من يطّلع على الرسم الذي وضعه الخليفة أبو جعفر المنصور لمدينة بغداد لدى تأسيسه لها يستغرب ما صارت عليه. بدت بغداد أو مدينة السلام أو مدينة المنصور أشبه ما تكون بساعة دائرية تخترقها طرقات أربعة تتصل بأربع بوابات مشدّدة الحراسة تفتح على الجهات الأربع. يحيط بالمدينة سوران مرتفعان وأبراج مراقبة لحمايتها، وهناك الطاقات ومتاجر الأسواق تليها المساكن التي خصصت للعامة بعدها مساكن الخاصة ثم الدواوين ومنازل أقارب المنصور، وفي الوسط تماماً الجامع وقصر الخليفة. تشبه المدينة في مخططها تحفة فنية ذات شكل دائري منمّق ومتقنة الصنع.
الصورة تختلف اليوم عما كانت عليه باعتبار أن المدينة القديمة جرى تدميرها مراراً، وأقيمت بدلاً منها بغداد ثانية وثالثة ورابعة تحمل الاسم ولا تحمل الرسم. وبغداد اليوم نموذج عن الفشل المزدوج. فشل المخططات التي وضعت لها من جهة، بفعل ضغط الأزمة الاجتماعية، وفشل السياسيين والسياسة التي تعاطت معها على مر العقود من جهة ثانية.
والمخططات التوجيهية التي وضعت للمدينة بعيدة في الزمن وتعود إلى مراحل مبكرة من تاريخ العراق الحديث. دون عودة بعيدة إلى الوراء، نشير إلى محاولات جرت منذ الثلاثينيات إلى الأعوام 1956 و1958 و1965 وما تبعها. التصميم الأول الذي وضع للمدينة حدد استعمالات الأراضي على النحو التالي: 53.3 في المائة للسكن و15.9 في المائة للنقل و10.5 في المائة مساحات خضراء و7.7 في المائة للصناعة و4.2 في المائة للمرافق العامة والخدمات. لدى مراجعة شكل المخططات المذكورة نرى أن المدينة ترددت بين مخطط دائري ومخططات طولية مستطيلة.
كما في بيروت تعرضت جملة هذه المخططات للتعديل على أرض الواقع حتى أنها فقدت المزايا التي كانت تقدمها. أكثر من ذلك جاءت التطورات السكانية والنمو العشوائي لتجعل منها مثالاً للفوضى. ثم ما لبثت الحروب أن أغرقتها في أتونها فصارت على ما هي عليه لجهة الأحياء المكتظة ونقص المرافق والخدمات والتلوث واختلاط الأحياء الصناعية بالأحياء السكنية وفقدان المساحات الخضراء.
يضاف إلى ذلك كله ما سمي بالمنطقة الأمنية أو الخضراء باعتبارها منطقة مزنّرة بالإجراءات العسكرية الاحترازية والتي ثبت أنها لم تحمِ لا القوات الأميركية لدى احتلالها ولا سواها من قوات عراقية ومواطنين. والحصيلة أن المدينة فقدت المزايا التي كانت تتمتع بها عن سواها من مدن العراق. وما زاد الطين بلة دوماً كان الزحف السكاني نحوها لما توفّره من مزايا عن سواها. ومع تتالي الأحداث على أرضها عانت من تصفية الكفاءات وهجرة من تبقى منها ليس إلى مدن عراقية أخرى بل إلى الخارج. ورافق ذلك فرز سكاني تبعاً للانتماء الطائفي والعرقي.
(أستاذ جامعي)
اقــرأ أيضاً
الصورة تختلف اليوم عما كانت عليه باعتبار أن المدينة القديمة جرى تدميرها مراراً، وأقيمت بدلاً منها بغداد ثانية وثالثة ورابعة تحمل الاسم ولا تحمل الرسم. وبغداد اليوم نموذج عن الفشل المزدوج. فشل المخططات التي وضعت لها من جهة، بفعل ضغط الأزمة الاجتماعية، وفشل السياسيين والسياسة التي تعاطت معها على مر العقود من جهة ثانية.
والمخططات التوجيهية التي وضعت للمدينة بعيدة في الزمن وتعود إلى مراحل مبكرة من تاريخ العراق الحديث. دون عودة بعيدة إلى الوراء، نشير إلى محاولات جرت منذ الثلاثينيات إلى الأعوام 1956 و1958 و1965 وما تبعها. التصميم الأول الذي وضع للمدينة حدد استعمالات الأراضي على النحو التالي: 53.3 في المائة للسكن و15.9 في المائة للنقل و10.5 في المائة مساحات خضراء و7.7 في المائة للصناعة و4.2 في المائة للمرافق العامة والخدمات. لدى مراجعة شكل المخططات المذكورة نرى أن المدينة ترددت بين مخطط دائري ومخططات طولية مستطيلة.
كما في بيروت تعرضت جملة هذه المخططات للتعديل على أرض الواقع حتى أنها فقدت المزايا التي كانت تقدمها. أكثر من ذلك جاءت التطورات السكانية والنمو العشوائي لتجعل منها مثالاً للفوضى. ثم ما لبثت الحروب أن أغرقتها في أتونها فصارت على ما هي عليه لجهة الأحياء المكتظة ونقص المرافق والخدمات والتلوث واختلاط الأحياء الصناعية بالأحياء السكنية وفقدان المساحات الخضراء.
يضاف إلى ذلك كله ما سمي بالمنطقة الأمنية أو الخضراء باعتبارها منطقة مزنّرة بالإجراءات العسكرية الاحترازية والتي ثبت أنها لم تحمِ لا القوات الأميركية لدى احتلالها ولا سواها من قوات عراقية ومواطنين. والحصيلة أن المدينة فقدت المزايا التي كانت تتمتع بها عن سواها من مدن العراق. وما زاد الطين بلة دوماً كان الزحف السكاني نحوها لما توفّره من مزايا عن سواها. ومع تتالي الأحداث على أرضها عانت من تصفية الكفاءات وهجرة من تبقى منها ليس إلى مدن عراقية أخرى بل إلى الخارج. ورافق ذلك فرز سكاني تبعاً للانتماء الطائفي والعرقي.
(أستاذ جامعي)