يقال في مجالات عديدة مثل علوم الاقتصاد أو العلوم العسكرية أن تأخّر وصول معلومة قد يؤدّي إلى نتائج كارثية. قد لا تكون هذه المعلومة سوى تحوّل في سعر بضاعة أو رقم تعداد ديمغرافي؛ لكن لنتصوّر فداحة أن يكون التأخر متعلّقاً بمعارف أساسية بحجم قانون جاذبية نيوتن أو نظرية كوبرنيك. في الواقع، ذلك ما حدث بالفعل. فقد تأخر وصول هذه المعارف إلى البلاد العربية فترات تقاس بالقرون.
يوم الأربعاء الماضي، أقيمت في مؤسسة "بيت العلوم الإنسانية" في نانسي الفرنسية محاضرة بعنوان "مرور الرياضيات الأوروبية إلى شمال أفريقيا قبل الاستعمار" رصد فيها الباحث الفرنسي في الرياضيات (والمستعرب) بيار أجيرون أشكال انتقال هذا المجال العلمي من زاوية تاريخ العلم والتاريخ السياسي.
في بداية حديثه، يشير أجيرون إلى أن حواضر شمال أفريقيا، مثل تونس وفاس والقاهرة ومراكش، كانت في المرحلة ما قبل الاستعمارية تعيش حالة "غروب" في ما يتعلّق بتدريس الرياضيات وممارستها، وهي حالة تتسم ببقاء حضور تراث ثري في دوائر معيّنة ولكنها في حالة توقّف وسكون.
هنا، يستشهد أجيرون بنص لأحد أوائل المهتمّين بنقل الرياضيات الحديثة إلى البلاد العربية؛ التونسي سليمان الحرايري (1824 – 1975) والذي يذكر أن العربية لم يعد فيها سوى القليل من الكتب في العلم، مقارنة بما شاهده في زيارته إلى فرنسا، وقد لخّص هذا التفاوت بالقول "لا نعرف إلا سبعة كواكب فيما يعدّون أكثر من أربعين".
قدّم أجيرون بعض التفسيرات لعملية "الغروب" هذه، من بينها أن تدريس العلوم ومن بينها الرياضيات ظلّ يُحصر في المسائل الدينية التطبيقية، مثل تقسيم الميراث وحساب الأوقات (للأذان). كما يلاحظ أن الكتب المستعملة في الجامعات العربية (الزيتونة والقرويين والأزهر) كان أحدثها يعود إلى القرن الرابع عشر ميلادي.
من جهة ثانية، قدّم الباحث الفرنسي تفسيرات ذات أبعاد سياسية وحضارية لنفس الظاهرة، بداية من اعتبار أن الحكم العثماني يمثل عاملاً آخر من عوامل كسوف الرياضيات. يذكر أجيرون ذلك بشيء من التحفّظ، إد يرى أن الأمر قد لا يكون سوى مجرّد مصادفة زمنية، إذ توجد عوامل أخرى مفسّرة مثل تاريخ 1492؛ سنة خروج العرب من إسبانيا، وهذا الأمر شلّ جزءاً كبيراً من الاحتكاك بين العالمين الشرقي والغربي، ومن تبعات ذلك أن تقنية الطباعة لم تصل إلى العالم العربي إلا بعد ثلاثة قرون من توفّرها في أوروبا، وكان ظهورها موافقاً لمصادفة أخرى هو مجيء الأوروبيين كمستعمرين إلى المنطقة.
وصول الرياضيات الحديثة إلى الحواضر الإسلامية مرّ بمحطّات كان أولها مع بداية نقل المعارف الأوروبية إلى تركيا بعد وصول المطبعة إليها سنة 1727، وبعد قرن تقريباً وصلت إلى مصر.
لكن العامل الأكثر أهمية بالنسية لـ أجيرون هو بعث كلّيات الهندسة في العالم الإسلامي، فقد تأسّست أوّلها سنة 1731 في إسطنبول ووجد المشرفون عليها أنهم مضطرّون إلى نقل العلوم الأوروبية، من خلال اللغات القريبة كالهنغارية ثم الفرنسية والألمانية والإنكليزية.
يفسّر أجيرون ذلك بأن الخلفاء الأتراك، خصوصاً عبد الحميد الأول وسليم الثالث اعتبروا أن الرياضيات مفيدة للحرب، وهو منظور جعلهم يُقدمون على نقلها إلى تركيا ويحجمون عن ذلك في بقية البلدان التي تحت سيطرتهم كي لا تستخدم ضدّهم، غير أن اغتيال سليم الثالث سنة 1807 أوقف هذه الحركة.
صادف ذلك أن مصر أخذت مشعل نقل المعارف، ومن بعدها تونس، ضمن نفس التطوّر؛ أي ظهور الطباعة أولاً (مطبعة بولاق 1822) ثم مدرسة لتخريج المهندسين (بعبارة أدق ضبّاط الجيش).
هذه المرحلة اتسمت بعودة تنشّط الترجمة في الحضارة العربية الإسلامية. ومن خلال عرض مخطوطات تعود إلى تلك الحقبة، يرى أجيرون بأن مصر كانت وقتها أشبه بـ"ورشة مصطلحات"، كما يلاحظ أن الترجمة خضعت إلى تقسيم عمل مدروس، حيث كان يشارك فيها ثلاثة عناصر؛ عارف بالعلوم الرياضية ومتخصّص في اللغة الأجنبية (الفرنسية في الغالب ممن عملوا في الترجمة زمن حملة نابليون) وممثل عن الأزهر يكون دوره السهر على مراعاة قواعد اللغة العربية.
بعد مصر، يدرس أجيرون الحالة التونسية وفيها يتكرّر التمشي ذاته من ظهور الطباعة إلى كليات تدرّس العلوم، كانت أولها سنة 1838 "المدرسة العسكرية" التي أنشأها أحمد باي والتي كان يديرها الإيطالي لويجي كاليغاريس، ثم "المدرسة الحربية بباردو" (1856) والتي أدارها الفرنسي إرنست دي تافيرن، وصولاً إلى "المدرسة الصادقية" (1875) التي أنهت حصر نقل العلوم في فئة الضباط نحو فئات أوسع.
يقارن أجيرون بين عملية نقل العلوم بين مصر وتونس، حيث يلاحظ أن الأولى اعتمدت على الترجمة فيما خيّر التونسيون تعلم اللغات الأجنبية والنهل منها وتطبيقها مباشرة، مدلّلاً على ذلك بأنه لم يترجم في تونس سوى ثلاثة كتب رياضيات، وحتى في هذه كان المترجم التونسي ينقل المصطلحات في الغالب عبر استنساخها مثل بربولة لـ parabole وأبشيش لـ Absysse مقابل محاولات جادة في التوليد المعجمي شهدتها مصر، وبحسبه فإن الخيارين التونسي والمصري يمثلان سجالاً عربياً لا يزال مستمراً إلى اليوم.
النموذج الأخير الذي يدرسه أجيرون هو المغرب، وانطلق فيه من تبيان خصوصيات المغرب كونه من دون بقية البلدان العربية لم يخضع للسلطة العثمانية، كما نجح إلى حد كبير في حماية أراضيه القارية من محاولات الاختراق الأوروبي.
وصول الرياضيات الحديثة إلى المغرب كان من خلال السلطان سيدي محمد حين كان لا يزال أميراً في منتصف القرن التاسع عشر، وكانت له صداقات مع علماء فرنسيين ومن خلالهم أغرم بالرياضيات حتى أن ثمة من يشير إلى أنه قرأ نيوتن، وحين وصل إلى العرش في 1859 تحوّل النقاش في العلوم الحديثة إلى أحد ثوابت بلاطه.
يعتبر أجيرون أن فترة حكم سيدي محمد كانت أشبه بحلم قصير حيث انطفأت الحماسة إلى العلوم بعده، خصوصاً وأنها لم تصل إلى مركز الثقل العلمي بجامعة القرويين في فاس، وهنا يسوق ملاحظة بأن الأمر ذاته حدث مع الزيتونة والأزهر فقد ظلت هذه المؤسسات على هامش حركة نقل المعارف الأوروبية.
بين المغرب وتونس، تمثل الجزائر شكلاً آخر من مسارات انتقال الرياضيات إلى البلاد العربية، فنظراً لمجيء الاستعمار مبكّراً (1830) سيطر ما يسمّيه بيار أجيرون (الصورة من المحاضرة) بـ "نموذج التبعية"، حيث أن الرياضيات الحديثة وصلت إلى الجزائر جاهزة مع مناهج التعليم الفرنسية. ما حصل في ما بعد هو فرض "النموذج الجزائري" على بقية النماذج؛ أي أن تتحوّل عملية نقل العلوم من إرادة ذاتية إلى مسألة تبعية.
هل إن عمليات نقل الرياضيات التي شهدتها مصر وتونس والمغرب كانت ستؤدّي إلى التحاق بركب التقدّم العلمي كما كان يأمل المنخرطون فيها؟ سؤال يعتبر أجيرون أنه ليس من الممكن الجواب عليه فقد جاءت الموجة الاستعمارية لتطمس معالم هذا الطريق إلى الأبد، غير أنه يرجّح أن الأمر كان ممكناً لأن الرياضيات التي وصلت من أوروبا في القرن التاسع عشر كانت تستند إلى طبقتين كان العرب على معرفة بهما وهما مبادئ الرياضيات الإغريقية ثم مساهمات العرب في تطويرها، أي أن نقل المعارف الرياضية لم تكن عملية بدء من الصفر بل مجرّد استكمال مسار.