[تحتل المدينة بصخبها وأوجاعها، بتداعياتها الدقيقة والسريعة، وتغيراتها العمرانية والإنسانية حيزاً مهماً في قصيدة فاهي أرسن، الشاعر الأرمني المولود في يريفان (العاصمة الأرمينية) عام 1978.
في قصيدته، يبدو أرسن منهمكاً في صناعة أسئلة وأجوبة غير منتهية، تسقط فيها ملاحظات شخصية وتاريخية. كذلك، تختلط اللغات والحدود بين الشخص والمكان، والعاطفة والكيان العمراني. ويمكن أن يستحيل أي حدث خارجي، عامٍ ودعائي، إلى تفصيل في القصيدة، يحاول الشاعر إحاطته بما يقلل من برودته، وبالتالي شحنه بامكانية دلالية غير متوقعة.
قصيدة فاهي أرسن قد لا تتودد إليك من اللحظة الاولى، نظراً للقالب غير المألوف الذي يحبك ضمنه الشاعر عبارته، وأفكاره، والتي يطلقها في أكثر من اتجاه، ويتلاعب بها في نبرة غنائية غير معلنة إلا بالتكرار الذي نلاحظه في اسم مكان أو عبارة أو فعلٍ ما. كما يلاحظ القارئ أيضاً اهتماماً لدى أرسن بوضع سمات تجريبية/ تجديدية للقصيدة.
يعمل فاهي أرسن محاضراً في قسم الآداب العالمية في جامعة يريفان وقد تَرجم إلى الأرمينية عدداً من الشعراء عن الانكليزية والروسية. له مجموعتان شعريتان: "دراجة هوائية محلِّقة" (2003) و"عودة الآلهة الخُضر" (2007) كما صدرت له مجموعة مترجمة باللغة الروسية وأخرى بالهولندية].
موسيقى هادئة
دائماً ما يجد الموت أعذاراً
كل شيء يَسوَدُّ فور ولادته أبيض
أو خلقه..
بِيانُك غَشَّنا
جعل منا صُمّاً
اختصرنا إلى لحظة..
لوحة مفاتيح سوداء تماماً
صوت بنغمات باهتة
حبل صوتي
ينبض زوراً ضمن خطوط خمسة
نازلاً دوماً في رحلة من خطوط ضرورية
من طرقات مشاة محمرّة
الإنسان محض تخطيط أجوف
ضربات غير متقنة من الطبشور
اضمحلال
داخل الجلد المتشقق
يجد الموت دائماً أعذاراً ما
مصير عابر سبيل أرعن..
الجلد المتشقق يباغتك لثانية واحدة
دم سميك يزحف بمهارة
شخص ما دائماً يقف
أمام باب حظيرة اللحظة
في الهواء غير المرئي ابتسامةٌ تتلاشى
مراوغة
ضباب كثيف يصّاعد
ذلك ما يملِّس ثلج الأيام
عازفاً موسيقى هادئة في أذني
متبختراً..
لوحة مفاتيح كاملة بلون أسود..
نحو أرقك
منتصف الليل يقف كجندي
منتظراً نهاية الحرب،
حلم داخل حلم
في هواء الليل الثقيل
الذي علقت به النار فاشتعل فجأة
غير مبصر توأمه
وكنتُ هناك مسرعاً نحو أرقك
تحت الطين المتشقق
للسقوف، في المدينة نجم مبيَضٌّ
في راحتي.
يدي مكنسة كهربائية
لتجفيف الليل،
وأنا عنصر من صحراء بيضاء حارة،
متجانس، أكنس كل شيء آخر.
أتكون أغنيتي ولدت في الطريق؟
لكن كيف لأحدهم أن يسمع صوت
التراب المكوَّم فوق النفق؟
أثمَّة بروتوكول صحيح؟
بالطبع، كنت مسرعاً
نحو أرقك، حافي القدمين مسرعاً،
متلصصاً من ثقوب مفاتيح الأبواب،
منازل تفيض بالماء، جذور مقتحمة
الأخاديد،
خطواتي متعرجة
ولم أبصر توأمي.
كنت مسرعاً نحو أرقك
تحت التنفس المريض لمكيفات الهواء
على طول الطريق نحو غابة السماء النهائية،
على طول الطريق السابقة ارتطام العبيد بالعبيد
من يد ليد.. ولم أر توأمي.
اجتثثنا المدينة. آخذين من هنا وهناك
برعماً زهيداً، جذوره ملفوفة بورق صحيفة
مقحمين الجذور والصحيفة
في فراغ حفرة.
نعم، كنت مسرعاً..
كنا جميعاً مسرعين
نحو أرق بعضنا البعض
وفي الحديقة تفاح يتساقط
متفسخاً بملامسته التراب
متفسخاً إلى أن يصبح كل شيء حقيقياً..
متفسخاً نحونا.
كنت الرب، كنا الأرباب
ولم أبصر توأمي
وأنا مسرعٌ نحو أرقك.
الدرابزين
الآن يمكن للنهر أن يُرى
من وراء الدرابزين،
الدرابزين
والنهر يرتسمان بوضوح –
والآن الدرابزين،
زوج من الأيدي، النهر يرتسم
عيناي، قوارير ماء متداعية،
جسدي، العاطفة والجلد
في شكل إوزة متخبطة
في طور خطواتها
سر، سر، سر باتجاهها
لكن تردد..
ناطحة السحاب هي نفسها جسر الحياة،
من فوق، الناس كما لو أنهم نهر متشظ،
الناس يُرَون من فوق بالحجم الحقيقي،
أنظر
بنفسك
والآن حب صديقك
كما تحب
نفسك
الآن النهر يمكن أن أن يُرى
الدرابزين أيضاً، زوج من الأيدي،
والنهر يرتسم
والدرابزين وزوج من الأيدي..
لا، النهر فقط..
في درب شمس ضائعة
يتمزق الليل مولداً شمساً جديدة
قديمة في نفس الوقت،
شمس لدروب ضائعة
تصير حذاء، حذاء طفل من أجلي
سيارة لعبة من خرافة قديمة
أو مفكرة يومية حقيقية
تتشبث بجلدي.
في الصفوف المظلمة للعمال
أبحث عن فرسان،
شاعراً في منخري برائحة بالية
لأوراق نقدية باهتة
سواء كان الباب مشرعاً
أم معلقاً في الهواء،
اعبرْه
اعبرْ في الحياة، المعيشة،
إذا كان الموت حقيقياً بالنسبة لك..
هل يمكن لي ولحامل سلاحي
على الحمار خلفي
أن ننقذ البطلة الجميلة،
أن نغيّر حبكة مصيرها
ننقذها باسم الحب الذي لم تعد بحاجة إليه؟
أحلام عفا عنها التاريخ تحت
ملاءات مدرَّعة..
دون كيشوت، صديقي
لقد ولدتُ متأخراً
على لقياك
وأنت ما ولدتَ أبداً،
متحولاً فقط إلى رسالة وبطل.
دون كيشوت، بجسورك الوهمية،
أعد طواحين الوقت إلى الوراء.
عيناك تريان الأرض تدور
دعني أتذوق وأشم
مجرى النهر في الاتجاه المعاكس..
أو أن الأمر مناسبة وحسب؟
سبب لرؤية الشمس؟
تأخرتُ قليلاً
النهر أصبح دفقاً يومياً،
مكالمة هاتفية رتيبة
واقعاً..
جمد اللحظة
النهر دوماً بلا حركة،
متشبثاً بالكاد بالأرض
أمين
بخلافنا
أنا
أنت
والمدينة
في الليل المضاء بمصباح كهربائي
ترتّب المدينة واجهتها
السياسية،
تصنع وجوهاً في المرآة
تلوّي الوقت مغطية نيزكاً براحتها
ربما يكون الاخير هذه الليلة
فتاكاً
وأن يستمر المطر بالهطول طوال الحياة
على يدينا في نفس الوقت..
لم نثر اهتمام الزمن
لم يبالِ بنا..
الزمن هو المدينة فقط،
الزمن هو أنا
حين أعبر الجسر.
باريس أبداً غير جديدة
من نافذة فندق إلدورادو الناعس
نفخت الريح ورقة اللعب خاصتي ورفعتها بعيداً.
كل ورقة لعب رمز لرجل مرقّم،
كل ورقة تصبح عصفوراً، ليسقط، ثم يطفو
نحو الشمس..
كما لو أنه دفع من سقف القرميد الأحمر
لبسترو دي دام، في شارع يحمل الاسم نفسه.
صهيلنا الوقح البارحة يُسمع هنا.
اليوم تعانقينني، أشعر برطوبة منشفتك
في ظهري..
باريس ليست أبداً جديدة، إنها تشبهنا، في هذه المدينة
كل جسم يصبح عصفوراً في سقوطه.
هل تذكرين نفسكِ آتيةً
بالتهاب رئوي ومعطفي على كتفيكِ،
معطفي الغافل لالتهابك الرئوي
وحبك؟
باريس ليست أبداً جديدة أو قديمة..
حُمّاكِ جاءت من المدينة القديمة
وهنا
تحت القطار
لا سبب لأن يصاب المرء بالحمى..
الماء لم تأخذ معها
آثارنا،
حتى هنا في باريسنا
حيث بتمثال همنغواي الشمعي
يمكن أن تشفي جروحاً قديمة متكررة الحدوث،
هنا حيث قطار الأنفاق يقترب
كقريب، بلا حاجة لجوازات سفر.
على ضفة السين الطريق الرث بدا عادياً لنا،
كأننا اخترنا أحذية بكعاب مسطحة، أحذية مناسبة..
شيئاً رخيصاً جداً..
الشك حدود شديدة القوة..
تحت ضوء الغيم الأبيض والأسود كان
برج إيفل، سيقانه العظيمة منفرجة،
وقفت باستعداد لتمارس الحب معنا
في الأبدية
باريس ليست أبداً جديدة..
رائحة الكحول والأزهار غير المسماة بعد
ممتزجة. الحب يغمر المباني
وجهاً لوجه، دلال كما لو أن الدلال كلب ضائع
يبحث عن صاحبه.
نسيت الخوف والحاضر.
نسيت كل ما ولد في دمي
وبدا ثابتاً، كجدار المطبخ.. تحت
الموسيقى الحبرية لبيسترو دي دام!
دفئك صعد مرة أخرى إلى السماء
ولا سبب لوجوده في شقتنا المنوّرة بالشمس
دلفنا إلى الخارج كريحَيْن متصارعتين
مودعين إيانا في القطار الأشبه بجرادة هزازة، T3
مسرعين إلى حديقة مونسو
للبحث عن أسباب..
لوقت طويل كانت المدينة لنا
حتى الليل ليس بامكان إنكار ملكيتنا.
في هدوء ليل باريس، الصراصير توزع مخدرات
في قلبينا، جاعلة جسدينا يرتجفان
بالإيقاع ذاته الذي لأغنيتها.
مهرجو الشوارع يحرسون الشفق الذي يتكثف
حين تتصلّب التماثيل المذهبة. الآن
كل الحشرات ستنفجر كألعاب نارية
فقط من أجلنا..
وحين تنفجر الألعاب النارية
سأمسح بشفتيّ كل الخوف والبرد
عن شفتيكِ..
دعينا من الجديد والقديم، سحب الدخان
كانت تغطي أوروبا،
طائرتنا – مدفونة حتى الركبة
في الرماد البركاني، مبتلعاً كل شيء.
ضحكتُ، شامتاً بك منكمشةً- لعوباً في قلق
من طبيعتها المعدنية..
فرس نهر رُسِمَ بغيمة غبار
وأعطيناه أجنحة من الريش المجاور له
لإعطاء مصداقية أكبر للصورة.
الغبار كان لوقت طويل رماداً
أو أن الرماد تظاهر بأنه غبار، غامراً رأسينا
بالمشيئة الإلهية..
هذا الغبار الذي لا يقاوم جعل باريس أقدم، تشيخ كبرميل من خشب المشمش
تذكرت ظلك قرب السيارات، متماوجاً
فوق رصيف البازلت..
وفي ذهني سحبتك من ذراعك – منقذاً إياكِ..
رطوبة منشفتك في جسدي..
تأخر كل شيء في مطار شارل ديغول
عدا الحب..
ارتفع كطائر فينيق من أجلنا، سكان بومبي
لكن باريس لم تعد جديدة..
باريس تعانقك كصديق قديم ثمل
حتى قبلته المعقّمة
تسرّ القلب..
بعد ارتطام البروتونات لا شيء حدث.
تحولنا إلى الكليَّ فقط في
النهارات المتداعية
ناسين المدينة الجديدة ذات البصر الكهربائي.
الباص ابتلع بالثقب الاسود لقبلتنا
كنا ننظر إلى الضوء، الدافئ، الواهن،
الزائل. كنا ننظر مندهشين
إلى دقة وبرودة أضواء الوصول
في مسار ليس لنا.
شيئاً ما تحرك قرب مقعدنا، مهمهماً،
فهمتُ كيف يفقد متسول
جنسيته، شقته
حتى في باريس. إلدورادو؟
الإلدورادو خاصتي!
كمصيري – إدغار ألن بو وفندق رخيص...
باريس لم تُجَدَّد أبداً
كدعاية أورنج حول وعود الاتصالات
السلكية واللاسلكية (كما في يريفان).
لكن أنا وأنت بدونا مصبوبين
من حجر نيزك
وظلالنا ابتلعت
باللحام الحارق لمشبك
ذراعينا، وقررنا أن نكون
في أسفل الدرك،
باسم الحب..
أنتِ كعاهرة في الشانزليزيه
وأنا آخر، آخر الأمراء المتخمين بالدم الملكي
وحبنا يظل قروناً
مفرقاً في سكك القطارات..
(آه، لقد كتبت فعلاً عن هذا!)
رطوبة منشفتك تخدش الأرض..
كل ما
حدث لنا..
بعدنا..
الحلم النهاري بمدينة تحت الرماد البركاني،
دروان كل الكواكب في مداراتها
والمطار القديم متوارٍ تحت الرماد
ومن أجلنا سينبثق مجدداً
في غضون يومين.
ترجمها عن الإنكليزية مازن معروف