بين التعفيش المادي والتعفيش الأخلاقي

01 يناير 2017
+ الخط -
تتردّد هذه الكلمة خلال الأيام الماضية المرافقة لفصلٍ من المقتلة السورية بكثرة. والتعفيش يعني السرقة الموصوفة للأثاث والتجهيزات المنزلية، والذي يسمونه بالعامية السورية "العفش". ولكن فعل العفش في "لسان العرب" يعني جمع الشيء، وعفش الناس أسوأهم... المهم، وإثر كل عملية "تحرير" يقوم بها مسلحون "نظاميون"، أو من يلوذ بهم، تتم عملية التعفيش للمنازل المتروكة، ويجري حمل ما ثقل أو خفّ وزنه منها. كما يفكّ المعفشون الأدوات الصحية، كما الأبواب الخشبية، ويسحبون حتى الأسلاك الكهربائية من الجدران. وتجد هذه المواد المسروقة مكاناً لبيعها في أسواق مفتوحة، تُطلق عليها تسمياتٍ ذات حمولة انتقامية مثل "سوق الحرامية"، أو طائفية كما "سوق السنّة". لا يشعر أحدٌ ممن يقوم بهذه العمليات بأي حرجٍ، أو خوف من عقاب، أو مساءلةٍ لسبب تكويني، متعلق بمبدأ عسكري يتعلمه الفرد مجرّد تسليمه هويته المدنية، يقول فيما يقول: "عسكرية، دبّر راسك". أي أنه عليك أن تتدبّر أمرك في الإجازات، وفي الطعام، وفي التدريب، وفي الهروب، وفي "تزبيط" مرؤوسيك. وبالتالي، تقوم القاعدة الأساسية على التدبير والتبرير الشيطاني لهذا التدبير المستند إلى جملةٍ متداولة أيضاً، وفي كل الأوساط هي: "حلال على الشاطر".
في عصور ما قبل الدولة الحديثة، أو الوطنية، أو سمّوها ما شئتم، وحيث كان الملك يفرض سطوته بالسلاح والترهيب، في إطار جغرافي معين، فهو كان يمنح إقطاعاً لأمراء، حسبما يسدّدون من جُعالة. ويترك الحبل على الغارب لهم، ولعسسهم، في تدبير أمورهم، من حيث فرض الضرائب حيناً أو "تعفيش" ما يمكن تعفيشه لدى السكان، في الحيّز الجغرافي المنوط بهم إمارته. كما كانوا يستسهلون الأمر، حينما يغزون مقاطعاتٍ أخرى قريبة أو بعيدة. وقد انتشر هذا الأمر في أوروبا العصور الوسطى، كما في ممارسات القبائل، عربية أو سواها، من خلال الغزو والسبي والغنائم. وقد وجدت هذه الممارسات تبريراتٍ اقتصاديةً حيناً وجيوسياسية حيناً آخر، ودينية في أحايين كثيرة.
الأمير إذاً، أو الإقطاعي، أو زعيم المنطقة، أو رئيس العصابة يُعفّش في أملاك من يقعون تحت
 سطوته، دونما حسيب ولا رقيب. المهم أن يُسدّد إلى صاحب المعالي، أي من عيّنه، المعلوم الشهري أو السنوي. وقد تطوّرت هذه الممارسة في ظل نظمٍ استبدادية، وصل حد فسادها المؤسسي إلى أنها لم تعد قادرةً على تسديد رواتب من يعملون لصالحها، خصوصاً في المجالات الأمنية والعسكرية، فخصّصت لهم مساحاتٍ جغرافيةً محدّدةً أو قطاعات اقتصادية معينة، أو مصادر دخل ملائمة، بحيث ينهلون منها ما يشاؤون، ليسدّدوا، فيما بعد، حصةً للقائمين على أمور الاستبداد السياسي والاقتصادي والديني. وفي زمنٍ ليس بعيداً، طُرحت مسألة الرواتب والأجور الضئيلة التي يتلقاها الموظفون في سورية في جلسة لمجلس الوزراء، فانبرى رئيسه الصنديد، ليقول رداً على الشكوى، إن "من لا يرتشي ليُكمل دخله شخصٌ غبي". وانتهى النقاش عند هذا التصريح الصريح. وبالطبع، تختلف الرشوة المنظمة عن التعفيش في الشكل، ولكنها تعتمد القاعدة الاقتصادية نفسها: إقبَض لِتَدفَع. وحتى شرطي المرور الذي لا يتوقف عن الارتشاء، فهو يُسدّد "فروغاً" تجارياً لموقعه، ومن ثم عليه أن يُسدّد نسبةً مئويةً يتم الاتفاق عليها، حسب حساسية هذا الموقع وجذبه للرشاوي. كما في ذلك موظف الجمارك والشرطي العادي. الأمن مستتب إذاً عندما تكون الجعالات في خير وفي سيولة، ولا يمكن أن يستتب في حال توقفها أو ضآلة حجمها.
منظومة متكاملة دقيقة كميزان الصائغ، تم العمل عليها عقوداً، ولا يمكن أن تجبّها سنون قصار. فإن عملت باجتهادٍ في أوقات السلم، فلا بد لها أن تكون أكثر فاعليةً في أوقات القتل والتشريد والانتقام. وهي أسّست لأخلاقياتٍ محدّدة، لا يمكن التخلي عنها، ولو ممن يحاربها أحياناً.
في المقابل، هناك من لا يُمارس التعفيش البضائعي، ولكن التعفيش الأخلاقي، فهو ليس بحاجةٍ إلى سرقة ما تركه فقراء حلب من المتاع، ولكن "أخلاقه" و"ضميره" يُصرّان على أن يُشارك في جوقة المعفّشين (وهي ليست نفسها جوقة الفرح) من خلال تعبيره عن فرحه بالترحيل القسري لآلاف من أبناء جلدته الذين يسري في عروقهم دمٌ أحمر قان مثل نبيذ قانا، شهدت سيلانه شوارع المدينة ومشافيها. هو أيضاً، أي المُعفّش الأخلاقي، يعتبر أن دمه أزرق، وينفي الحقائق، ولو حتى قُدِّمَت له مُجرّدة من أية حمولةٍ سياسيةٍ أو أيديولوجية في سعي إلى تحريض "إنسانيته" إن وجدت. وهو يُخفي "شماتته" بأصحاب الدماء الحمر، ليس كما كان يفعل اليانكي بالهنود الحمر. فهو حضاريٌّ ويرطن باللغات الأجنبية، ويلبس القميص الأبيض الذي لا تلطخه دماء "الرّعاع" من البشر. وهو، في المقابل، يدّعي أعمالاً إنسانية يُرضي فيها ربّه، أو ضميره الاجتماعي الذي يحتاج دائماً لاستعراضه في الأمسيات الهادئة.
بعد عَفَشَ عَفَشُ الناس أملاك الناس، يُخشى أن يضطر المعفّش الأخلاقي إلى أن يلعق يوماً بسطار المستبد، رغماً عنه وبطريقة مباشرة، بعد أن مارس هذا "اللعق" رمزياً طوال عقود، حيث كانت صفته المتلازمة مع أدائه، هي التمجّد للمستبد.

دلالات
كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا
سلام الكواكبي
كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا