19 أكتوبر 2019
تخاريف سوريّة
حين يصبح الزمن مرتبطاً بالمجهول، معلقاً في فراغٍ لا يعترف بالساعات، ولا بالأيام، يغدو الماضي صندوقاً لا يصدر عند محاولات فتحه إلا ضجيج الأشباح التي باتت وحدها تسكنه، ويتحول الراهن، عند كل محاولة لاقترافه، إلى هاوية نسقط فيها مرة بعد مرة، أما المستقبل فيعلّق نواقيسه على كل الجهات، ولا نرى، كلما تطلعنا إليه، غير دخان يتصاعد من أيدينا المحترقة العاجزة وقلوبنا الملذوعة، والمطفأة بسيل الدم على كل ما اشتعل فينا، لحظة ارتكابنا معصية الرفض.
ليس التيه والتشرّد الجغرافي هو ما أصاب السوريين وحسب، بل الضياع والعدم صبغا كل ما في السوري من لحم ودم وفكر وإحساس، حتى بات يجتهد ليجمع أوصال روحه المبعثرة، أو ليلتقط أفكاره في محاولةٍ لصياغة موقفٍ أو حلم.
أحداثٌ "سورية" كثيرة ومشتتة تراكمت، وما تزال، منذ أيام، وهي قد لا تعني العالم في شيء، فالمعرفة عبء ولعنة.
قبل أيام، مات لاجئ سوري في مصر. وماذا يعني أن يموت سوري في أي بقعة من بقاع الأرض؟ لا يعني شيئاً. ففي دير الزور وحدها قُتل مئات خلال أيام، لكن المنتخب "السوري" لكرة القدم يسجّل انتصاراتِ "سوريةً" على مستوى العالم.
كان السوري الميت في مصر وحيداً حد الاختناق، وستبقى مناشداته العبثية لأي سوري كي يصحبه، في لحظاته الأخيرة، وشماً عميقاً في الذاكرة، لكننا سننساه خلال أيام، فقط لنستطيع التنفس والعبور إلى "الغد" الذي لا نعرفه. أما السوريون الذين حصدتهم الطائرات والصواريخ التي تحمل علم "الوطن" في دير الزور، تلك المدينة المنسيّة على تخوم الوطن نفسه، فلا وسائل تواصل اجتماعي لدى معظمهم، ليزعجوا ذاكرتنا بالمناشدات، ولم يترك لنا بعضهم أحداً، ليخبرنا بما كانوا يحلمون، وقد حرموا الجلاد من متعة التشفّي بمن بقي، وماتوا جميعاً بـ"سلام".
العلم ذاته، ذاك الذي لا يقدّم لنا النظر إليه اليوم إلا جرعات مضاعفة من الفِصام، يرفرف على مدرّجات كرة القدم حول العالم، ويحيط بصورة "الرياضيّ السوري الأول" وصورة ابنه "راعي الرياضة والرياضيين" الموضوعتين على صدور اللاعبين، ويعود بخبثٍ رويداً رويداً إلى "منابر" السوريين الذين قرّروا طوعاً محو سبع سنوات حمراء من ذاكرتهم، علّ أقدامهم تلمس أرضاً ما، حتى لو كانت أرض جهنم، أولئك السوريين الذين اكتشفوا فجأة أننا "كلنا سوريون"، وصاروا مبشّرين "بالمحبة" و"التسامح".. والذل.
لوّح آخرون بالعلم نفسه، ورقصوا في ساحات حلب التي لم تعد تشبهها. رقصوا على جثّة المدينة الباذخة التاريخ، وبدأوا برسم تاريخهم الخاص المجوّف والأسود على أشلاء حضاراتٍ عميقةٍ متنوعةٍ لا تناسب تجانس ألوانهم الرمادية الميتة.
وفي الرقة، الحاضرة السورية المنكوبة حتى النخاع، علم آخر يلبّد السماء التي لم تلتقط أنفساها بعد، ويسوّرها ليغيّر وجهها، ويحشر المدينة الثكلى الممدّدة تحتها عارية من سكانها، في مرجلٍ جديد، سيتابع حرق هويتها ويكمل خرابها الموجع.
لا شيء في سورية اليوم يشبه حلم السوريين، كل ما فيها ومن فيها ومن خرج منها يقف على حافة الهاوية، أو ربما بات كثيرون منهم في قعرها.
هم بضعة ملايين فقط خارج حدود "الوطن"، ما عادوا يحلمون بشيء، وفقط بضع عشرات آلاف في المعتقلات، ومثلهم ملاحقون وقد قيّدت أسماؤهم في قوائم جاهزة للتنفيذ، وبعض "المختلفين غير المتجانسين" في إدلب ودرعا وريف دمشق وريف حلب. هؤلاء فقط هم العقبة الصغيرة الأخيرة التي تواجه "السلام" و"الحل السياسي" في سورية، ولن يعدم نظام الأسد، ومن خلفه العالم كله، طريقةً للتخلص منها أو التخلّص منهم، كلٌ بالطريقة التي تناسبه. وعندها سيحتفل العالم بأسره بانتصاره علينا... نحن الإرهابيين السوريين الذين أثرنا قلق العالم منذ سبعة أعوام، وهدّدنا سلامته واستقراره ومستقبله الحضاري والإنساني. وقد تشارك "السيدة الأولى" في سورية في الاحتفال سفيرة فوق العادة لحقوق الإنسان، كما تفعل اليوم.
ليس التيه والتشرّد الجغرافي هو ما أصاب السوريين وحسب، بل الضياع والعدم صبغا كل ما في السوري من لحم ودم وفكر وإحساس، حتى بات يجتهد ليجمع أوصال روحه المبعثرة، أو ليلتقط أفكاره في محاولةٍ لصياغة موقفٍ أو حلم.
أحداثٌ "سورية" كثيرة ومشتتة تراكمت، وما تزال، منذ أيام، وهي قد لا تعني العالم في شيء، فالمعرفة عبء ولعنة.
قبل أيام، مات لاجئ سوري في مصر. وماذا يعني أن يموت سوري في أي بقعة من بقاع الأرض؟ لا يعني شيئاً. ففي دير الزور وحدها قُتل مئات خلال أيام، لكن المنتخب "السوري" لكرة القدم يسجّل انتصاراتِ "سوريةً" على مستوى العالم.
كان السوري الميت في مصر وحيداً حد الاختناق، وستبقى مناشداته العبثية لأي سوري كي يصحبه، في لحظاته الأخيرة، وشماً عميقاً في الذاكرة، لكننا سننساه خلال أيام، فقط لنستطيع التنفس والعبور إلى "الغد" الذي لا نعرفه. أما السوريون الذين حصدتهم الطائرات والصواريخ التي تحمل علم "الوطن" في دير الزور، تلك المدينة المنسيّة على تخوم الوطن نفسه، فلا وسائل تواصل اجتماعي لدى معظمهم، ليزعجوا ذاكرتنا بالمناشدات، ولم يترك لنا بعضهم أحداً، ليخبرنا بما كانوا يحلمون، وقد حرموا الجلاد من متعة التشفّي بمن بقي، وماتوا جميعاً بـ"سلام".
العلم ذاته، ذاك الذي لا يقدّم لنا النظر إليه اليوم إلا جرعات مضاعفة من الفِصام، يرفرف على مدرّجات كرة القدم حول العالم، ويحيط بصورة "الرياضيّ السوري الأول" وصورة ابنه "راعي الرياضة والرياضيين" الموضوعتين على صدور اللاعبين، ويعود بخبثٍ رويداً رويداً إلى "منابر" السوريين الذين قرّروا طوعاً محو سبع سنوات حمراء من ذاكرتهم، علّ أقدامهم تلمس أرضاً ما، حتى لو كانت أرض جهنم، أولئك السوريين الذين اكتشفوا فجأة أننا "كلنا سوريون"، وصاروا مبشّرين "بالمحبة" و"التسامح".. والذل.
لوّح آخرون بالعلم نفسه، ورقصوا في ساحات حلب التي لم تعد تشبهها. رقصوا على جثّة المدينة الباذخة التاريخ، وبدأوا برسم تاريخهم الخاص المجوّف والأسود على أشلاء حضاراتٍ عميقةٍ متنوعةٍ لا تناسب تجانس ألوانهم الرمادية الميتة.
وفي الرقة، الحاضرة السورية المنكوبة حتى النخاع، علم آخر يلبّد السماء التي لم تلتقط أنفساها بعد، ويسوّرها ليغيّر وجهها، ويحشر المدينة الثكلى الممدّدة تحتها عارية من سكانها، في مرجلٍ جديد، سيتابع حرق هويتها ويكمل خرابها الموجع.
لا شيء في سورية اليوم يشبه حلم السوريين، كل ما فيها ومن فيها ومن خرج منها يقف على حافة الهاوية، أو ربما بات كثيرون منهم في قعرها.
هم بضعة ملايين فقط خارج حدود "الوطن"، ما عادوا يحلمون بشيء، وفقط بضع عشرات آلاف في المعتقلات، ومثلهم ملاحقون وقد قيّدت أسماؤهم في قوائم جاهزة للتنفيذ، وبعض "المختلفين غير المتجانسين" في إدلب ودرعا وريف دمشق وريف حلب. هؤلاء فقط هم العقبة الصغيرة الأخيرة التي تواجه "السلام" و"الحل السياسي" في سورية، ولن يعدم نظام الأسد، ومن خلفه العالم كله، طريقةً للتخلص منها أو التخلّص منهم، كلٌ بالطريقة التي تناسبه. وعندها سيحتفل العالم بأسره بانتصاره علينا... نحن الإرهابيين السوريين الذين أثرنا قلق العالم منذ سبعة أعوام، وهدّدنا سلامته واستقراره ومستقبله الحضاري والإنساني. وقد تشارك "السيدة الأولى" في سورية في الاحتفال سفيرة فوق العادة لحقوق الإنسان، كما تفعل اليوم.