بدأت تداعيات الأزمة الليبية الناجمة عن محاولة اللواء المتقاعد خليفة حفتر الانقلاب على مكتسبات ثورة 17 فبراير؛ في ازعاج الحكومة المغربية ضمن عدة مستويات، منها الجيوسياسي والاجتماعي والاقتصادي والاستراتيجي - الأمني، إذ تتخوف الرباط من عودة نسبة كبيرة من جاليتها، التي تعد الأكبر لها هناك، في ظل غياب برنامج لإدماجهم في سوق العمل.
"العربي الجديد" ترصد معاناة طلاب وعمال الرباط في ليبيا، وتقدم قراءة مغربية للأزمة الليبية وتداعياتها المحتملة على المملكة، وانعكاسات الأزمة الجيوسياسية في ظل الصراع الخفي بين الأطراف الداعمة لحفتر والقوى المؤيدة لثورة 17 فبراير في التحقيق التالي.
معاناة الطلاب والعمالة المغربية
تعتبر قضية الجالية المغربية في ليبيا من بين الملفات الشائكة، التي تتهدد الرباط خاصة أن جالية المغرب في ليبيا تعد الأكبر لها في الدول العربية، وتشير إحصائيات وزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية المغربية إلى أن عدد أبناء جاليتها هناك يصل إلى 69 ألف مواطن ومواطنة (45 ألف رجال و 23 ألف نساء) وفق إحصاء عام 2012، بالإضافة إلى المغاربة المقيمين بشكل غير قانوني والذين لا يتوفر إحصاء دقيق بشأنهم.
عرض مغاربة مقيمون في ليبيا، لـ" العربي الجديد" الصعوبات والمشاكل التي يعانون منها بعد اندلاع الأزمة الليبية الأخيرة، وقال طالب مغربي يتابع دراسته هناك، رفض الكشف عن اسمه لدواعٍ أمنية أن "الجالية المغربية تعيش في أزمة، وازداد الأمر سوءاً بعد تدهور الأوضاع الأمنية".
وتابع أن "سبعة مغاربة قُتلوا بسبب إطلاق نار عشوائي، وهو ما جعل الجالية تعيش على وقع الخوف، خصوصاً في ظل الأوضاع الأمنية غير المستقرة، وهو ما جعل الأسر المغربية تتوجس خيفة من حاضرها وعلى مستقبلها".
ولا تقتصر المشاكل على المستوى الأمني، بل يطال الأمر المستوى الاقتصادي والاجتماعي، واعتبر محمد التبيعي -مغربي يعمل بالقطاع الخاص في ليبيا- أن "الجالية المغربية تأثرت كثيراً من الناحيتين المادية والاقتصادية جراء الأوضاع المتدهورة بليبيا".
وأَضاف التبيعي لـ"العربي الجديد" أن "التأثر جاء أيضاً بسبب ارتفاع الأسعار، جراء الوضعية التي تعيش على وقعها ليبيا بسبب المخاوف المتزايدة من اندلاع حرب أهلية، وهو ما يهدد بشح الوقود والمواد الغذائية".
ودقّت جمعية الجالية المغربية المقيمة في ليبيا (غير حكومية)، ناقوس الخطر على خلفية الأوضاع في ليبيا، وأكدت في بيان أن الجالية المغربية تعيش على وقع ظروف صعبة، بسبب التطورات الأمنية الأخيرة.
وأفادت الجمعية بأن الأوضاع صعبة حتى بالنسبة إلى المواطنين الليبيين، في ظل المواجهات المسلحة التي تندلع بين الفينة والأخرى بين الجماعات المسلحة وقوات الأمن، وطالبت الجمعية المسؤولين في الرباط بالاهتمام أكثر بهذه الجالية في ظل الأوضاع الصعبة.
وفي السياق نفسه، كشف وزير التشغيل والشؤون الاجتماعية المغربي، عبد السلام الصديقي أن "وزارته سجلت عودة عدد من الأسر المغربية من دول عربية من بينها ليبيا".
وأضاف الوزير المغربي في تصريح خاص لــ"العربي الجديد" أن "وزارته لا تتوفر حالياً على برنامج لإدماج العائدين إلى المغرب، إلا أنها ستعمل على الإعداد للأمر من خلال الاستراتيجية الوطنية الجديدة للتشغيل التي تعدها الوزارة، والتي ستعلن عنها خلال سبتمبر/أيلول المقبل".
واتفق خالد الشكراوي -أستاذ بمعهد الدراسات الإفريقية في الرباط- مع رأي الوزير الصديقي قائلاً: "الجالية المغربية القاطنة في ليبيا تشكل هاجساً لدى السلطات المغربية، خصوصاً في ظل احتمال عودتهم إلى المغرب". وأضاف أن "الأخطر من ذلك هو عودة بعض الشباب الذين سبق لهم أن انخرطوا مع مجموعات مسلحة".
ومن المنتظر أن يجد المغرب صعوبات كبيرة في عملية إدماج المغاربة العائدين من ليبيا، خصوصاً في ظل مستوى البطالة المرتفعة لديه، حيث تشير آخر إحصاءات وزارة التشغيل بالمغرب إلى وجود 1.08 مليون عاطل في المغرب، فيما بلغ معدل البطالة نحو 9.2 % خلال السنة الماضية مقارنة مع 9% خلال 2012".
التخوف من حالة نزوح ليبية موسعة إلى دول الجوار، سواء من مواطني دول الجوار أم من المغاربة العائدين إلى بلادهم، لا يقتصر على المغرب، فهواجس انتقال شرارات الأزمة تطال دول الجوار، كما قال الشكراوي، لافتاً إلى وجود تخوف لدول الجوار (تونس والجزائر) من الهجرة القهرية لليبيين أنفسهم، وعودة جالياتهم العاملة في ليبيا، قائلاً: "المغرب بإمكانه أن يعاني من هذه الهجرة أيضاً، حيث توضح إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط (الهيئة الرسمية المكلفة بالإحصاء في المغرب) أن الليبيين في المرتبة 17 من حيث عدد الأجانب بالمغرب".
التداعيات الأمنية
هاجس آخر بدأ يقض مضاجع مسؤولي الرباط، يتمثل في احتمال تمدد تداعيات التوتر الأمني في ليبيا إلى منطقة المغرب العربي. ووفقاً لرأي رئيس المركز المغاربي للدراسات الأمنية وتحليل السياسات، عبد الرحيم منار السليمي، الذي قال لــ"العربي الجديد": "الوضع الحالي في ليبيا يحمل مخاطر أمنية كبيرة على دول المنطقة المغاربية، فليبيا تعيش اليوم حالة فشل في بناء الدولة وباتت كل قبيلة تؤسس ميليشياتها لحمل السلاح، بالإضافة إلى محاولات من طرف قوات حفتر لفرض شرعية بالقوة في الميدان".
وأوضح أن "الوضع في ليبيا يؤثر بدرجات مختلفة على الدول المغاربية، ويوجد في ليبيا اليوم أكثر من 20 مليون قطعة سلاح، وفقاً لإحصائيات الليبيين أنفسهم، كما يوجد بها 3000 مسلحٍ منضوٍ في جماعات متشددة، بالإضافة إلى بدء توافد المغاربيين العائدين من سورية، والممنوعين من دخول دولهم أو المطرودين من أوروبا. وهو ما حدا بدول الجوار إلى تكثيف الاتصالات الدبلوماسية والسياسية والاستخباراتية في ما بينها، من أجل الحد من تأثيرات هذه الأزمة عليها، خصوصاً الجانب الأمني".
وذكر السليمي أن "درجة تأثُر المغرب مرتفعة، نظراً لتأثير الوضع في ليبيا على نزاع الصحراء. فالبوليساريو، التي تطالب بالاستقلال في الصحراء المغربية، لها ارتباط بحركات مسلحة في منطقة الساحل والصحراء. على حد قوله. ونبّه السليمي إلى "إمكانية توظيف البوليساريو للمسلحين في الهجوم على الجدار الأمني المغربي (جدار رملي أقامه المغرب لمنع تسلسل عناصر البوليساريو).
وأفاد رئيس المركز المغاربي للدراسات الأمنية وتحليل السياسات بأن "المعلومات تفيد بأن البوليساريو تعمل على فتح منفذ يمتد من شمال مالي إلى الجدار الأمني المغربي، خصوصاً أن الجزائر تعاني صعوبة في حماية حدودها، وموريتانيا ليس لها القدرات العسكرية اللازمة للمواجهة، لذلك فسيناريو الأحداث يشير إلى إمكانية فتح الممرات أمام الجماعات المسلحة من ليبيا، مروراً بشمال مالي وجنوب الجزائر لمهاجمة المغرب داخل وضع إقليمي مفتوح من جنوب ليبيا إلى الحدود مع المغرب".
من جهته، عاد خالد الشكراوي الباحث في مركز الشؤون الإفريقية إلى القول إن "ما يحدث في ليبيا له تداعيات على دول المغاربة، بما فيها المغرب، خصوصاً أن ليبيا تحولت إلى مجال لانتشار وبيع وتهريب الأسلحة إلى مختلف الدول المجاورة، وما يهدد دول الجوار يهدد المغرب بالتأكيد". وتابع الشكراوي "التهديد الأمني على مستوى التراب المغربي لا يهم قضية الصحراء فقط، بل يشمل التراب المغربي ككل".
أما تاج الدين الحسني الخبير المغربي في العلاقات الدولية، فقال إن "انتشار الأسلحة الليبية بشكل كبير في منطقة الساحل والصحراء يشكل تحديات لدول المنطقة، خصوصاً أن بعض القبائل بليبيا أصبحت تملك مجموعة كبيرة من الأسلحة الثقيلة والدبابات".
وقال الحسيني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط لـ"العربي الجديد" هذه التطورات تخيف المسؤولين ليس داخل ليبيا فحسب، بل بالنسبة لدول المنطقة ككل، خصوصاً أن الخطر انتقل إلى جنوب الصحراء والبلدان المجاورة لليبيا، حيث تم تهريب الأسلحة الثقيلة بالمنطقة، وهو ما أعطى بُعداً جديداً للعمليات الإرهابية، التي يقودها تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وجماعة بوكو حرام وشباب الصومال".
التنافس الجيوسياسي
وعقب الأزمة في ليبيا، بدأت دول الجوار في محاولة لاحتوائها، بما يحافظ على مصالحها هناك. لكن بمقاربات مختلفة وفي إطار توازن جيواستراتيجي هش، وموازين قوى مختلة.
ويقول عن ذلك منار السليمي، إن "التنافس الإقليمي يجعل التحالفات مع القوى المتصارعة داخل ليبيا مختلفة، فالمغرب يساند توجهات السعودية والإمارات، لكن علاقاتها مع الجزائر مضطربة، والأخيرة لديها مصالحها الخاصة في ليبيا. هذا الاختلاف يجعل الدول المغاربية غير قادرة على ممارسة احتواء إقليمي لأزمة ليبيا".
من جهته، يرى خالد الشكراوي -أستاذ بمعهد الدراسات الإفريقية بالرباط أن "هناك صراعاً قوياً وخفياً بين دول عربية عدة لاحتواء الصراع الليبي" ورغم ذلك فإنه اعتبر أن هناك إمكانية بأن يلعب المغرب دوراً وسيطاً مع تونس وموريتانيا لحل الأزمة الليبية داخل الإطار المغاربي".
وأوضح الباحث في مركز الشؤون الافريقية أن "هناك تخوفاً من كون مصر قد تدفع بحفتر لاحتواء الأزمة في ليبيا، بل الأكثر من ذلك هناك تصريحات لبعض المصريين للتدخل في المجال الليبي، بسبب أن مصر لا يمكن أن تسمح بسيطرة الجماعات على الحدود، بالمقابل الجزائر ليس في مصلحتها أن تدخل أي دولة في القضية الليبية، وسبق أن هددت بإمكانية التدخل في المجال الليبي".
التداعيات الاقتصادية
وعلى الرغم من أن الاهتمام ينصب على الوضع الأمني والاستراتيجي للأزمة الليبية، إلا أن الانعكاس السلبي لها طال الجانب الاقتصادي أيضاً، والذي ينعكس بدوره على الوضع الاجتماعي والسياسي.
في هذا الاطار، قال أستاذ الاقتصاد الجامعي بجامعة ابن زهر في مدينة أغادير محمد ياوحي إن "التداعيات الاقتصادية للأزمة الليبية على المستوى المغربي تتعلق بالاضطراب الأمني والسياسي الذى يؤثر على الاستثمارات، سواء المغربية بليبيا أم الليبية بالمغرب، دون نسيان ارتفاع كلفة تأخر التنسيق بين الدول المغرب العربي أو المغرب الكبير".
ولفت إلى بعد آخر يمس الجانب الاقتصادي، ويتعلق باحتمال ارتفاع أسعار البترول، وتضرر الدول غير المنتجة للنفط، مثل المغرب الذي يستورد 95 % من حاجته النفطية. وأكد ياوحي أستاذ الاقتصاد الجامعي أن "الصراعات بليبيا سوف تؤثر على أسعار المحروقات على المستوى الدولي".
ومن المنتظر أن تتأثر المؤشرات التجارية والاقتصادية بين المغرب وليبيا في حال استمرار الأزمة، حيث سجلت الصادرات المغربية إلى ليبيا عام 2013 نحو 733 مليون درهم (90 مليون دولار) مقارنة مع 700 مليون درهم ( 85 مليون دولار) سنة 2012 بارتفاع نسبته 4.7 %وهو ما يمكن أن يتعرض لتهديدات الأزمة في حال تزايد حالة السيولة الأمنية في ليبيا، بعد محاولة حفتر الانقلاب على ثورة 17 فبراير.