02 نوفمبر 2024
تأملات في مرايانا.. عن الجماهير والعقلانية والخوف من الحرية
منذ نحو عشر سنوات، والمجتمعات العربية تتدافع وتتلاطم بموجة احتجاجات عاتية خلخلت الدعائم التي قامت عليها الحكومات العربية طوال ما لا يقل عن نصف قرن، ونقلت العالم العربي من الثبات (الإستاتيكية) إلى الحركة (الديناميكية). ومع ذلك، لم تستقر أحوال العالم العربي بعدُ، وما برحت حركات الاحتجاج تتجدّد بقوة، وتُشعل ميادين العراق ولبنان والجزائر، بعدما تمكّنت من إسقاط الحكومات في السودان والجزائر وتونس ومصر والعراق، بانتهاجها أسلوب الاحتشاد السلمي تحت زخّات الرصاص. وطوال عشر سنوات، شُغل الفكر العربي بتلك الدينامية السياسية الهادرة، وتوصل مفكرون إلى خلاصاتٍ متباعدةٍ ومتنافرة، أكثر عددًا أحيانًا من عدد المفكرين أنفسهم. ومع ذلك، ما زالت الحقبة الحالية غبارية جدًا ومشوشة وفوضوية، وليس سهلا ألبتّة استكشاف المسارات التي تسير الجماهير المحتجة على خطوطها، أو التنبؤ بما سيتولّد منها، لأن هذه الحقبة هي إحدى اللحظات التاريخية الحرجة والسديمية في الوقت ذاته. وتكمن سديمية هذه الفترة وفوضويتها في أن محرّكي الموجة الجديدة من الاحتجاجات العربية مرئيون وغير مرئيين، محجوبون ومكشوفون معًا، ومتداخلون ومتخارجون في آن. وهذا الأمر يجعل مرايانا العاكسة مغطّاةً بالضباب والغبار. وفي أي حال، صار مؤكّدا أن محرّكي الاحتجاجات يختلفون تماماً عن النخب الديمقراطية التي عرفها القرن العشرون، وقد صاغ هؤلاء شعاراتهم الجديدة بالتركيز على قضايا الحرمان والتهميش والبطالة والعدالة الاجتماعية والحرّيات، ولم يجعلوا الديمقراطية، كنظام سياسي، في رأس أولوياتهم المطلبية. أما مَن راح يرفع لواء الديمقراطية فهم أبناء الشرائح العليا الباقية من الطبقة الوسطى الذين لم يمسّهم الحرمان والتهميش، ولم تمسّهم نيران البطالة والفقر.
النخب التي ناضلت في سبيل الديمقراطية في القرن العشرين كانت تنتمي إما إلى الشريحة العليا من البرجوازية الصغيرة، أو إلى الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، وهما متقاربتان، ذلك لأن تلك الطبقة كانت تتوسّع وتمتد، كلما اتسع نطاقا التنمية العربية والتعليم الجامعي، ما سمح بحراك اجتماعي جعل صعود أفرادٍ من الطبقات الفقيرة إلى مصافّ الطبقة الوسطى ممكنًا. ولكن، مع ارتباط سياسات التنمية بالنفط والنيوليبرالية بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، جرى سحق الطبقة الوسطى شيئًا فشيئًا حتى قاربت الإفناء. وهكذا صرنا، في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، أمام وضعٍ مستجد؛ طبقة غنية جدًا ومتغوّلة، تمتلك دولة وجيشًا، وطبقة شبه فقيرة، تكافح كي لا تُسحق نهائيًا وتتهاوى إلى مراتب العسر. وجرّاء ضمور الطبقة الوسطى، انحسرت الأحزاب والنقابات والمنتديات الأدبية والمنابر الفكرية والصحف، وهي العناصر التي كانت الطبقة الوسطى تستمدّ منها قوتها سياسياً وفكرياً وإعلامياً.
كانت المقاهي في المدن العربية (والمضافات في القرى) مكان اللقاء والتواصل وتبادل الآراء
والمعلومات في زمن المذياع. ثم صار صالون المنزل مكان التواصل وتبادل الآراء والمعلومات في زمن التلفزيون. أما اليوم، فقد حلّت الهواتف الذكية في محل المقهى والصالون، وباتت هي الوسائل المثلى للتواصل وتبادل المعلومات وتكوين الآراء، فيما اندفع الناس، في لحظات الاحتجاجات، إلى الميادين، باعتبارها المكان الأمثل الجديد للتلاقي الجماعي والتفاعل وإشهار المواقف والمطالب ورفع الشعارات. في الماضي، كانت المقاهي والصالونات والأندية هي أمكنة النخب، بينما الساحات والميادين هي أمكنة الجماهير. أما اليوم فقد تحوّلت الساحات إلى مكانٍ تتلاقى فيه النخب والجماهير معًا لصنع السياسة.
لم تندفع الجماهير إلى الشوارع في تشيلي جرّاء الزيادة في سعر تذكرة المترو وحدها، أو بسبب الزيادة في سعر الخبز في السودان، أو فرض رسوم جديدة على استخدام الواتساب في لبنان. كان ذلك هو القطرة التي أفاضت الماء من الكأس، فاندفع الناس بعفويةٍ للاحتجاج في الساحات والشوارع، بعدما فاضت ملكة الصبر، وصار من غير الممكن السكوت عن واقع الحال المهين. وإذا كانت الاحتجاجات قد اندلعت بعفويةٍ في بداية الأمر، إلا أن انضمام أعداد متزايدة من النخب جعل الأمور تتجه، بالتدريج، نحو التنظيم والتنسيق والتوجيه بحسب تطورات الميدان ومواقف السلطات. واشتُهرت في هذا المجال نقابة المتقاعدين في تشيلي التي أرغمت الرئيس اليساري المنتخب، سيباستيان بينيرا، وهو من السكان الأصليين، على التنحّي عن الحكم لمصلحة اليمين، وكذلك نقابات المعلمين والمرأة في السودان، وعدد من المجموعات الشبكية اللبنانية المدرّبة في الخارج والداخل، وعدد من الناشطين متعدّدي الاتجاهات والأهواء الذين اكتسبوا خبراتٍ متفاوتة في أثناء احتجاجات عام 2015 وبعدها. والمجموعات الشبكية، أو الشبكات الاجتماعية، هي مجموعاتٌ مقصاةٌ سياسياً في معظم الأحيان. ولكنها وجدت في شبكات التواصل الاجتماعي ضالتها، وتحولت، بحسب منطق العصر، مجموعاتٍ معلومة، أي أنها تتواصل مع العالم، وتزور دولاً كثيرة، وتشارك في مؤتمرات ومنتديات شتّى، لكنها، مع ذلك، لا تتواصل مع الناس في بلادها إلا قليلًا، خصوصًا في أثناء الحراكات المفاجئة. وتلك النخب الجديدة المعولمة لا تجتمع تحت أي قبة أيديولوجية، ولا تمتلك قيادة هرمية، بل هي مؤلفة من أفراد على هامش المؤسسات يتجمعون ضد المؤسسات، خصوصًا مؤسسات الدولة ومؤسسات الأحزاب والقوى السياسية. ويحيل هذا الوضع إلى تغير جوهري في المجتمعات العربية، وهو أن دور القادة الملهمين انحسر كثيرًا لمصلحة النخب الجديدة التي راحت تستولي على الساحات والميادين والشوارع، وسلاحها الوحيد هو الهاتف المحمول والإعلام المرئي، مع قدر كبير من الشائعات والصور الصحيحة والمفبركة التي تجتاح عقول الناس وأبصارهم عبر الهواتف الذكية. ومع أن شائعاتٍ كثيرة تنتقل بالعدوى، إلا أنها لا تعيش طويلاً بعد برهان زيفها وضحالتها، فيما تأثير الصور، حتى بعد أن يثبت كذبها والتلاعب بها، لا يُمحى على الفور، لأن تأثيرها المتراكم يحدّد، إلى درجة ما، مستوى وعي الناس المحتجين؛ فالشائعة كانت دائمًا أقوى من الحقيقة. وأبعد من ذلك، ما عاد الجمهور اليوم يتجسّد في هيئة العمال وحدهم (البروليتاريا)، أو العمال والفلاحين وصغار الكسبة، بحسب الأدبيات الشيوعية المتقادمة، بل صار مرجلاً كبيراً يضم العمال والحرفيين والمهمشين والعاطلين من العمل والمزارعين والخائفين على المستقبل من أبناء الطبقات الوسطى، والمتطلعين إلى دولةٍ أكثر عدالة، والمثقفين والأكاديميين والنخب المهنية وربات المنازل ومجموعات الدفاع عن البيئة والحقوق المدنية وأصحاب المصالح، بمن فيهم بعض رجال الأعمال. إنه اختلاط عصر العولمة والنيوليبرالية الذي جعل المفكرين مثل جرس الكنيسة: يدعو الناس إلى القدّاس، لكنه لا يدخل الكنيسة.
لولا الحلم
الفكرة الرائجة في الفكر السياسي المعاصر هي أن الناس حين ينخرطون في الأحزاب السياسية، ويتجمهرون ويتظاهرون، إنما يتحرّكون بشكل عقلاني، ويفكّرون بطريقة منطقية. وهذه الفكرة
انقلبت لاحقاً رأساً على عقب، وراح علماء الاجتماع، وعلماء النفس الجدد، يركّزون على ضرورة وجود أسطورة لتحريك الناس، وهو أمر غير عقلاني. ولولا الحلم الطوباوي بإمكان إقامة الجنة على الأرض لما ثار العمال في أوروبا والتحقوا بالأحزاب الشيوعية، ولولا عشق الأمة والشغف بتاريخها لما انضمّ الناس، زُرافاتٍ ووحدانًا، إلى الحزب النازي أو الحزب الفاشي. وما فعلته الأديان، وحتى حركات الإصلاح الديني، وكذلك الثورات الكبرى، كالثورتين الفرنسية (1789)، والروسية (1917)، إنما هو توحيد مخيلة الجماهير وإلهاب حماستها. وبرز في سياق ذلك نابليون بونابرت ولينين وستالين وتروتسكي وغاندي وجمال عبد الناصر.
كان الدين هو المثير الأكثر قدرة على إثارة حماسة الجمهور ودفعه إلى التضحية. وتجسد هذا الأمر في حروب الفرنجة الذين رفعوا راية تخليص قبر المسيح من أيدي الكفار المسلمين، واتخذوها ذريعة لمهاجمة بلاد الشام. والحال نفسها تردّدت في حروب الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، وفي حروب استرجاع شبه الجزيرة الإيبيرية من العرب. ولكن، مع تعلمن أوروبا، راحت الأيديولوجيات السياسية والجمعيات المساواتية والنقابات تحلّ في محل الدين، واقتربت الأفكار الجديدة، خصوصًا الشيوعية، من أن تصبح دينًا معلمنًا إلى حد ما.
يقول مكيافيلي في كتابه الأمير: "الدين والسلاح هما من أدوات الحكم. والحاكم يحتاج إليهما دائمًا: الدين في زمن السلم، والسلاح في زمن الحرب". واعتقدنا، مع انحسار تأثير الدين في تفكير الناس، أن العلم ربما يضطلع بمنحهم بعض الأمل، وإضفاء معنىً جذّابٍ على حياة البشر. لكن مشكلة العلم أنه لا يكذب، فيما الأمل يحتاج إلى كاذبٍ ساحر على غرار القادة السياسيين التاريخيين والزعماء الملهمين ورجال الدين الأذكياء وممثلي السينما وأبطال الحروب ولاعبي كرة القدم. ولا بد، في جميع الحالات، من وجود قائد يحرّك النشوة في الجماهير من دون إقناع عقلي أو محاججة منطقية؛ قائد يبعث الثوة في الناس إما بسحره الخاص (الكاريزما)، أو بسحر العقيدة التي يروّجها. والاحتجاجات لا تخضع للتفكير العقلاني، والقائد القوي هو الذي لا يهتم بالأفكار الواقعية والانسجام المنطقي، بل الذي يسيطر على مشاعر الناس، ويخلع عليهم أحلامًا طوباوية، ويثير فيهم غريزة القوة على منوال هتلر وموسوليني وستالين ومصطفى كمال (أتاتورك) وماوتسي تونغ والخميني. وفي المجتمعات العربية القديمة، كلما اجتمع عدد من الأفراد في مكان ما أمّروا عليهم أميرًا أو زعيمًا أو قائدًا. وأمثولات التاريخ لا تنتهي في هذا الميدان، فالفرد من الجماهير كثيرًا ما يجد حريته وسعادته وتوازنه وتماسكه في عبادة قائده الأسطوري، ويندفع إلى التضحية بحياته في سبيل معبوده. وفي أي حال ليس التوق إلى الحرية شأنًا بدهيًا في الطبيعة الإنسانية، وثمة رغبة غريزية في الخضوع لزعيم سياسي أو زعيم قبلي أو زعيم ديني. وإذا كانت ملايين الناس تقاتل في سبيل العدالة الاجتماعية أو الحرية، فإن في مقابلها ملايين الناس تهرب من الحرية، وتسلّم أمرها إلى الدكتاتوريات، ربما لأن تحرر الفرد يعني التحرر من روابطه الروحية والقبلية، ومن ماضيه أيضًا، وهو ما يجعله وحيدًا وقلقًا وأكثر خوفًا، ويحتاج إلى مخارج تعويضية، كالاحتماء بالزعيم السياسي، أو التعلق بالأبطال، او اللجوء إلى مقامات الأنبياء ومزارات الأولياء.
استعادة غوستاف لوبون
من غير الممكن فهم تحرّكات الجماهير المفاجئة استنادًا إلى علم الاجتماع وحده، أو إلى علم السياسة منفردًا، أو إلى الفكر السياسي وعلم الاقتصاد مجتمعَين، بل لا بد من الالتفات إلى
مكتشفات التحليل النفسي للجماعات، وإدماجها بالنتائج التي يمكن استخلاصها من علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة معًا، مع أن الباحثين في هذه العلوم قلما توقعوا الثورات المفاجئة، وكانت أبحاثهم تبدأ بعد انفجارها وليس قبلها. وفي هذا الميدان، يستعاد كتاب غوستاف لوبون "سيكولوجيا الجماهير" الذي صدر أول مرة في عام 1895، وتُرجم مرارًا إلى العربية في غير ترجمة متفاوتة القيمة، وآخرها ترجمة هاشم صالح الصادرة في بيروت عن دار الساقي (2016). ومع أن الكتاب صار قديمًا، إلا أن اكتشافاته السلوكية في علم النفس الجمعي، على الرغم من ميله إلى احتقار الجماهير، تجعل إعادة قراءته اليوم ضرورةً معرفيةً في حقبة الاحتجاجات الجماعية. وقد أثنى على الكتاب ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو، مؤسسا مدرسة فرانكفورت، واعترفا بأن أطروحاته تحقّقت بدرجة مدهشة. وكتبا ذلك الثناء بعدما حارا في الجواب عن السؤال التالي: لماذا احتشدت الجماهير تحت راية النازية في أكثر الدول الأوروبية تقدّمًا وحداثة، أي في ألمانيا؟ وكيف عجز التنوير والعلم عن منع ذلك، الأمر الذي أتاح لهما الاستنتاج أن عصر البربرية عاد مجددًا إلى أوروبا.
يقول غوستاف لوبون في كتابه: الجماهير محافظة بطبيعتها على الرغم من تظاهراتها الثورية، لأن الماضي أقوى لديها من الحاضر بكثير (ص 32). والماضي هو الانتماءات الدينية والطائفية والعائلية. والشعب نفسه هو أحد مخلوقات الماضي، "وهو مثل جميع الكائنات العضوية الأخرى لا يمكنه أن يتغير إلا بالتراكمات الوراثية البطيئة. والقادة الحقيقيون للشعوب هم تقاليدها الموروثة (...). ومن دون الإزالة البطيئة والمتدرجة لهذه التقاليد لا يمكن أن يوجد تقدم" (ص101). وإذا كان "اللاوعي" أو "الوعي الباطن" هو أساس السلوك لدى الفرد، بحسب سيغموند فرويد، فإن الأمر نفسه لدى غوستاف لوبون الذي رأى أن الجماهير تتحرّك بدافع "اللاوعي الجمعي". الفرد يتحرك بوعيه الذاتي، لكن الجمهور يتحرك بصورة لاواعية؛ فالوعي فردي، فيما اللاوعي جماعي. والسؤال هنا: هل ثمة حقًا لاوعي جمعي؟ إنه سؤال سجالي وخلافي معًا. ومهما يكن الجواب، فإن المتفق عليه إلى درجة كبيرة القول إن الجماهير غير عقلانية، وتصل أحيانًا إلى مرحلة الهوس بمطرب معين أو ممثل أو فريق كرة قدم. فماذا نَصِفُ الجماهير التي تحتشد على جانبي طريق، وتبقى في مكانها ساعات كي تشهد، للحظات معدودة، مرور زعيم أو مغنٍ أو رجل دين يحظى بنوع من التبجيل أو القداسة؟ إذاً، الاحتشاد والتظاهر الاحتجاجي لهما سمات لا عقلانية بل غريزية. والجماهير في الميدان والساحات والشوارع مؤهلة للممارسة الاحتجاجية المباشرة وغير مؤهلة للتفكير العقلاني، لأنها، في احتشادها، تخضع لمحرّضات الميدان التي تثير ردّات فعل فورية. والأفراد، في هذه الحال، يتصرّفون تحت تأثير النخاع الشوكي لا الدماغ.
نعم لمطالبكم لا لوسائلكم
ليست الجماعة هي نفسها حاصل جمع الأفراد، فما أن يصبح الفرد واحدًا من الجماعة حتى
يتغير. والجمهور، في مضمونه، هو انصهار أفرادٍ من فئات اجتماعية متفاوتة ذات عاطفة جامعة في لحظة احتجاج. وهذا الانصهار يمنحهم الإحساس بالقوة بعدما كانوا أفرادًا ضعافًا أمام عسف السلطات. والتجمهر يؤلف روحًا جماعية جبارة أحيانًا. والجماهير، في احتشادها وتظاهراتها الاحتجاجية، ليست غوغاء ورعاعًا ومثيري شغب كما يحلو لبعضهم أن يصفها، وهي، في الوقت نفسه، ليست راقيةً ومتحضرةً ومضحية دائمًا. فالفرد (العقلاني) يمتنع عن السطو على مصرفٍ في الأحوال العادية، أو مهاجمة منزل أحد رجال السياسة الفاسدين بالسلاح. لكن، ما أن يُمسي جزءًا من جمهور يتظاهر في الساحات، حتى يمتلك قوةً نابعةً من الكثرة، وربما ينعطف إلى ممارسة النهب والسطو (لوبون، ص 65)، مع أن الكثرة ليست من أمارات الحق، ولا القلة من علامات الباطل (قول مأثور للقاضي عبد الجبار). وأرذل أنواع الأوغاد والأوباش يمكنهم أن يتحلّوا بمبادئ خلقية صارمة حين ينخرطون في الجمهور؛ فقد لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي، تين، أن السبتمبريين الذين ارتكبوا مجازر 2 سبتمبر/ أيلول 1792 الشنيعة في أثناء الثورة الفرنسية جاؤوا بمحافظ النقود والحلي والجواهر التي عثروا عليها في جيوب ضحاياهم، وسلموها إلى اللجان الثورية (لوبون، ص 80). والجماهير تكون أحيانًا فاشية، وذات طابع تدميري كجماهير المقاتلين الإسلاميين الذين أشعلوا حربًا أهلية في الجزائر دامت عشر سنوات (العشرية السوداء)، أو كالدواعش في سورية والعراق، أو كالبيض الذين ذبحوا السكان الأصليين ثم السود في أميركا، أو كالتوتسي والهوتو الذين تذابحوا وأفنوا نحو مليون ضحية من القبيلتين، ولا ننسى، بالطبع، مذابح اليهود في أوروبا. وقصارى القول، في هذا الميدان، إن التظاهرات الاحتجاجية من طراز الاحتجاجات اللبنانية والعراقية، وكما تتبدى في كل يوم، تتيح للمجموعات الفاشية (المليشيات في بيروت وبغداد) فرصة لإعادة استحضار روح التغلب التي نقلتها من عقدة النقص القديمة إلى عقدة الجبروت الحالية.
كانت المقاهي في المدن العربية (والمضافات في القرى) مكان اللقاء والتواصل وتبادل الآراء
لم تندفع الجماهير إلى الشوارع في تشيلي جرّاء الزيادة في سعر تذكرة المترو وحدها، أو بسبب الزيادة في سعر الخبز في السودان، أو فرض رسوم جديدة على استخدام الواتساب في لبنان. كان ذلك هو القطرة التي أفاضت الماء من الكأس، فاندفع الناس بعفويةٍ للاحتجاج في الساحات والشوارع، بعدما فاضت ملكة الصبر، وصار من غير الممكن السكوت عن واقع الحال المهين. وإذا كانت الاحتجاجات قد اندلعت بعفويةٍ في بداية الأمر، إلا أن انضمام أعداد متزايدة من النخب جعل الأمور تتجه، بالتدريج، نحو التنظيم والتنسيق والتوجيه بحسب تطورات الميدان ومواقف السلطات. واشتُهرت في هذا المجال نقابة المتقاعدين في تشيلي التي أرغمت الرئيس اليساري المنتخب، سيباستيان بينيرا، وهو من السكان الأصليين، على التنحّي عن الحكم لمصلحة اليمين، وكذلك نقابات المعلمين والمرأة في السودان، وعدد من المجموعات الشبكية اللبنانية المدرّبة في الخارج والداخل، وعدد من الناشطين متعدّدي الاتجاهات والأهواء الذين اكتسبوا خبراتٍ متفاوتة في أثناء احتجاجات عام 2015 وبعدها. والمجموعات الشبكية، أو الشبكات الاجتماعية، هي مجموعاتٌ مقصاةٌ سياسياً في معظم الأحيان. ولكنها وجدت في شبكات التواصل الاجتماعي ضالتها، وتحولت، بحسب منطق العصر، مجموعاتٍ معلومة، أي أنها تتواصل مع العالم، وتزور دولاً كثيرة، وتشارك في مؤتمرات ومنتديات شتّى، لكنها، مع ذلك، لا تتواصل مع الناس في بلادها إلا قليلًا، خصوصًا في أثناء الحراكات المفاجئة. وتلك النخب الجديدة المعولمة لا تجتمع تحت أي قبة أيديولوجية، ولا تمتلك قيادة هرمية، بل هي مؤلفة من أفراد على هامش المؤسسات يتجمعون ضد المؤسسات، خصوصًا مؤسسات الدولة ومؤسسات الأحزاب والقوى السياسية. ويحيل هذا الوضع إلى تغير جوهري في المجتمعات العربية، وهو أن دور القادة الملهمين انحسر كثيرًا لمصلحة النخب الجديدة التي راحت تستولي على الساحات والميادين والشوارع، وسلاحها الوحيد هو الهاتف المحمول والإعلام المرئي، مع قدر كبير من الشائعات والصور الصحيحة والمفبركة التي تجتاح عقول الناس وأبصارهم عبر الهواتف الذكية. ومع أن شائعاتٍ كثيرة تنتقل بالعدوى، إلا أنها لا تعيش طويلاً بعد برهان زيفها وضحالتها، فيما تأثير الصور، حتى بعد أن يثبت كذبها والتلاعب بها، لا يُمحى على الفور، لأن تأثيرها المتراكم يحدّد، إلى درجة ما، مستوى وعي الناس المحتجين؛ فالشائعة كانت دائمًا أقوى من الحقيقة. وأبعد من ذلك، ما عاد الجمهور اليوم يتجسّد في هيئة العمال وحدهم (البروليتاريا)، أو العمال والفلاحين وصغار الكسبة، بحسب الأدبيات الشيوعية المتقادمة، بل صار مرجلاً كبيراً يضم العمال والحرفيين والمهمشين والعاطلين من العمل والمزارعين والخائفين على المستقبل من أبناء الطبقات الوسطى، والمتطلعين إلى دولةٍ أكثر عدالة، والمثقفين والأكاديميين والنخب المهنية وربات المنازل ومجموعات الدفاع عن البيئة والحقوق المدنية وأصحاب المصالح، بمن فيهم بعض رجال الأعمال. إنه اختلاط عصر العولمة والنيوليبرالية الذي جعل المفكرين مثل جرس الكنيسة: يدعو الناس إلى القدّاس، لكنه لا يدخل الكنيسة.
لولا الحلم
الفكرة الرائجة في الفكر السياسي المعاصر هي أن الناس حين ينخرطون في الأحزاب السياسية، ويتجمهرون ويتظاهرون، إنما يتحرّكون بشكل عقلاني، ويفكّرون بطريقة منطقية. وهذه الفكرة
كان الدين هو المثير الأكثر قدرة على إثارة حماسة الجمهور ودفعه إلى التضحية. وتجسد هذا الأمر في حروب الفرنجة الذين رفعوا راية تخليص قبر المسيح من أيدي الكفار المسلمين، واتخذوها ذريعة لمهاجمة بلاد الشام. والحال نفسها تردّدت في حروب الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، وفي حروب استرجاع شبه الجزيرة الإيبيرية من العرب. ولكن، مع تعلمن أوروبا، راحت الأيديولوجيات السياسية والجمعيات المساواتية والنقابات تحلّ في محل الدين، واقتربت الأفكار الجديدة، خصوصًا الشيوعية، من أن تصبح دينًا معلمنًا إلى حد ما.
يقول مكيافيلي في كتابه الأمير: "الدين والسلاح هما من أدوات الحكم. والحاكم يحتاج إليهما دائمًا: الدين في زمن السلم، والسلاح في زمن الحرب". واعتقدنا، مع انحسار تأثير الدين في تفكير الناس، أن العلم ربما يضطلع بمنحهم بعض الأمل، وإضفاء معنىً جذّابٍ على حياة البشر. لكن مشكلة العلم أنه لا يكذب، فيما الأمل يحتاج إلى كاذبٍ ساحر على غرار القادة السياسيين التاريخيين والزعماء الملهمين ورجال الدين الأذكياء وممثلي السينما وأبطال الحروب ولاعبي كرة القدم. ولا بد، في جميع الحالات، من وجود قائد يحرّك النشوة في الجماهير من دون إقناع عقلي أو محاججة منطقية؛ قائد يبعث الثوة في الناس إما بسحره الخاص (الكاريزما)، أو بسحر العقيدة التي يروّجها. والاحتجاجات لا تخضع للتفكير العقلاني، والقائد القوي هو الذي لا يهتم بالأفكار الواقعية والانسجام المنطقي، بل الذي يسيطر على مشاعر الناس، ويخلع عليهم أحلامًا طوباوية، ويثير فيهم غريزة القوة على منوال هتلر وموسوليني وستالين ومصطفى كمال (أتاتورك) وماوتسي تونغ والخميني. وفي المجتمعات العربية القديمة، كلما اجتمع عدد من الأفراد في مكان ما أمّروا عليهم أميرًا أو زعيمًا أو قائدًا. وأمثولات التاريخ لا تنتهي في هذا الميدان، فالفرد من الجماهير كثيرًا ما يجد حريته وسعادته وتوازنه وتماسكه في عبادة قائده الأسطوري، ويندفع إلى التضحية بحياته في سبيل معبوده. وفي أي حال ليس التوق إلى الحرية شأنًا بدهيًا في الطبيعة الإنسانية، وثمة رغبة غريزية في الخضوع لزعيم سياسي أو زعيم قبلي أو زعيم ديني. وإذا كانت ملايين الناس تقاتل في سبيل العدالة الاجتماعية أو الحرية، فإن في مقابلها ملايين الناس تهرب من الحرية، وتسلّم أمرها إلى الدكتاتوريات، ربما لأن تحرر الفرد يعني التحرر من روابطه الروحية والقبلية، ومن ماضيه أيضًا، وهو ما يجعله وحيدًا وقلقًا وأكثر خوفًا، ويحتاج إلى مخارج تعويضية، كالاحتماء بالزعيم السياسي، أو التعلق بالأبطال، او اللجوء إلى مقامات الأنبياء ومزارات الأولياء.
استعادة غوستاف لوبون
من غير الممكن فهم تحرّكات الجماهير المفاجئة استنادًا إلى علم الاجتماع وحده، أو إلى علم السياسة منفردًا، أو إلى الفكر السياسي وعلم الاقتصاد مجتمعَين، بل لا بد من الالتفات إلى
يقول غوستاف لوبون في كتابه: الجماهير محافظة بطبيعتها على الرغم من تظاهراتها الثورية، لأن الماضي أقوى لديها من الحاضر بكثير (ص 32). والماضي هو الانتماءات الدينية والطائفية والعائلية. والشعب نفسه هو أحد مخلوقات الماضي، "وهو مثل جميع الكائنات العضوية الأخرى لا يمكنه أن يتغير إلا بالتراكمات الوراثية البطيئة. والقادة الحقيقيون للشعوب هم تقاليدها الموروثة (...). ومن دون الإزالة البطيئة والمتدرجة لهذه التقاليد لا يمكن أن يوجد تقدم" (ص101). وإذا كان "اللاوعي" أو "الوعي الباطن" هو أساس السلوك لدى الفرد، بحسب سيغموند فرويد، فإن الأمر نفسه لدى غوستاف لوبون الذي رأى أن الجماهير تتحرّك بدافع "اللاوعي الجمعي". الفرد يتحرك بوعيه الذاتي، لكن الجمهور يتحرك بصورة لاواعية؛ فالوعي فردي، فيما اللاوعي جماعي. والسؤال هنا: هل ثمة حقًا لاوعي جمعي؟ إنه سؤال سجالي وخلافي معًا. ومهما يكن الجواب، فإن المتفق عليه إلى درجة كبيرة القول إن الجماهير غير عقلانية، وتصل أحيانًا إلى مرحلة الهوس بمطرب معين أو ممثل أو فريق كرة قدم. فماذا نَصِفُ الجماهير التي تحتشد على جانبي طريق، وتبقى في مكانها ساعات كي تشهد، للحظات معدودة، مرور زعيم أو مغنٍ أو رجل دين يحظى بنوع من التبجيل أو القداسة؟ إذاً، الاحتشاد والتظاهر الاحتجاجي لهما سمات لا عقلانية بل غريزية. والجماهير في الميدان والساحات والشوارع مؤهلة للممارسة الاحتجاجية المباشرة وغير مؤهلة للتفكير العقلاني، لأنها، في احتشادها، تخضع لمحرّضات الميدان التي تثير ردّات فعل فورية. والأفراد، في هذه الحال، يتصرّفون تحت تأثير النخاع الشوكي لا الدماغ.
نعم لمطالبكم لا لوسائلكم
ليست الجماعة هي نفسها حاصل جمع الأفراد، فما أن يصبح الفرد واحدًا من الجماعة حتى