بوتين في أنقرة
بدأت العلاقات الروسية ـ التركية، منذ 2003، تأخذ منحى مختلفاً عن صيغة التوتر التي حكمتها طوال عقود الحرب الباردة. وكان لاستراتيجية حزب العدالة والتنمية الحاكم (تصفير المشكلات الإقليمية)، والاعجاب الروسي بمحاولات أنقرة مع الحزب التمايز عن الحلفاء الغربيين، (رفض أنقرة استخدام القوات الأميركية أراضيها في غزو العراق) عاملين رئيسيين في إعادة ترتيب العلاقة على أسس جديدة. وقد توجت عام 2010، في زيارة الرئيس الروسي السابق، ديمتري ميدفيدف، أنقرة، واتفاق البلدين على تأسيس مجلس التعاون التركي ـ الروسي، وما يزال قادة البلدين يلتقيان إثره كل عام.
غير أن إرث الحرب الباردة والخلافات الكبيرة بين الجانبين حول قضايا (أوكرانيا وأرمينيا وأذربيجان في القوقاز وكوسوفو في البلقان وقبرص اليونانية، وأخيراً سورية)، دفع البلدين إلى إعطاء البعد الاقتصادي في علاقتهما دوراً رئيسياً، بسبب حاجة كل طرف للآخر، وترك الخلافات السياسية جانباً، أو على الأقل الحيلولة دون تأثيرها على القضايا الاقتصادية.
وهذا ما بدا جليّاً من خلال اتفاقية مهمة وقّعها رئيسا البلدين في مجال النفط والغاز الطبيعي، إضافة إلى توقيع محضر اجتماع مجلس التعاون الروسي ـ التركي الحكومي المشترك للشؤون الاقتصادية والتجارية، وتوقيع مذكرة تفاهم بين وكالة الطاقة الروسية ووزارة الطاقة والموارد الطبيعية التركية، في مجال الحفاظ على الطاقة والطاقة المتجددة. ويهدف البلدان إلى رفع حجم التبادل التجاري بينهما من 33 مليار دولار إلى 50 ملياراً العام المقبل، ومن ثم إلى 100 مليار دولار بحلول 2020.
وكانت الخطوة الاقتصادية الكبرى موافقة موسكو على تخفيض سعر الغاز الطبيعي لتركيا بـ6%، وزيادة حجم الغاز المار منها إلى 3 مليارات متر مكعب، وتحويل مسار خط أنابيب الغاز الطبيعي المعروف باسم السيل الجنوبي، من بلغاريا إلى تركيا، الأمر الذي سيحوّل تركيا إلى محطة مهمة للطاقة.
ومع أن تركيا هي المستفيد الأكبر من الناحية الاقتصادية، فإن روسيا هي المستفيد السياسي، فهذه الاتفاقات ذات أهداف سياسية كبرى بالنسبة لموسكو، وإن كانت بلباس اقتصادي، إنها رسالة قوية للغرب الذي فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، ومكافأة لأنقرة، لرفضها الانخراط في العقوبات الغربية، كما أنها رسالة سياسية من أنقرة إلى العواصم الغربية، لا سيما واشنطن، بعد توتر العلاقة بينهما على خلفية الأزمة السورية.
وإذا كانت العلاقة الروسية ـ التركية نموذجاً للعلاقة، المتقدمة اقتصادياً والمتراجعة سياسياً، تبدو موسكو، هذه المرة، عازمة على دفع العلاقة السياسية مع أنقرة إلى الأمام لعدة أسباب:
ارتفاع حدة التوتر بين روسيا والغرب، التوتر بين أنقرة وواشنطن، التقارب الإيراني ـ الأميركي على خلفية الملف النووي، الجهود الروسية لعقد مؤتمر دولي حول سورية.
وتسعى روسيا إلى التقارب مع أنقرة، من أجل ملفاتٍ تعتبرها موسكو استراتيجية، وتستطيع أنقرة المساهمة فيها بفاعلية: في شبه جزيرة القرم، حيث توجد أقلية تترية مسلمة، مرتبطة بتركيا ارتباطاً قوياً، وفي أرمينيا وأذربيجان، مع تزايد التوتر بين البلدين أخيراً، حيث لتركيا علاقات وطيدة مع أذربيجان، في حين ترتبط روسيا بعلاقات متينة مع أرمينيا، العدو اللدود لتركيا.
وفي سورية، حيث تبحث موسكو عن خطوط تلاقٍ مع تركيا، وليس مصادفة أن يقول بوتين، في أنقرة، إن الاتصالات مع الحكومة السورية محدودة، وإن الروس غير قادرين على التأثير مباشرة على المجريات في سورية. وهو يحاول إجراء اختراق في صفوف التحالف الدولي المضاد للنظام السوري، من البوابة التركية، على الرغم من تباعد كبير في مواقف الطرفين من هذه الأزمة، فتركيا لا تزال تصر على رحيل الأسد، وتطالب بمنطقة عازلة شمالي سورية، وهي مطالب ترفضها موسكو بحزم، وتصر على ترك مسألة الأسد إلى مرحلة لاحقة.
ومع ذلك، تبدو روسيا، اليوم، أكثر حاجة لتركيا مع سعيها إلى عقد مؤتمر "موسكو 1" بديلاً عن " جنيف 3 "، ذلك أن تركيا هي الدولة الإقليمية الأكثر قدرة في التأثير على المعارضة السياسية، والأكثر قدرة على الفعل في الميدان السوري، بحكم الحدود الممتدة نحو 900 كلم مع سورية، وعلاقاتها مع فصائل إسلامية مقاتلة على الأرض.
إن القرب الجغرافي لتركيا وعلاقاتها التاريخية في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، تعطيها دوراً ريادياً في هذه المناطق، بحسب رئيس الوزراء، أحمد داوود أوغلو، وهذا دور تبحث عنه روسيا في المرحلة المقبلة، بعيد وصول علاقاتها مع الغرب إلى مستوى مترد.