05 يونيو 2017
بيانات "تويتر"
لا تُخطئ عين المتصفح لموقع التواصل الاجتماعي "تويتر" تمدّد لغة البيانات الحزبية والسياسية في التغريدات، إذ يحرص مغرّدون كثيرون، محسوبون على فئة المثقفين والنشطاء السياسيين والحقوقيين، على إعطاء موقفٍ في كل حدث تقريباً، باستخدام عبارات الشجب والإدانة تارةً، أو المدح والتقريظ تارةً أخرى. كيف يمكن أن يتجاوز المرء تغريدةً لشخصٍ ما تبدأ بكلمة "أدعو" أو "أدين"؟، فاللغة المستخدمة هي لغة وزارة خارجية، أو حزب سياسي، وليست لغة مغرِّدٍ يراقب الشأن العام ويهتم به وحسب، وهو ما يدعو إلى التأمل في هذا النمط من التغريد في موقع تويتر، فهو يفتح الباب لفهم أمور عديدة، داخل دوائر المهتمين بالشأن العام.
تشير لغة البيانات في تغريداتٍ، لتوضيح المواقف، إلى ذوات متضخمةٍ عند شريحةٍ من هؤلاء المغرّدين، قسمٌ منهم لشدة انخراطه في سجالات حول قضايا كبرى، بات يستبطن الاعتقاد بأهمية موقفه الذي يسجله من هذه القضية أو تلك، ومع كثرة الثناء عليه من الجمهور، وتزايد عدد متابعيه، ومن يعيدون نشر تغريداته، يظن أنه يوجه الجماهير ويقودها ويؤثر فيها، وهو امتدادٌ للاعتقاد بقدرة موقع "تويتر"، وأمثاله من مواقع التواصل الاجتماعي، على إيجاد فضاءٍ من نوع مختلف، والتأثير في الجمهور.
قسمٌ آخر يعيش في فقاعة "تويتر"، ويرى نفسه جزءاً من "شلَّة"، يضخّمها ويظنها تياراً سياسياً، في مواجهة تيارٍ آخر (شلَّة أخرى)، وهو هنا يُعوِّض عدم القدرة على التنظُّم في الواقع، بما يوقعه في وهم إيجاد البديل عن الواقع المغلق في موقع "تويتر"، ويؤدي إلى انغماسه في صراعات الفضاء الإلكتروني، متوهماً أهميتها وتأثيرها، وهي الصراعات التي لا تشكل إلا صدىً للصراعات الواقعية في المنطقة، ولا يمكن لأطرافها التأثير بمعزلٍ عن أدوات القوة المالية والسياسية والإعلامية عند أطراف الصراع الواقعي.
لعل بعض المثقفين توّهم أن "تويتر" فتحٌ مبين، يغيّر الثقافة، ويفتح الفضاء لحرية التعبير، وليس مجرّد أداة إعلامية، يمكن الهيمنة عليها وتوجيهها، عبر توجيه من فيها أو إسكاتهم حتى. هؤلاء أنفسهم توهموا قدرة التلفزيون على إيجاد فضاءٍ مفتوحٍ بدون توجيه من أعلى، وهم أنفسهم اليوم المنخرطون في ترويج الدعاية الإعلامية الموجهة في التلفزيون و"تويتر"، ولا يواجهون الإغراق الدعائي هذا، الصادر من جهاتٍ سياسية، ليسائلوه على الأقل، ذلك أن النقد الذي يدّعون إشهاره في وجه الظواهر من حولنا لا يصمد أمام كسلهم في التدقيق والبحث، واستسهالهم ركوب موجة الجماهير المستنفرة، والأقوياء سياسياً ومالياً، واستثقالهم مواجهة السائد بجدية.
من جانبٍ آخر، تعبّر لغة البيانات وتكرار التعبير عن مواقف عن النقص الحاد في القدرات التحليلية عند كثيرين ممن يقدمون أنفسهم مثقفين أو مهتمين بالشأن العام، ولأنهم غير قادرين على تقديم رؤىً تحليلية، ومحاولة فهم ما يجري، بعيداً عن التفكير الرغبوي، وسرد الأمنيات السياسية، فإن كلامهم كله يتمحور حول تكرار سرد مواقفهم، وشجب مواقف الخصوم، والمزايدة الأخلاقية عليهم، وكتابة كلام شاعريٍّ وعاطفيٍّ في القضايا التي يتحدثون عنها. بغض النظر عن الاختلاف والاتفاق مع هؤلاء، لا توجد فائدة كبيرة مما يكتبون، حتى في تحفيز النقاش الفكري والسياسي، لأن ما يكتبونه لا يتجاوز بيانات المدح والشجب، أو الخواطر الأدبية، مختصرةً على شكل تغريدة، أو ممغطةً في مقال.
لا علاقة لغياب التحليل العميق بضيق "تويتر" عن الحديث المفصّل، لكنه يرتبط بغياب القدرة التحليلية عند شريحةٍ كبيرةٍ من الذين يقدمون أنفسهم مثقفين، غير أن استسهال الكلام الشعبوي يتعلق بأجواء "تويتر" نفسها، التي تشجع على دغدغة عواطف الجمهور، لحصد مزيد من الانتشار للتغريدة وكاتبها. الخيار السهل بالنسبة لمثقفٍ يريد الانتشار هو الشعبوية، فعائدها أفضل، وهي لا تحتاج إلى جهدٍ كبير في البحث عن المعلومة، وتحليل المشهد القائم، فكل ما تحتاجه ركوب الموجة، والعمل مكبَّرَ صوتٍ لما تقوله جهةٌ سياسيةٌ ما وإعلامها، وتجييش الناس، من دون تثبت من المعلومات، أو التدقيق فيها، كما أن المزايدات على الآخرين تنفع في أجواء الشحن والتوتر التي نعايشها، وتجلب المزيد من المصفقين والمهللين.
تمثل الشعبوية فرصةً لمغرّدين لا ينتمون للمجال الثقافي، ليصبحوا مثقفين ومحللين استراتيجيين، فكثرة المتابعين وانهمارهم تغري بكتابة مزيدٍ من البيانات السياسية، ولعب دور المثقف والمفكر، والتحدّث بوثوقيةٍ عالية وجهلٍ أعلى، وطرح الرأي ونقيضه خلال فترة وجيزة، من دون الخشية من المحاسبة، اعتماداً على ذاكرة الناس القصيرة، وتعزيز الموقف من مجموعةٍ معينة.
عوامل عديدة تجتمع لتنتج ظاهرة البيانات السياسية في "تويتر"، وتبقى المسألة الأبرز تواري التحليل العميق الذي يمكن الاتفاق معه، أو الاختلاف حوله، لصالح الشعبوية، والتفكير الرغبوي، والمزايدات والاتهامات، بل والتحريض المباشر والفجّ على الخصوم. هكذا يكون هذا النوع من "الخطاب" استكمالاً لمشهد النخب العاجزة عن التأثير، والتي تظن أن كثرة المتابعين والمتفاعلين مع تغريدةٍ تغيِّرُ هذا الواقع، فيما هي تثبت العجز الذي يحاول النخبوي معالجته بالإغراق في السطحية، وتبني السائد من دون تفكير، لإشباع حاجته للتقدير، والنتيجة أنه مُلحَق بمن يمتلكون أدوات القوة، يردّد دعايتهم، ولا يُجهد نفسه حتى في تزيينها ثقافياً، ولو حاول فإن محاولته تثير الضحك والغثيان، في آنٍ معاً.
تشير لغة البيانات في تغريداتٍ، لتوضيح المواقف، إلى ذوات متضخمةٍ عند شريحةٍ من هؤلاء المغرّدين، قسمٌ منهم لشدة انخراطه في سجالات حول قضايا كبرى، بات يستبطن الاعتقاد بأهمية موقفه الذي يسجله من هذه القضية أو تلك، ومع كثرة الثناء عليه من الجمهور، وتزايد عدد متابعيه، ومن يعيدون نشر تغريداته، يظن أنه يوجه الجماهير ويقودها ويؤثر فيها، وهو امتدادٌ للاعتقاد بقدرة موقع "تويتر"، وأمثاله من مواقع التواصل الاجتماعي، على إيجاد فضاءٍ من نوع مختلف، والتأثير في الجمهور.
قسمٌ آخر يعيش في فقاعة "تويتر"، ويرى نفسه جزءاً من "شلَّة"، يضخّمها ويظنها تياراً سياسياً، في مواجهة تيارٍ آخر (شلَّة أخرى)، وهو هنا يُعوِّض عدم القدرة على التنظُّم في الواقع، بما يوقعه في وهم إيجاد البديل عن الواقع المغلق في موقع "تويتر"، ويؤدي إلى انغماسه في صراعات الفضاء الإلكتروني، متوهماً أهميتها وتأثيرها، وهي الصراعات التي لا تشكل إلا صدىً للصراعات الواقعية في المنطقة، ولا يمكن لأطرافها التأثير بمعزلٍ عن أدوات القوة المالية والسياسية والإعلامية عند أطراف الصراع الواقعي.
لعل بعض المثقفين توّهم أن "تويتر" فتحٌ مبين، يغيّر الثقافة، ويفتح الفضاء لحرية التعبير، وليس مجرّد أداة إعلامية، يمكن الهيمنة عليها وتوجيهها، عبر توجيه من فيها أو إسكاتهم حتى. هؤلاء أنفسهم توهموا قدرة التلفزيون على إيجاد فضاءٍ مفتوحٍ بدون توجيه من أعلى، وهم أنفسهم اليوم المنخرطون في ترويج الدعاية الإعلامية الموجهة في التلفزيون و"تويتر"، ولا يواجهون الإغراق الدعائي هذا، الصادر من جهاتٍ سياسية، ليسائلوه على الأقل، ذلك أن النقد الذي يدّعون إشهاره في وجه الظواهر من حولنا لا يصمد أمام كسلهم في التدقيق والبحث، واستسهالهم ركوب موجة الجماهير المستنفرة، والأقوياء سياسياً ومالياً، واستثقالهم مواجهة السائد بجدية.
من جانبٍ آخر، تعبّر لغة البيانات وتكرار التعبير عن مواقف عن النقص الحاد في القدرات التحليلية عند كثيرين ممن يقدمون أنفسهم مثقفين أو مهتمين بالشأن العام، ولأنهم غير قادرين على تقديم رؤىً تحليلية، ومحاولة فهم ما يجري، بعيداً عن التفكير الرغبوي، وسرد الأمنيات السياسية، فإن كلامهم كله يتمحور حول تكرار سرد مواقفهم، وشجب مواقف الخصوم، والمزايدة الأخلاقية عليهم، وكتابة كلام شاعريٍّ وعاطفيٍّ في القضايا التي يتحدثون عنها. بغض النظر عن الاختلاف والاتفاق مع هؤلاء، لا توجد فائدة كبيرة مما يكتبون، حتى في تحفيز النقاش الفكري والسياسي، لأن ما يكتبونه لا يتجاوز بيانات المدح والشجب، أو الخواطر الأدبية، مختصرةً على شكل تغريدة، أو ممغطةً في مقال.
لا علاقة لغياب التحليل العميق بضيق "تويتر" عن الحديث المفصّل، لكنه يرتبط بغياب القدرة التحليلية عند شريحةٍ كبيرةٍ من الذين يقدمون أنفسهم مثقفين، غير أن استسهال الكلام الشعبوي يتعلق بأجواء "تويتر" نفسها، التي تشجع على دغدغة عواطف الجمهور، لحصد مزيد من الانتشار للتغريدة وكاتبها. الخيار السهل بالنسبة لمثقفٍ يريد الانتشار هو الشعبوية، فعائدها أفضل، وهي لا تحتاج إلى جهدٍ كبير في البحث عن المعلومة، وتحليل المشهد القائم، فكل ما تحتاجه ركوب الموجة، والعمل مكبَّرَ صوتٍ لما تقوله جهةٌ سياسيةٌ ما وإعلامها، وتجييش الناس، من دون تثبت من المعلومات، أو التدقيق فيها، كما أن المزايدات على الآخرين تنفع في أجواء الشحن والتوتر التي نعايشها، وتجلب المزيد من المصفقين والمهللين.
تمثل الشعبوية فرصةً لمغرّدين لا ينتمون للمجال الثقافي، ليصبحوا مثقفين ومحللين استراتيجيين، فكثرة المتابعين وانهمارهم تغري بكتابة مزيدٍ من البيانات السياسية، ولعب دور المثقف والمفكر، والتحدّث بوثوقيةٍ عالية وجهلٍ أعلى، وطرح الرأي ونقيضه خلال فترة وجيزة، من دون الخشية من المحاسبة، اعتماداً على ذاكرة الناس القصيرة، وتعزيز الموقف من مجموعةٍ معينة.
عوامل عديدة تجتمع لتنتج ظاهرة البيانات السياسية في "تويتر"، وتبقى المسألة الأبرز تواري التحليل العميق الذي يمكن الاتفاق معه، أو الاختلاف حوله، لصالح الشعبوية، والتفكير الرغبوي، والمزايدات والاتهامات، بل والتحريض المباشر والفجّ على الخصوم. هكذا يكون هذا النوع من "الخطاب" استكمالاً لمشهد النخب العاجزة عن التأثير، والتي تظن أن كثرة المتابعين والمتفاعلين مع تغريدةٍ تغيِّرُ هذا الواقع، فيما هي تثبت العجز الذي يحاول النخبوي معالجته بالإغراق في السطحية، وتبني السائد من دون تفكير، لإشباع حاجته للتقدير، والنتيجة أنه مُلحَق بمن يمتلكون أدوات القوة، يردّد دعايتهم، ولا يُجهد نفسه حتى في تزيينها ثقافياً، ولو حاول فإن محاولته تثير الضحك والغثيان، في آنٍ معاً.