بين الفنّ والسياسة والتاريخ

23 ديسمبر 2019

فيلم "الناصر صلاح الدين" لم يسلم من التسييس

+ الخط -
ثمّة علاقة وثيقة بين الفنّ والسياسة، فلا يمكن فصل العمل الفنّي بتنويعاته (أدبياً، أم سينمائياً، أم درامياً، أم غنائياً) عن العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة به، والتي ساهمت، بشكل أو بآخر، في خروجه، والرسائل التي حملها للمُتلَقين، فالفنّ مرآة عاكسة للواقع السياسي والاجتماعي، كما أن للتوجّه السياسي للسلطة الحاكمة تأثيرا، لا يمكن إغفاله، على الإنتاج الفنّي ذي الطابع التاريخي بصفة خاصّة الذي يهدف إلى توثيق لحظة تاريخية معيّنة بكل مؤثراتها.
تنبّهت النُظُم الحاكمة مبكّراً للتأثير والدور الكبيرين الذي تلعبه الشاشتان، الكبيرة والصغيرة، على صياغة الوعي الجمعي للشعب باختلاف أجياله، مقارنة بدور الكتاب أو العمل الفنّي المقروء، مع الأخذ في الاعتبار عامل تفشّي الأميّة، وانحسار الشريحة التي تحرص على القراءة لأسباب متعدّدة يضيق المقام عن شرحها. فبُعيْد قيام تنظيم الضبّاط الأحرار في مصر بالانقلاب العسكري في 23 يوليو/ تمّوز 1952، والذي حمل في البداية لقب "حركة الجيش"، ثمّ "الحركة المباركة"، ثمّ "ثورة 23 يوليو" وإلغاء النظام الملكي والتحوّل إلى النظام الجمهوري، وما تبعه من إجراءات لاحقة، مثل إلغاء الأحزاب السياسية والألقاب والرُتَب الاجتماعية، واعتماد نظام الحزب الواحد أو التنظيم الشمولي الأوحد، وتطبيق الإصلاح الزراعي، انعكس هذا بصورة واضحة على الإنتاج الفنّي، فوفقاً لما ذكرته دريّة شرف الدين، أصدر رئيس مجلس قيادة الثورة، اللواء محمد نجيب، في 8 أغسطس/ آب 1952، بياناً إلى 
السينمائيين، تحت عنوان "الفنّ الذي نريد"، وفيه "السينما وسيلة من وسائل التثقيف والترفيه، وعلينا أن ندرك ذلك لأنّه إذا أُسيءَ استخدامها فإننا سنهوي بأنفسنا إلى الحضيض، وندفع بالشباب إلى الهاوية".
بعد ذلك خرجت أفلام سينمائية عديدة، حملت مضموناً مُسيّساً بدعم رسالة النظام الجديد، وأيّدته تأييداً صريحاً، مثل فيلم "بنت الأكابر" الذي انتهى بزواج عامل مصلحة التليفونات من ابنة الباشوات، بعدما أذعن "الباشا" في النهاية، واعترف بأفكاره الرجعية القديمة. وأحياناً كان التأييد بصورة مُفتعَلَة ومُقحمة على موضوع الفيلم، كما كان في فيلم "الحموات الفاتنات" الذي انتهى بـ"مظاهرة" عسكرية، شارك فيها جميع أبطال الفيلم، وهم يرددّون نشيد "الاتحاد والنظام والعمل" شعار "هيئة التحرير" باكورة التنظيمات الشمولية لدولة 23 يوليو. ثمّ ظهرت أفلام أخرى، انتهت بزواج بطلها الضابط من بنات الأسرة المالكة أو الأرستقراطية، مثل "الله معنا"، ثمّ الفيلم الشهير "ردّ قلبي" الذي يمثّل إحدى الثيمات الفنّية البارزة للنظام الناصري، وظلّ عدّة عقود ضمن "المُقرّر" السنوي الذي يعرضه التليفزيون المصري في الذكرى السنوية لانقلاب 23 يوليو، مع أفلام أخرى صبّت في الاتجاه نفسه، مثل "في بيتنا رجل"، و"غروب وشروق"، حيث كان القاسم المشترك فيها أن الحياة في مصر كانت سواداً في سواد حتى يوم 23 يوليو الذي أخرج مصر من الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل، ومن الرجعية إلى التقدّمية.
بعدها ظهرت أفلام أخرى، مثل "نهر الحبّ" الذي حرص على تصوير "الباشا" في صورة شخص شديد الرجعية متجرّد من المشاعر ولا يعرف سوى مصالحه، وفيلم "الفتوّة" الذي تعرّض للبنية الاجتماعية التي كانت في العهد الملكي ممثّلة في مجتمع سوق الخضر، والقوى 
الرأسمالية المحتكرة له، على اختلاف درجاتها، والتي ترمز إلى "الإقطاع"، وتتحكّم في أسعار أقوات الشعب بصورة فاجرة. وحتى فيلم "الناصر صلاح الدين"، عن صلاح الدين الأيّوبي، لم يسلم من التسييس وتطويع التاريخ كي يتناغم مع سياق الحقبة الناصرية.
وبعد تغيّر رأس السلطة بمجيء أنور السادات، وتمكّنه من القضاء على مراكز القوى في 15 مايو/ أيار 1971، ونسجه تحالفات خارجية، وانتهاجه سياسات اقتصادية واجتماعية، على النقيض من تحالفات وسياسات سلفه، خرجت في السبعينيات أفلام نددّت بنظام الدولة البوليسية، وبتجاوزات الأجهزة الأمنية في الحقبة الناصرية، مثل "الكرنك"، و"طائر الليل الحزين"، ثمّ "احنا بتوع الأوتوبيس"، حيث تعرّضت للانتهاكات التي انصبّت على المواطن من الأجهزة الأمنية التي تغوّلت بدرجة كبيرة في الستينيات.
وإذا انتقلنا إلى الأعمال الدرامية ذات الطابع التاريخي، لوجدنا التسييس حاضراً بدرجة لافتة، على سبيل المثال العمل الدرامي الأشهر والأكبر في تاريخ الدراما المصرية والعربية، مسلسل "ليالي الحلمية" الذي تعرّض لتاريخ مصر الحديث، منذ الأربعينيات، وحتى نهاية القرن العشرين، وما شهدته تلك العقود من تحوّلات سياسية واقتصادية واجتماعية. كان حيّ الحلمية الساحة المكانية لأبطال العمل وشخصياته، على اختلاف طبقاتهم، وتوجّهاتهم، بداية من أربعينيات القرن العشرين، وجاء على ذِكر جميع الطبقات الاجتماعية، بدءاً من العمّال،
 واللصوص والراقصات (العوالِم)، ومروراً بالأفندية والموظّفين، وانتهاءً بـ"الباشوات والهوانم". ومثّلت تلك الشخصيات جميع التيارات الفكرية، من الماركسيين إلى الليبراليين إلى الضبّاط الوطنيين، إلا أنه أغفل تماماً أي إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من أن "الحلمية" كانت معقلهم الرئيسي حينذاك، في فترة ذيوع الجماعة. وخلا العمل من أيّ شخصية وطنية وفدية، على الرغم من أن حزب الوفد، في النصف الأوّل من القرن العشرين، كان بمثابة رأس حربة الحركة الوطنية في مواجهة القصر والاحتلال، وهي سقطة كبيرة في العمل، فجميع التيارات الفكرية، مهما بلغت مساحة الاتفاق أو الاختلاف معها، تظل جزءاً من تاريخ مصر، لا يمكن لأحدٍ أن يحذفها من المشهد التاريخي.
ليس الحديث هنا عن رأي الكاتب أو المؤلّف في تيار بعينه، أو حقبة بعينها، سواء أعلى من شأنها، أم شدّ عليها النكير، فالتناول هنا يخرج عن التحسين أو التقبيح، إلى درجة التسييس الصريح، و"الأَدْلَجَة" الفجّة التي تستبطن إعادة صياغة التاريخ بصورة انتقامية.