19 أكتوبر 2019
يوم الموتى السوري
في مفارقة مثيرة للدهشة، تحتفل بعض شعوب العالم بصخب مفرط، وعلى مدى يومين، بعيد خاصٍّ للموتى، يتفننون في طقوسه وترتيباته التي تضاهي الاحتفال بالولادة فرحاً، صخباً وامتلاءً بالحياة. كيف لا، وهم يعتقدون أن أرواح موتاهم الذين يشتاقون لكل تفاصيلهم، تزورهم خلال هذين اليومين.
في الأول والثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني كل عام، يحتفل المكسيكيون بشكل رئيسي، وشعوب عديدة في أميركا اللاتينية وإسبانيا، بـ "يوم الموتى:، وهو احتفال تقليدي ترجع بداياته إلى حضارات المايا والأزتيك والناهوا.
لا يبكي المحتفلون موتاهم، ولا يلبسون الحداد على أرواحهم، بل يستحضرونهم بإعادة إحياء كل ما كانوا يحبونه من طعام ولباس وموسيقا ورقص. ينظفون غرف الراحلين ويزيحون الغبار العالق على صورهم، وعلى حوافّ الجراح التي تركوها في حياة وأرواح أحبائهم، ثم يحضّرون الأطعمة المجبولة بالمحبة والمطهوّة على نار الفقد المستعرة داخل النفوس، والتي يخفيها أهالي المفقودين، ويرتدون أقنعة الفرح بدلاً منها. يرقص الأحياء كما كان يرقص الراحلون حين كانت الحياة تدب في أوصالهم، ويرفعون صوت الموسيقا التي كان الموتى يحبونها، والتي يعتقدون أنها تسهّل على أرواح مفقوديهم العبور إلى زيارة أهاليهم. يرسم المحتفلون على وجوههم وأجسادهم أشكال الجماجم والعظام ويدعون جيرانهم وأصدقاءهم الذين لم يفقدوا عزيزاً منذ زمن طويل، يسيرون معاً في الشوارع، ويتجمّعون في المقابر لإتمام طقوس الاحتفال. يزيّنون البيوت بالهياكل العظمية احتراماً للحال التي آلت إليها أجساد من فقدوا، ويضعون صور الموتى في إطارات جديدة يوزّعونها في أرجاء البيت. يحيون أمواتهم بالذكرى والفرح، فقط كي لا يموتوا.
تُرى، لو قُدّر للسوريين، بعد سنوات، الاحتفال بهذا العيد، فهل ستتسع البيوت لصور من فقدت؟
هل سيخلو بيت واحد من الموسيقا والطعام؟ هل ستجد العائلات المنكوبة جاراً أو صديقاً لم يذق طعم الفقد منذ زمن كي يدعوه؟
يقول المكسيكيون إن أرواح الأطفال تزورهم في اليوم الأول من العيد، فإن حصل واحتفل السوريون به، أي ازدحامٍ للأرواح ستتحمل سماء الغوطة الدمشقية التي لم تنس بعد رائحة الكيميائي، ولم تشف بعد من آثار الأقدام الصغيرة التي عبرتها باتجاه الجنّة؟ وعندها، هل ستكفي حلوى العالم لتكون طعاماً لأطفال سورية الراحلين؟ وإذا لم تكفِ، فأي طعام سيقدّم أهالي الأطفال الذين وُلدوا وماتوا تحت الحصار، قبل أن يعرفوا أن في الحياة ما تسمّى فواكه أو شوكولاتة؟
يعتقد الإسبان أن تذكّر الأهالي موتاهم واهتمامهم تحديداً بوضع صورهم في البيت يحمي أرواح الموتى من السقوط في العدم، إذ وحده نسيان الموتى ما يقتلهم. فلو احتفل السوريون اليوم بهذا العيد، ماذا ستفعل آلاف العائلات التي تجهل مصير أبنائها؟ ستأكلهم الحيرة والرعب، فمجرّد وضع صور المفقودين في الإطارات هو بحد ذاته اعتراف موجع وصعب برحيلهم، لكن الإصرار على الإنكار أيضاً قد يقود أرواح الموتى منهم إلى العدم، وعندها قد لا يعودون.
سوريون آخرون أيضاً لن يجدوا طريقةً لاستحضار أرواح موتاهم، إذ إنهم لا يعلمون في أي أرض أو مقبرة جماعية دُفنوا، لكنهم قد يطلقون الموسيقا لتبحث عنهم في طول البلاد وعرضها، فهل سيسمع العالم صوت عوائها حين لا تجدهم؟
قد يأتي السيّاح إلى سورية في اليومين الأولين من نوفمبر/ تشرين الثاني بعد أعوام، للتمتّع بأجواء العيد، لكنهم عندها لن يجدوا أحداً في البيوت، سيكون السوريون جميعاً متنكّرين في هياكل عظمية وجماجم، هائمين في المقابر والطرقات والحدائق وحطام الأبنية المهدمة والأراضي المفتوحة، بحثاً عن قبور موتاهم، علّهم يستطيعون الغناء لهم وإطلاق أرواحهم من سجونها.
في الأول والثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني كل عام، يحتفل المكسيكيون بشكل رئيسي، وشعوب عديدة في أميركا اللاتينية وإسبانيا، بـ "يوم الموتى:، وهو احتفال تقليدي ترجع بداياته إلى حضارات المايا والأزتيك والناهوا.
لا يبكي المحتفلون موتاهم، ولا يلبسون الحداد على أرواحهم، بل يستحضرونهم بإعادة إحياء كل ما كانوا يحبونه من طعام ولباس وموسيقا ورقص. ينظفون غرف الراحلين ويزيحون الغبار العالق على صورهم، وعلى حوافّ الجراح التي تركوها في حياة وأرواح أحبائهم، ثم يحضّرون الأطعمة المجبولة بالمحبة والمطهوّة على نار الفقد المستعرة داخل النفوس، والتي يخفيها أهالي المفقودين، ويرتدون أقنعة الفرح بدلاً منها. يرقص الأحياء كما كان يرقص الراحلون حين كانت الحياة تدب في أوصالهم، ويرفعون صوت الموسيقا التي كان الموتى يحبونها، والتي يعتقدون أنها تسهّل على أرواح مفقوديهم العبور إلى زيارة أهاليهم. يرسم المحتفلون على وجوههم وأجسادهم أشكال الجماجم والعظام ويدعون جيرانهم وأصدقاءهم الذين لم يفقدوا عزيزاً منذ زمن طويل، يسيرون معاً في الشوارع، ويتجمّعون في المقابر لإتمام طقوس الاحتفال. يزيّنون البيوت بالهياكل العظمية احتراماً للحال التي آلت إليها أجساد من فقدوا، ويضعون صور الموتى في إطارات جديدة يوزّعونها في أرجاء البيت. يحيون أمواتهم بالذكرى والفرح، فقط كي لا يموتوا.
تُرى، لو قُدّر للسوريين، بعد سنوات، الاحتفال بهذا العيد، فهل ستتسع البيوت لصور من فقدت؟
يقول المكسيكيون إن أرواح الأطفال تزورهم في اليوم الأول من العيد، فإن حصل واحتفل السوريون به، أي ازدحامٍ للأرواح ستتحمل سماء الغوطة الدمشقية التي لم تنس بعد رائحة الكيميائي، ولم تشف بعد من آثار الأقدام الصغيرة التي عبرتها باتجاه الجنّة؟ وعندها، هل ستكفي حلوى العالم لتكون طعاماً لأطفال سورية الراحلين؟ وإذا لم تكفِ، فأي طعام سيقدّم أهالي الأطفال الذين وُلدوا وماتوا تحت الحصار، قبل أن يعرفوا أن في الحياة ما تسمّى فواكه أو شوكولاتة؟
يعتقد الإسبان أن تذكّر الأهالي موتاهم واهتمامهم تحديداً بوضع صورهم في البيت يحمي أرواح الموتى من السقوط في العدم، إذ وحده نسيان الموتى ما يقتلهم. فلو احتفل السوريون اليوم بهذا العيد، ماذا ستفعل آلاف العائلات التي تجهل مصير أبنائها؟ ستأكلهم الحيرة والرعب، فمجرّد وضع صور المفقودين في الإطارات هو بحد ذاته اعتراف موجع وصعب برحيلهم، لكن الإصرار على الإنكار أيضاً قد يقود أرواح الموتى منهم إلى العدم، وعندها قد لا يعودون.
سوريون آخرون أيضاً لن يجدوا طريقةً لاستحضار أرواح موتاهم، إذ إنهم لا يعلمون في أي أرض أو مقبرة جماعية دُفنوا، لكنهم قد يطلقون الموسيقا لتبحث عنهم في طول البلاد وعرضها، فهل سيسمع العالم صوت عوائها حين لا تجدهم؟
قد يأتي السيّاح إلى سورية في اليومين الأولين من نوفمبر/ تشرين الثاني بعد أعوام، للتمتّع بأجواء العيد، لكنهم عندها لن يجدوا أحداً في البيوت، سيكون السوريون جميعاً متنكّرين في هياكل عظمية وجماجم، هائمين في المقابر والطرقات والحدائق وحطام الأبنية المهدمة والأراضي المفتوحة، بحثاً عن قبور موتاهم، علّهم يستطيعون الغناء لهم وإطلاق أرواحهم من سجونها.