تبدلات المشهد السوري الميداني
منذ سيطرة النظام السوري على مدينة القصير في ريف حمص الجنوبي، في الخامس من يونيو/حزيران عام 2013، بدأت مرحلة تقدم ملحوظة لقوات النظام السوري وداعميه، في مناطق مختلفة من سورية (ريف حمص، القلمون الفوقا، القلمون التحتى، شرقي الغوطة، حماة)، وبدأت معها عملية تراجع واضحة للمعارضة المسلحة، لا سيما الجيش الحر الذي أصبح أثرا بعد عين. لكن التطورات الميدانية التي شهدها الجنوب السوري، في الأسابيع الماضية، في ريفي القنيطرة ودرعا والسيطرة على بصرى الشام ومعبر نصيب الحدودي مع الأردن من جهة، والتطورات في الشمال التي تشهدها محافظة إدلب منذ نحو شهر، من جهة ثانية، بدأت في تغيير معادلة القوى على الأرض، ودفعت وزير الدفاع السوري إلى عقد اجتماع طارئ مع نظيره الإيراني في طهران.
ما جرى في مدينة إدلب ومن ثم في جسر الشغور ومعسكر القرميد ليس تفصيلا عادياً في سياق عمليات الكر والفر بين النظام والمعارضة المسلحة، صحيح أن هذه التطورات تظل بعيدة عن تغيير المعادلة الميدانية، وبالتالي، ميزان القوى على الأرض، بحيث يمكن استثمارها سياسيا في الوقت الحالي، لكن الصحيح، أيضاً، أن ما جرى هو بداية تحول مهم، يعتبر الأول من نوعه، منذ بدء الأزمة السورية، في بقعة جغرافية تشكل أهمية فائقة، وساحة مفتوحة لكل الفصائل والقوى المقاتلة.
فللمرة الأولى منذ عامين، بدأ الحديث عن خسائر مهمة للنظام، وانتصارات مهمة للمعارضة المسلحة، وكسر للمعادلة التي طالما حاول النظام تثبيتها لصالحه، وهي أن أي اتفاق سياسي مرهون بتطورات الميدان. وللمرة الأولى، نجد ارتباكا واضحا في صفوف النظام في اللاذقية لم نشهده مع معارك رأس البسيط قبل نحو عام.
تعتبر محافظة إدلب صلة الوصل بين المنطقتين الساحلية والوسطى والمنطقتين الشمالية والشرقية، وأهمية خروج هذه المحافظة من يد النظام تفوق أهمية خروج محافظة الرقة بكثير، من الناحية العسكرية وتداعياتها المستقبلية، فقد أدت سيطرة المعارضة على جسر الشغور، ثم غانية والسرمانية والزيارة واشتبرق في الجنوب، إلى قطع طرق الإمداد عن القوات المنتشرة على طول أوتوستراد أريحا ــ اللاذقية.
فضلا عن ذلك، ستجعل سيطرة المعارضة المسلحة على محافظة إدلب المعارك في حلب صعبة بالنسبة للنظام، وستضع اللاذقية بعد السيطرة على حاجزي البركة وغانية على طريق إدلب ــ اللاذقية الرئيسي في مرمى نيران المعارضة، مع ما تمثله الأخيرة من رمزية في العقل السوري، وهكذا انتقلت المعارك من مدينة إدلب إلى جسر الشغور إلى جنوب المحافظة، ثم سهل الغاب في حماه وبعض ريف حمص.
تعكس طبيعة العمليات العسكرية التي قام بها جيش الفتح مستوى التنسيق العالي بين عناصره على المستوى الميداني من جهة، وعلى مستوى التخطيط الاستراتيجي من جهة ثانية، حيث امتدت المعارك على عشرات الكيلومترات، وبمشاركة نحو عشرة آلاف مقاتل، مع مختلف أنواع الأسلحة، بما فيها صواريخ تاو الأميركية التي كانت في حوزة حركة حزم، كما امتد التنسيق، ليشمل الائتلاف الوطني وفصائل من الجيش الحر، ترتب عليه اتفاق مبدئي في رفض أي صفقة سياسية دولية، تبقي على بعض رموز النظام في الحكم، وهذه خطوة لها دلالتها السياسية، من حيث إنها المرة الأولى التي يجري فيها التعبير عن تبدلات الميدان، بلغة سياسية.
لفتت هذه التطورات الانتباه إلى نجاح تجربة جيش الفتح الذي تأسس نهاية مارس/آذار الماضي من تجمع عدة قوى (جبهة النصرة، حركة أحرار الشام الإسلامية، ألوية صقور الشام، فيلق الشام، أجناد الشام، جيش السنة، لواء الحق)، بعدما حالت جبهة النصرة دون قيام قوة عسكرية للمعارضة في إدلب، وكان مصير جبهة ثوار سورية وحركة حزم مثالين على ذلك.
وقد ترتب على هذا النجاح محاولة استنتساخ تجربة جيش الفتح، في أكثر من بقعة سورية، هكذا شكلت مجموعات الجيش الحر، جبهة النصرة، لواء نسور دمشق، لواء الغرباء، كتيبة رجال القلمون، حركة أحرار الشام، تكتلا عسكريا أطلقت عليه اسم جيش الفتح في القلمون، وهكذا خرجت دعوات في حلب، لتوحيد صفوف الفصائل العسكرية، كما حدث مع جيش الفتح، الأمر الذي يعني أن هذه التجربة الوليدة قد تتحول إلى تجربة راسخة في عموم سورية، وتؤدي إلى تغيير كامل في بنية الصراع.
والحقيقة أن هذه التغيرات التي أصابت المشهد السوري ليست ناجمة عن اعتبارات داخلية فحسب، بل نتيجة تفاهمات إقليمية عبرت عن نفسها في سورية: تفاهمات إقليمية بين الرياض والدوحة وأنقرة، بعيد وصول الملك سلمان إلى سدة الحكم في السعودية، والتغيرات التي طرأت على سياستها الخارجية تجاه ملفات الإقليم الشائكة، خصوصا في اليمن وسورية، حيث آثرت السعودية التعاون مع قطر وتركيا، لتشكيل قوة تساهم في ترتيبات الوضع السوري مستقبلا. نجاح تجربة الحزم في اليمن، بحيث يمكن نقلها إلى سورية بعد تبيئتها بما يناسب المناخ الميداني والإقليمي، فقد بينت الأحداث أن معركة الحزم تتجاوز الحدود الجغرافية لليمن، لتشمل عموم المنطقة، عبر تثبيت قواعد التحالف، وتغير قواعد الاشتباك. نضوج فكرة إنشاء قوة أرضية عربية ــ تركية مشتركة في شمالي سورية، لدعم التحالف الدولي في حربه على داعش، بحيث يمكن إقامة منطقة آمنة بيد المعارضة المسلحة، مقدمة للاستيلاء على أراض أخرى، قد تنتزع من تنظيم داعش.
مثل هذه المنطقة ستسهل إقامة حكومة للمعارضة تمهيدا لدمجها مع الحكومة الرسمية في حال التوصل إلى اتفاق سياسي، وهي الإمكانية التي بدأ الحديث عنها، أخيراً، وتتبناها بعض الدول العربية والغربية.