لا أذكر عدد المرّات التي قرأت فيها الجملة الشهيرة التي كتبها الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، ويقول فيها: "إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي، أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك"، منقولةً من قبل الكتّاب والشعراء والقرّاء العاديين، كوصية أو تقرير نهائي عن العلاقة القتالية التي تربط الفرد بالتاريخ.
وقد اشتغلت الثقافة العربية طويلاً بموضوع مشابه، لُخّص في العقود الأخيرة من القرن العشرين بكلمتين هما: الأصالة والمعاصرة. أظن اليوم أنه كان أحد الأسباب التي عرقلت صلة العرب بالعالم الجديد من حولهم، أو أنه كان تعبيراً مرتعشاً عن حرن ثقافي عربي شامل في العلاقة مع العالم المعاصر.
وملخّص الآراء التي نادت بمثل هذه الموضوعات، هو أن الثقافة العربية قدّمت ما يكفي في حقول النظريات الفكرية، بحيث يمكن الاستغناء عن "الوافد" الغربي، واعتماد الأصيل العربي بكامل عتاده. وأكثر ما تتحوّل إليه الأنظار في هذا الباب هو الفلسفة والنقد الأدبي. إذ قلّما ترى أو تقرأ للمفكرين الاقتصاديين من يقول إن لدى العرب في الماضي فكراً اقتصادياً.
وقلّما يقول أي كاتب من دعاة الأصالة والمعاصرة إن لدى العرب فكراً تكنولوجياً في أي مجال من مجالات الصناعة، لا في السيارات ولا في الطيران، ولا في المعلوماتية.
ما تزال الثقافة العربية واقعة تحت تأثير هذا المنحى الرافض، وما يزال الكثير من العرب يقبلون المنتج التكنولوجي، والمعارف المتصلة به، ويرفضون الفلسفة والنقد.
وهو اتجاه يتّصف بالبراغماتية، إذ يقوم على اختيار الحقل المعني، ثم يسعى إلى تلغيمه باتهامات التبعية والارتهان وتجريمه لأنه "يصدر" عن "ثقافة وافدة"، وفي هذه الحالة تصبح الثقافة الوافدة نفسها هي الباب الذي ينبغي إغلاقه.
اسأل أي ناقد أو كاتب ممن رفعوا شعار الأصالة في مواجهة المعاصرة. هل يرفض أن يستخدم الهاتف أو التلفزيون أو السيارة، هل يقبل أن نستورد سيارتـ"ه" دون التكنولوجيا المرتبطة بها؟
اللافت أن الأمثلة التي يضعها الناقد العربي في وجه زملائه من النقّاد، لا تستطيع سدّ احتياجات النقد، فالجرجاني والآمدي وأبو هلال العسكري، لم يعرفوا الرواية ولا القصة ولا المسرح.
ومن غير المعقول أن يكونوا مرجعاً تعليمياً، أو تدريبيا في حقل النقد الحديث. ولا يكتفي الناقد جلال العشري برفض النقد العربي المعاصر، بل يتهم الفلاسفة العرب القدماء، مثل ابن رشد والفارابي وابن سينا، بالاغتراب عن المجتمع العربي الذي أعلن أنهم لا يمثلونه في شيء.
لماذا نال النقد والفلسفة دون غيرهما، أو أكثر من غيرهما من الحقول المعرفية الأخرى، هذه الحصة الكبيرة من التأنيب واللوم، والنبذ أحيانا؟
هذا طبيعي على أي حال، فالتقنية محايدة، تعكس التغيّرات، وتاريخ التقنية لا علاقة له بالحرية الإنسانية. بينما يقف النقد والفلسفة في صدارة صناعة الحياة، أو في مواجهة استحقاقات التطوّر والتجديد، أعجبنا هذا أم لم يعجبنا. وتاريخ النقد والفلسفة والأدب هو تاريخ القيم، لهذا من الطبيعي أن تُخاض المعارك أو السجالات أو الحوارات حول أهليتهما لتمثيل الحياة المعاصرة.
اقرأ أيضاً: في انتظار دراكولا