السياسي العام، وكانوا قادرين على إجراء بعض التعديلات لصالح تشكيل حكومة أو فوز بانتخابات.
لم تكن هناك أيديولوجيا صارمة خلف اليمين واليسار. لذلك كانت الأحزاب المشكِّلة للجناحين قادرة على إعادة التموضع في كل مرة، وكان لديها هامش للتحرك، وهي تحاول اللحاق بأكبر عدد من الأصوات، وانبثقت عن التيارين حركات داخلية تتحرّك يمنة ويسرة، تقود التيارين لمواجهة تحديات راهنة ملحّة، اقتصادية وعسكرية. وقد شهد العقد الأول من القرن الحالي بروز "حزب الشاي" داخل الحزب الجمهوري في أميركا، وهو تجمع فظ ذو طبيعة عسكرية، التف حول الرئيس الأسبق جورج بوش الابن الذي بعثر الجيش والبحرية الأميركية ما بين العراق وأفغانستان والصومال. وعلى الرغم من أن تجمع "الشاي" تطرَّف نحو العسكريتاريا، لكنه بقي لوناً من ألوان الطيف الذي ضمه اليمين، ولم ينكر انتماءه الصريح إلى هذا اليمين، وخطه السياسي العام، لكنه سرعان ما خبا بعد زوال مسبّبات حدوثه.
يعرَّف اليمين تقليدياً أنه يضم متدينين وكلاسيكيين ومحافظين وقوميين، وتتركز أفكاره حول الوطنية والتسلسل الوظيفي والتقاليد. أما اليسار فيضم اشتراكيين ومجتمعيين ودعاة بيئة، وركيزة أفكاره شعاراتُ الحرية والمساواة والحقوق العامة. تمتزج كل هذه المكونات والأفكار، وتتفاعل سياسياً، لتشكل الثنائية المعروفة. ولكن مع انقضاء عشر سنوات من القرن الحالي، تحرّك المفاعل الاجتماعي بشدة، وبدأت السياسة تتمرّد على هذين المفهومين، فقد خرجت الشعوب العربية في حركات اجتماعية عفوية، غير خاضعة للقوانين التقليدية، باحثة عن هوية جدّية. ولم يتمكن تيار اليسار من استيعاب الحركات النسائية المتعاظمة التي تأخذ أشكالاً سياسية أكثر نضجاً، تتجاوز أفكار المساواة في الأجر والمستوى الوظيفي مع الرجل. كما أن حركات البيئة هي الأخرى توسّعت، ولم يعد قميص اليسار يعطيها القيافة السياسية المطلوبة، فضلاً عن تعاظم أنصارها في الشارع. تجاوز اليمين بدوره ثوابته، خصوصا فيما يتصل بالقوميات، فتكتلت بحجوم أكبر حول فكرتها الأساسية، وأصبحت أيديولوجيا معادية للقوميات الأخرى، وظاهرة الأحزاب القومية المتمردة على اليمين نفسه واضحة في الشوارع الأوروبية. تشكلت إلى جانب ذلك حركاتٌ قوية، وذات حضور لا يمكن التغاضي عنه، بعيدة عن مفهومي اليسار واليمين، كظاهرة السترات الصفراء التي تشغل شوارع باريس. وشهدت لندن ظاهرة متمرّدة، وهي "حزب البريكست" الذي اكتسح في انتخابات البرلمان الأوروبي المحافظين والعمال بأشواط كبيرة. وكان انتخاب إيمانويل ماكرون الذي انقلب على اليمين واليسار، وفاز برئاسة فرنسا بشعاراتٍ ذات طبيعة إصلاحية، يندرج تحت العنوان نفسه.
تواجه السياسة منعطفاً قلقاً، وهو البحث عن هوية جديدة، فقد وصل الحال بالاتحاد الأوروبي إلى ما يشبه الاستعصاء. وعلى الرغم من نصف الخروج البريطاني، لا يزال المشروع كله مهدّداً بالانهيار، كما أن نصف أوروبا التي كانت منتمية إلى الكتلة الشيوعية فشلت في اللحاق بشقيقاتها في القطاع الغربي من القارّة، وبدأت بالبحث عن جذورها القومية في محاولةٍ للتعويض. ويستدعي هذا كله نشاطاً محموماً للبحث عن طريقة سياسية جديدة للتكتل، تجدد مفهومي اليمين واليسار أو تنسفهما.
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح مفهوما اليمين واليسار أكثر وضوحاً وقابليةً للفهم، وتقسمت المجتمعات الغربية بينهما، على الرغم من وجود أطياف متمايزة ضمن كل تيار، إلا أن الجميع ظل مخلصاً لمرجعه السياسي العام، وكانوا قادرين على إجراء بعض التعديلات لصالح تشكيل حكومة أو فوز بانتخابات.
لم تكن هناك أيديولوجيا صارمة خلف اليمين واليسار. لذلك كانت الأحزاب المشكِّلة للجناحين قادرة على إعادة التموضع في كل مرة، وكان لديها هامش للتحرك، وهي تحاول اللحاق بأكبر عدد من الأصوات، وانبثقت عن التيارين حركات داخلية تتحرّك يمنة ويسرة، تقود التيارين لمواجهة تحديات راهنة ملحّة، اقتصادية وعسكرية. وقد شهد العقد الأول من القرن الحالي بروز "حزب الشاي" داخل الحزب الجمهوري في أميركا، وهو تجمع فظ ذو طبيعة عسكرية، التف حول الرئيس الأسبق جورج بوش الابن الذي بعثر الجيش والبحرية الأميركية ما بين العراق وأفغانستان والصومال. وعلى الرغم من أن تجمع "الشاي" تطرَّف نحو العسكريتاريا، لكنه بقي لوناً من ألوان الطيف الذي ضمه اليمين، ولم ينكر انتماءه الصريح إلى هذا اليمين، وخطه السياسي العام، لكنه سرعان ما خبا بعد زوال مسبّبات حدوثه.
يعرَّف اليمين تقليدياً أنه يضم متدينين وكلاسيكيين ومحافظين وقوميين، وتتركز أفكاره حول الوطنية والتسلسل الوظيفي والتقاليد. أما اليسار فيضم اشتراكيين ومجتمعيين ودعاة بيئة، وركيزة أفكاره شعاراتُ الحرية والمساواة والحقوق العامة. تمتزج كل هذه المكونات والأفكار، وتتفاعل سياسياً، لتشكل الثنائية المعروفة. ولكن مع انقضاء عشر سنوات من القرن الحالي، تحرّك المفاعل الاجتماعي بشدة، وبدأت السياسة تتمرّد على هذين المفهومين، فقد خرجت الشعوب العربية في حركات اجتماعية عفوية، غير خاضعة للقوانين التقليدية، باحثة عن هوية جدّية. ولم يتمكن تيار اليسار من استيعاب الحركات النسائية المتعاظمة التي تأخذ أشكالاً سياسية أكثر نضجاً، تتجاوز أفكار المساواة في الأجر والمستوى الوظيفي مع الرجل. كما أن حركات البيئة هي الأخرى توسّعت، ولم يعد قميص اليسار يعطيها القيافة السياسية المطلوبة، فضلاً عن تعاظم أنصارها في الشارع. تجاوز اليمين بدوره ثوابته، خصوصا فيما يتصل بالقوميات، فتكتلت بحجوم أكبر حول فكرتها الأساسية، وأصبحت أيديولوجيا معادية للقوميات الأخرى، وظاهرة الأحزاب القومية المتمردة على اليمين نفسه واضحة في الشوارع الأوروبية. تشكلت إلى جانب ذلك حركاتٌ قوية، وذات حضور لا يمكن التغاضي عنه، بعيدة عن مفهومي اليسار واليمين، كظاهرة السترات الصفراء التي تشغل شوارع باريس. وشهدت لندن ظاهرة متمرّدة، وهي "حزب البريكست" الذي اكتسح في انتخابات البرلمان الأوروبي المحافظين والعمال بأشواط كبيرة. وكان انتخاب إيمانويل ماكرون الذي انقلب على اليمين واليسار، وفاز برئاسة فرنسا بشعاراتٍ ذات طبيعة إصلاحية، يندرج تحت العنوان نفسه.
تواجه السياسة منعطفاً قلقاً، وهو البحث عن هوية جديدة، فقد وصل الحال بالاتحاد الأوروبي إلى ما يشبه الاستعصاء. وعلى الرغم من نصف الخروج البريطاني، لا يزال المشروع كله مهدّداً بالانهيار، كما أن نصف أوروبا التي كانت منتمية إلى الكتلة الشيوعية فشلت في اللحاق بشقيقاتها في القطاع الغربي من القارّة، وبدأت بالبحث عن جذورها القومية في محاولةٍ للتعويض. ويستدعي هذا كله نشاطاً محموماً للبحث عن طريقة سياسية جديدة للتكتل، تجدد مفهومي اليمين واليسار أو تنسفهما.