بين قراء الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899 ـ 1986) ليس سوى قلة ممن يهتمون بعمله كمترجم أو دارس للترجمة. بورخيس ذاته نادرًا ما كان يتحدث عن نفسه كمترجم. ومع ذلك فإن شهرة مقالته "مترجمو ألف ليلة وليلة" المنشورة ضمن كتابه "تاريخ الأبدية"، التي عاين فيها فروق المقاربة الترجمية بين إدوارد وليم لين وجوزيف شارل ماردروس وأنطوان غالان وريتشارد فرنسيس بورتن، تعد درسًا بليغًا في النظر إلى الترجمة كممارسة نسبية، متطورة وغير ثابتة، أو كطرس يتوارى تحته النص الأصلي. ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى حدث مثير: ففيما كان بورخيس، في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، يشتغل على ترجمة رواية "أورلاندو" (1928) لفيرجينيا وولف، كانت الكاتبة باللغة الفرنسية - البلجيكية الأصل - مارغريت يورسنار (1903 ـ 1987) عاكفة على ترجمة رواية "الأمواج" (1931) للكاتبة نفسها، لكن الكاتبين لن يلتقيا ولن يتحدثا في هذا الشأن إلا قبل وقت وجيز من وفاتهما.
اقــرأ أيضاً
لم تكن يورسنار تمارس الترجمة إلا لأسباب اقتصادية قاهرة. لا يعني ذلك أنها كانت تقبل ترجمة كل ما يعرض عليها، بل العكس: كانت تختار نصوصها بعناية ودقة، إما بدافع تواطؤ ما مع كتابها (هنري جيمس، كونستانتين كفافيس، فيرجينيا وولف)، أو لكون نصوصهم قادرة على الاستقرار في مفهومها الخاص للترجمة، بما يعنيه ذلك من إمكانية تجاوزها لحدود لغتها الأصلية، وسهولة استيطانها لغة أخرى هي العالم التخييلي للترجمة. هذا الفهم لدور الترجمة كاستيعاب لغة ضمن لغة أخرى والعواقب الناتجة عن ذلك، هو ما حدا بيورسنار، أثناء ترجمتها "الأمواج" لفيرجينيا وولف، إلى السعي لملاقاة الكاتبة الإنجليزية. حدث ذلك يوم 23 فبراير/ شباط .
كتبت وولف في يومياتها: "ليس لدي الوقت ولا المساحة الكافية لوصف المترجمة التي زارتني، ويكفي أن أقول إن بدلتها السوداء كانت موشاة برسوم مذهبة جميلة. يساورني الظن بأنها امرأة تخفي أمرًا ما في ماضيها. إنها مثقفة، تقضي ستة أشهر من كل سنة في أثينا. شفتاها حمراوان، وهي تبدو جلدة صبور مثل عاملة فرنسية. أظن أن اسمها هو السيدة أو الآنسة يونياك (؟)، لا أدري بالضبط".
اقــرأ أيضاً
لماذا لم تشر وولف، في وصفها للقائها بيورسنار (وهو الوصف الذي دونته حينا في "يومياتها")، إلى ما دار بينهما من حديث حول الترجمة؟ ولماذا اهتمت يورسنار بتدوين ذلك، لكن بعد مرور سنوات عديدة؟ من المحتمل الظن أن يكون تصورهما المتباين، واستحضارهما الآني والمتأخر، لذكرياتهما عن لحظة اللقاء دالًا على ما هو أعمق من ذلك: رؤيتهما المختلفة للشيء الأدبي في ذاته، وعلاقته بالحدود، والتخييل، والتاريخ، والثقافات الأخرى. ألم تكن فيرجينيا وولف أسيرة جزيرتها حسب بورخيس؟
اقــرأ أيضاً
كانت يورسنار من جيل الكاتب الأرجنتيني، كما كانت معجبة به إعجابًا شديدًا، وهو أمر ليس مستغربًا تمامًا إذا أدركنا أن مكتبتيهما المتخيلتين كانتا تتقاسمان غالبية الكتب، وأن اهتماماتهما الثقافية كانت شاسعة، تتسع لعصور وثقافات تمتد من الماضي إلى الحاضر، ومن الغرب إلى حضارات الشرق الأقصى. لكن حدث اشتغالهما، في الفترة نفسها تقريبًا، على ترجمة نصين روائيين لكاتبة واحدة هي فيرجينيا وولف، يعتبر أمرًا مثيرًا إن لم يكن دالًا على تواطؤ سري. بيد أنه إذا كانت يورسنار سعت إلى لقاء وولف بسبب قرب المسافة بينهما، فإن بورخيس لم يفعل ذلك بسبب آلاف الكيلومترات التي تفصل الأرجنتين عن بريطانيا، رغم أنه كان متطلعًا حينئذ إلى ذلك اللقاء، ربما لاستفسار وولف عن غرابة شخصية "أورلاندو" الذي يتنقل عبر عصور متعددة، ويكون تارة ذكرا وتارة أخرى أنثى.
اقــرأ أيضاً
كان بورخيس يصغي باهتمام إلى يورسنار، ولعله في الوقت نفسه كان يتذكر ما كتبه هو عن الترجمة، وعن وهم النص الأصلي، وتلاقح النصوص، واستحالة الأمانة. وربما كان يفكر أيضًا في عزلة وولف وانغلاقها في مضمار ثقافتها التي كانت تحيط بها البحار من كل جانب، وحينها تذكر أن قصته "بحث عن ابن رشد" كانت أيضًا تعبيرًا عن عزلة الفيلسوف العربي في مضمار ثقافته التي تجهل المسرح، كما كانت محاولة منه هو للانفتاح على الثقافة العربية في الأندلس التي كان يجهل لغتها ولا يعلم عنها إلا النزر اليسير.
بقي أن نشير إلى أنه إذا كانت ترجمة مارغريت يورسنار لرواية "الأمواج" قد توارت عن مجال النشر والتداول العام، فان ترجمة بورخيس لرواية "أورلاندو" لا تزال طباعتها تتوالى إلى يومنا هذا.
كتبت وولف في يومياتها: "ليس لدي الوقت ولا المساحة الكافية لوصف المترجمة التي زارتني، ويكفي أن أقول إن بدلتها السوداء كانت موشاة برسوم مذهبة جميلة. يساورني الظن بأنها امرأة تخفي أمرًا ما في ماضيها. إنها مثقفة، تقضي ستة أشهر من كل سنة في أثينا. شفتاها حمراوان، وهي تبدو جلدة صبور مثل عاملة فرنسية. أظن أن اسمها هو السيدة أو الآنسة يونياك (؟)، لا أدري بالضبط".
لم تكن وولف تهتم بالترجمة، بما في ذلك ترجمة كتبها هي. ذلك ما يدل عليه انصرافها الكلي، في مقالاتها النقدية التي جمعت في كتاب "القارئ المشترك"، عن معالجة مسألة الترجمة، أو الإدلاء بوجهة نظرها فيها. مع ذلك، وأثناء اللقاء الموجز الذي جمع بين يورسنار والكاتبة الإنكليزية، لم تتردد هذه الأخيرة في التعبير عن رأيها بخصوص دور الترجمة بصفة عامة، وهو الرأي الذي سجلته يورسنار في إحدى مقالاتها بعد مرور سنوات على ذلك اللقاء. حيث وصفت لمؤلفة سيرتها جوزيان سافينيو لقاءها بوولف بكونه حدث في "صالون معتم، مضاء فقط بلهب المدفأة" وأن الكاتبة كانت حينها مهمومة ومنشغلة بأمر ما. وبعد أن أبرزت أنها كانت تعد وولف "أحد أربعة أو خمسة من أبرع كتاب اللغة الإنكليزية" لاحظت أن وجهتي نظرهما حيال الترجمة والشأن الأدبي بصفة عامة كانتا متناقضتين تمام التناقض. كانت يورسنار تريد معرفة ما إذا كانت وولف تفضل أن تترجم الإحالات إلى الأدب الإنكليزي التي تتوفر عليها "الأمواج" ترجمة حرفية، أم تؤثر تعويضها بإحالات أخرى مستمدة من تاريخ الأدب الفرنسي. بدا الانزعاج على وجه وولف التي ألحت على كون لغة الكاتب وثقافته يجب أن تكونا كافيتين بذاتهما، وأن هذا الوضع ينبغي أن تعكسه الترجمة. بعد ذلك أردفت بان الترجمة ليست سوى أداة تساعد على التعريف ببعض القصص أو الروايات الأجنبية، وأن عليها أن تراعي دائمًا، أثناء العبور من النص المصدر إلى النص الهدف، وجهة نظر قارئ النص الأصلي، وليس النص المترجم.
لماذا لم تشر وولف، في وصفها للقائها بيورسنار (وهو الوصف الذي دونته حينا في "يومياتها")، إلى ما دار بينهما من حديث حول الترجمة؟ ولماذا اهتمت يورسنار بتدوين ذلك، لكن بعد مرور سنوات عديدة؟ من المحتمل الظن أن يكون تصورهما المتباين، واستحضارهما الآني والمتأخر، لذكرياتهما عن لحظة اللقاء دالًا على ما هو أعمق من ذلك: رؤيتهما المختلفة للشيء الأدبي في ذاته، وعلاقته بالحدود، والتخييل، والتاريخ، والثقافات الأخرى. ألم تكن فيرجينيا وولف أسيرة جزيرتها حسب بورخيس؟
لعلّ قراء يورسنار يؤثرون التغاضي عن كونها مترجمة، ويفضلون عدها كاتبة كلاسيكية بالمعنى الحقيقي للكلمة، خاصة أن مؤلفاتها أخذت في الصدور ضمن سلسلة "لا بلياد" ذائعة الصيت، التي تعد في فرنسا التكريس الأسمى للكاتب، وأن بيتها في إحدى جزر (ماين) الأميركية غدا متحفًا وقبلة للزائرين. لكن التكريس الحقيقي، في ظني، تجلى أساسًا في عزم بورخيس إدراج كتابها "قصص شرقية"، الذي ضم سرودًا مستوحاة من الثقافتين الصينية واليابانية، ضمن سلسلة الكتب التي تشكل "مكتبته الشخصية"، وهو الأمر الذي تعذر إنجازه بسبب مشاكل حقوق النشر.
كانت يورسنار من جيل الكاتب الأرجنتيني، كما كانت معجبة به إعجابًا شديدًا، وهو أمر ليس مستغربًا تمامًا إذا أدركنا أن مكتبتيهما المتخيلتين كانتا تتقاسمان غالبية الكتب، وأن اهتماماتهما الثقافية كانت شاسعة، تتسع لعصور وثقافات تمتد من الماضي إلى الحاضر، ومن الغرب إلى حضارات الشرق الأقصى. لكن حدث اشتغالهما، في الفترة نفسها تقريبًا، على ترجمة نصين روائيين لكاتبة واحدة هي فيرجينيا وولف، يعتبر أمرًا مثيرًا إن لم يكن دالًا على تواطؤ سري. بيد أنه إذا كانت يورسنار سعت إلى لقاء وولف بسبب قرب المسافة بينهما، فإن بورخيس لم يفعل ذلك بسبب آلاف الكيلومترات التي تفصل الأرجنتين عن بريطانيا، رغم أنه كان متطلعًا حينئذ إلى ذلك اللقاء، ربما لاستفسار وولف عن غرابة شخصية "أورلاندو" الذي يتنقل عبر عصور متعددة، ويكون تارة ذكرا وتارة أخرى أنثى.
في أواخر سنة 1985، وبضعة شهور قبل وفاة بورخيس، قررت مارغريت يورسنار السفر إلى جنيف، حيث كان الكاتب الأرجنتيني يقيم في أحد فنادقها في انتظار إعداد الشقة التي سيقيم فيها، هو وزوجته "ماريا كوداما"، والتي ستكون مقره الأخير.
التقى الكاتبان في أحد مقاهي العاصمة السويسرية فتحدثا كما لو كانا صديقين حميمين يشتركان في الذائقة الأدبية. وعندما شرعا في استحضار ذكرياتهما عن ترجمتهما لروايتي "الأمواج" و"أورلاندو" في الثلاثينيات من القرن العشرين، حدّثت يورسنار بورخيس عن لقائها الموجز بوولف، وعن وجهة نظر هذه الأخيرة في مسألة الترجمة، ثم عبرت له عن اختلاف رؤيتيهما، إذ كانت الكاتبة الإنكليزية تميل إلى ترجمة حرفية لنصوصها، مع المحافظة على سياقها الأنكلوساكسوني، في حين كانت هي تعتبر الترجمة حوارًا مخصبًا مع النص المترجم، بل شكلًا من أشكال الخلق والإبداع يكاد يطابق الشعر في علاقته بالتجربة الإنسانية. كان بورخيس يصغي باهتمام إلى يورسنار، ولعله في الوقت نفسه كان يتذكر ما كتبه هو عن الترجمة، وعن وهم النص الأصلي، وتلاقح النصوص، واستحالة الأمانة. وربما كان يفكر أيضًا في عزلة وولف وانغلاقها في مضمار ثقافتها التي كانت تحيط بها البحار من كل جانب، وحينها تذكر أن قصته "بحث عن ابن رشد" كانت أيضًا تعبيرًا عن عزلة الفيلسوف العربي في مضمار ثقافته التي تجهل المسرح، كما كانت محاولة منه هو للانفتاح على الثقافة العربية في الأندلس التي كان يجهل لغتها ولا يعلم عنها إلا النزر اليسير.
بقي أن نشير إلى أنه إذا كانت ترجمة مارغريت يورسنار لرواية "الأمواج" قد توارت عن مجال النشر والتداول العام، فان ترجمة بورخيس لرواية "أورلاندو" لا تزال طباعتها تتوالى إلى يومنا هذا.