01 نوفمبر 2024
تدريس البرتغالية والارتجال في تونس
لا أحد يمكنه أن ينكر أهمية اللغة البرتغالية ضمن اللغات العالمية التي استمدت قيمتها من عدد متحدثيها الذين يمثلون 3.26% من سكان العالم، ويحتلون المرتبة السابعة في سلّم ترتيب اللغات عالمياً. لكن، لا بدّ من الانتباه إلى أن هذه الأهمية العددية متأتية من انتماء البرازيل إلى هذه المجموعة اللغوية التي تعدّ أكثر من مائة وتسعين مليون ساكن، وليس من البرتغال، البلد الأصلي لهذه اللغة، الذي يتجاوز عدد سكانه عشرة ملايين نسمة بقليل. ويعكس هذا الأمر مدى احتكار المجتمعات الأصلية، ذات القوّة الاقتصادية والعسكرية للرمزيات الثقافية، والتحكّم في الرهانات اللغوية، والاستثمار فيها، والذود عنها وحتى خوض الحروب من أجلها، كما يذهب إلى ذلك جان لوي كالفي، صاحب نظرية "الإمبريالية اللغوية". ومن هذا المنطلق وحده، نفهم ونعي المقاصد من "إطلاق برنامج إدماج اللغة البرتغالية لغة اختيارية في مرحلة التعليم الثانوي التونسي بداية من سبتمبر 2016"، الذي أعلن عنه وزير الخارجية البرتغالي، أوغوستو سانتوس سيلفا، في أثناء زيارته تونس أخيراً.
إطلاق هذا البرنامج الذي تمّ الإعلان عنه، في ندوة صحافية جمعت وزير الخارجية البرتغالي بنظيره التونسي، 24 فبراير/ شباط الماضي، في غياب المشرفين على قطاع التربية والتعليم، وفي مقدمتهم وزير التربية التونسي، لا يعكس خطأ بروتوكوليا فقط، وإنما يبين الوهن الذي بلغته المنظومة التربوية التونسية التي تُتخذ قرارات إستراتيجية باسمها، من دون حتى أن تُشرَك في الحوار حولها، ذلك أننا لم نسمع صوتاً لوزير التربية، أو لأحد مستشاريه، يبين مدى مصداقية هذا البرنامج، ومدى قدرة وزارته على الالتزام به، فيما موعد بدء تطبيقه بات وشيكا.
نزل هذا الخبر على وسائل الإعلام بصفة عابرة وثانوية، ومن دون أن يثير اهتمام النخب الفكرية والسياسية في تونس، وهو يعكس ضعف تمثّل المسألة التربوية لدى هذه النخب، خصوصاً أن الأمر تمّ بالتوازي مع الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية، المعلن عنه منذ سنة أو يزيد، الذي يفترض مناقشة المسألة اللغوية وموقعها في البرامج التعليمية التونسية مسألة مركزية ذات أهمية قصوى ومفتاحية.
ويعكس هذا القرار الفوقي والمُسقط بإدماج اللغة البرتغالية ضمن اللغات الاختيارية بالتعليم الثانوي عدم وجود سياسة لغوية واضحة ومحددة الأهداف من الدولة التونسية وحكوماتها المتعاقبة منذ زمن بعيد، إذا ما استثنينا دكتاتورية اللغة الفرنسية الموروثة عن الفترة الكولونيالية والحقبة البورقيبية. فهذه الحكومات التي تولت الأمر التربوي واللغوي لا زالت تعاني من صدمة الحداثة، كما تجلّت في أزمنة غابرة، فهي لا تزال تنظر إلى اللغات الأوروبية، وليس الفرنسية فقط، كغنيمة حرب، مستبطنة رؤية الانبهار التي عبّر عنها يوماً الجزائري كاتب ياسين، وعنواناً للانفتاح الثقافي والحضاري، ووسيلة ممكنة للولوج إلى العالم الحرّ، بإعطاء مساحات متزايدة للغات شعوبه في النظام التربوي التونسي.
فقد بلغت اللغات الأجنبية التي سيتم تدريسها للناشئة التونسية، بصفة إجبارية أو اختيارية، تسع لغات، وهي بحسب الأهمية والمساحة المخصصة لها، الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية والإيطالية والروسية والصينية والتركية، وستضاف إليها لاحقاً البرتغالية، زيادة على العربية بوصفها اللغة الوطنية.
ويكاد المسار نفسه الذي اعتمد في تدريس التركية منذ أربع سنوات، أي إبّان حكومة الترويكا
الأولى، يتكرّر اليوم من خلال إقرار تدريس البرتغالية. فقد أُقرّت التركية استجابة لبناء علاقات إقليمية مع تركيا "العثمانية الجديدة" التي قدّمت تسهيلاتٍ ماليةً ولوجستية، وأقامت استثمارات في تونس، من دون أن تنسى ذكراها مع ولايتها القديمة، وحنينها إلى التتريك اللغوي الذي فشلت فيه سابقاً، في زمن حمودة باشا باي، في أواسط القرن التاسع عشر الذي بجّل الإيطالية والفرنسية على لغة سلاطينه في الباب العالي. أما البرتغالية فستُعتمد مقابل دعم مادي ولوجستي، التزم البرتغاليون بتقديمه للحكومة التونسية ككل، وللمؤسستين الأمنية والعسكرية، ذلك أن إدماج كلتا اللغتين لم تسبقه دراسة جدوى، واستعداد مسبق لإنجاح التجربة علمياً وبيداغوجياً، وعلى مستوى إعداد إطار التدريس.
وما تمّ، في حقيقة الأمر، هو استباحة وارتجالية لغوية جديدة، في إطار التهافت على السوق اللغوية والتربوية التونسية، من أصحاب اللغات الكبرى والثقافات المهيمنة، حتى تحول الأمر إلى نوعٍ من المزاد العلني، بموجبه تدرّس لغة الدولة القادرة على الدفع للحكومة التونسية، هبة كانت أو قرضاً، أو حتى استثماراً مباشراً، في حين أن عقلنة السياسات اللغوية تقتضي تدريس اللغات الأجنبية، وفق اختيارات وطنية مدروسة ومحددة مسبقاً، تراعي إستراتيجية لغوية وثقافية واقتصادية، تكون الدولة التونسية قد أعدتها سلفاً يضعها مجلس وطني للغة، يتم إنشاؤه لهذا الهدف.
نتج عن هذا الوضع وجود تعليم متعدد اللغات، لكنه لا يمكّن من تعلّم أي منها بصفة حرفية إلا فيما ندر، ولم تعد هذه النتيجة خافية على المطلّعين على خفايا أمور النظام التربوي ومخرجاته، وهو الذي يعاني من عجز هيكلي في التكوين الأساسي والتأطير التربوي، حتى أنهم يعتبرونها من مآزق المنظومة التربوية التونسية.
ويلاحظ المتابع الميداني لمدى نجاح تدريس اللغات الأجنبية الاختيارية، بكل يسر، أن الأمر لم يتعدّ الشعارات وإعلان النيات، في أحيان كثيرة، لأن تدريس هذه اللغات بقي مقتصراً على المعاهد النموذجية ونظيراتها الثانوية في بعض المدن الكبرى، وهذا نتيجة وجود تعليم يسير بنسقين مختلفي السرعة، يجتبي المتميزين والمحظوظين مادياً من سكان الحواضر قبل غيرهم، فيعزلهم عن باقي الناشئة التي يُلقى بمائة ألف تلميذ من بينها إلى الشوارع سنوياً، ناهيك عن أن الدولة التونسية باتت تعجز عن سدّ شغور مدرّسي المواد الأساسية، خصوصاً في المناطق الداخلية الفقيرة والمهمشة فاقدة مقوّمات الحياة الكريمة، بسبب عدم توفّر الموازنات المالية الكافية، فما بالك بأن توفّر مدرّسين للغات الأجنبية الاختيارية المعتمدة في المقرّرات المدرسية.
ويبدو أن قرار تدريس البرتغالية، من دون دراسة المسألة ضمن سياق إصلاح تربوي عميق جذري وحقيقي، يفسخ كل مصداقية عن جدّية الإصلاحات المزمع القيام بها في المدرسة التونسية التي يجب أن تنطلق بإصلاح وضع اللغة العربية، وبرامجها ومحتوياتها العتيقة المنفّرة للأجيال، القادمة من عصورٍ خلت، قبل غيرها من اللغات، ما جعلها تعيش حالة من التهرئة والدونية والاحتقار. وتفرض هذا الأمر المصلحة الوطنية ومصالحة الهوية التونسية، المستندة إلى العربية لغة والإسلام ديناً، كما أقرّ ذلك دستور 27 يناير/ كانون الثاني 2014، فلا يستقيم حال المنظومة التربوية من دون إصلاح اللغة الوطنية، حتى وإن أدمجت بها كبرى اللغات الأجنبية.
وللتونسيين عبرة في تجارب الشعوب التي كانت تقاربهم في المستويات التنموية والاقتصادية والتربوية والعلمية منذ نصف قرن، بما في ذلك البرتغاليون والأتراك والكوريون، في تدريس العلوم والمعارف بلغاتهم الوطنية، ما مكّنهم من النهوض والالتحاق بالمجتمعات المتقدمة. وهذا هو الطلسم الذي لم تستطع النخب السياسية التونسية فكّ شفرته، فطالما استمرّت التبعية اللغوية والثقافية وتكريس الازدواجية في الشخصية والشعور بالدونية تجاه الآخر، فإن الخروج من التخلف وبناء الكيان الوطني الناهض والدولة المتقدّمة صاحبة السيادة سيبقى منالاً صعباً، أما الحداثة اللغوية القائمة على المحاكاة فتُستخدم في هذا الإطار مجردّ شعار.
إطلاق هذا البرنامج الذي تمّ الإعلان عنه، في ندوة صحافية جمعت وزير الخارجية البرتغالي بنظيره التونسي، 24 فبراير/ شباط الماضي، في غياب المشرفين على قطاع التربية والتعليم، وفي مقدمتهم وزير التربية التونسي، لا يعكس خطأ بروتوكوليا فقط، وإنما يبين الوهن الذي بلغته المنظومة التربوية التونسية التي تُتخذ قرارات إستراتيجية باسمها، من دون حتى أن تُشرَك في الحوار حولها، ذلك أننا لم نسمع صوتاً لوزير التربية، أو لأحد مستشاريه، يبين مدى مصداقية هذا البرنامج، ومدى قدرة وزارته على الالتزام به، فيما موعد بدء تطبيقه بات وشيكا.
نزل هذا الخبر على وسائل الإعلام بصفة عابرة وثانوية، ومن دون أن يثير اهتمام النخب الفكرية والسياسية في تونس، وهو يعكس ضعف تمثّل المسألة التربوية لدى هذه النخب، خصوصاً أن الأمر تمّ بالتوازي مع الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية، المعلن عنه منذ سنة أو يزيد، الذي يفترض مناقشة المسألة اللغوية وموقعها في البرامج التعليمية التونسية مسألة مركزية ذات أهمية قصوى ومفتاحية.
ويعكس هذا القرار الفوقي والمُسقط بإدماج اللغة البرتغالية ضمن اللغات الاختيارية بالتعليم الثانوي عدم وجود سياسة لغوية واضحة ومحددة الأهداف من الدولة التونسية وحكوماتها المتعاقبة منذ زمن بعيد، إذا ما استثنينا دكتاتورية اللغة الفرنسية الموروثة عن الفترة الكولونيالية والحقبة البورقيبية. فهذه الحكومات التي تولت الأمر التربوي واللغوي لا زالت تعاني من صدمة الحداثة، كما تجلّت في أزمنة غابرة، فهي لا تزال تنظر إلى اللغات الأوروبية، وليس الفرنسية فقط، كغنيمة حرب، مستبطنة رؤية الانبهار التي عبّر عنها يوماً الجزائري كاتب ياسين، وعنواناً للانفتاح الثقافي والحضاري، ووسيلة ممكنة للولوج إلى العالم الحرّ، بإعطاء مساحات متزايدة للغات شعوبه في النظام التربوي التونسي.
فقد بلغت اللغات الأجنبية التي سيتم تدريسها للناشئة التونسية، بصفة إجبارية أو اختيارية، تسع لغات، وهي بحسب الأهمية والمساحة المخصصة لها، الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية والإيطالية والروسية والصينية والتركية، وستضاف إليها لاحقاً البرتغالية، زيادة على العربية بوصفها اللغة الوطنية.
ويكاد المسار نفسه الذي اعتمد في تدريس التركية منذ أربع سنوات، أي إبّان حكومة الترويكا
وما تمّ، في حقيقة الأمر، هو استباحة وارتجالية لغوية جديدة، في إطار التهافت على السوق اللغوية والتربوية التونسية، من أصحاب اللغات الكبرى والثقافات المهيمنة، حتى تحول الأمر إلى نوعٍ من المزاد العلني، بموجبه تدرّس لغة الدولة القادرة على الدفع للحكومة التونسية، هبة كانت أو قرضاً، أو حتى استثماراً مباشراً، في حين أن عقلنة السياسات اللغوية تقتضي تدريس اللغات الأجنبية، وفق اختيارات وطنية مدروسة ومحددة مسبقاً، تراعي إستراتيجية لغوية وثقافية واقتصادية، تكون الدولة التونسية قد أعدتها سلفاً يضعها مجلس وطني للغة، يتم إنشاؤه لهذا الهدف.
نتج عن هذا الوضع وجود تعليم متعدد اللغات، لكنه لا يمكّن من تعلّم أي منها بصفة حرفية إلا فيما ندر، ولم تعد هذه النتيجة خافية على المطلّعين على خفايا أمور النظام التربوي ومخرجاته، وهو الذي يعاني من عجز هيكلي في التكوين الأساسي والتأطير التربوي، حتى أنهم يعتبرونها من مآزق المنظومة التربوية التونسية.
ويلاحظ المتابع الميداني لمدى نجاح تدريس اللغات الأجنبية الاختيارية، بكل يسر، أن الأمر لم يتعدّ الشعارات وإعلان النيات، في أحيان كثيرة، لأن تدريس هذه اللغات بقي مقتصراً على المعاهد النموذجية ونظيراتها الثانوية في بعض المدن الكبرى، وهذا نتيجة وجود تعليم يسير بنسقين مختلفي السرعة، يجتبي المتميزين والمحظوظين مادياً من سكان الحواضر قبل غيرهم، فيعزلهم عن باقي الناشئة التي يُلقى بمائة ألف تلميذ من بينها إلى الشوارع سنوياً، ناهيك عن أن الدولة التونسية باتت تعجز عن سدّ شغور مدرّسي المواد الأساسية، خصوصاً في المناطق الداخلية الفقيرة والمهمشة فاقدة مقوّمات الحياة الكريمة، بسبب عدم توفّر الموازنات المالية الكافية، فما بالك بأن توفّر مدرّسين للغات الأجنبية الاختيارية المعتمدة في المقرّرات المدرسية.
ويبدو أن قرار تدريس البرتغالية، من دون دراسة المسألة ضمن سياق إصلاح تربوي عميق جذري وحقيقي، يفسخ كل مصداقية عن جدّية الإصلاحات المزمع القيام بها في المدرسة التونسية التي يجب أن تنطلق بإصلاح وضع اللغة العربية، وبرامجها ومحتوياتها العتيقة المنفّرة للأجيال، القادمة من عصورٍ خلت، قبل غيرها من اللغات، ما جعلها تعيش حالة من التهرئة والدونية والاحتقار. وتفرض هذا الأمر المصلحة الوطنية ومصالحة الهوية التونسية، المستندة إلى العربية لغة والإسلام ديناً، كما أقرّ ذلك دستور 27 يناير/ كانون الثاني 2014، فلا يستقيم حال المنظومة التربوية من دون إصلاح اللغة الوطنية، حتى وإن أدمجت بها كبرى اللغات الأجنبية.
وللتونسيين عبرة في تجارب الشعوب التي كانت تقاربهم في المستويات التنموية والاقتصادية والتربوية والعلمية منذ نصف قرن، بما في ذلك البرتغاليون والأتراك والكوريون، في تدريس العلوم والمعارف بلغاتهم الوطنية، ما مكّنهم من النهوض والالتحاق بالمجتمعات المتقدمة. وهذا هو الطلسم الذي لم تستطع النخب السياسية التونسية فكّ شفرته، فطالما استمرّت التبعية اللغوية والثقافية وتكريس الازدواجية في الشخصية والشعور بالدونية تجاه الآخر، فإن الخروج من التخلف وبناء الكيان الوطني الناهض والدولة المتقدّمة صاحبة السيادة سيبقى منالاً صعباً، أما الحداثة اللغوية القائمة على المحاكاة فتُستخدم في هذا الإطار مجردّ شعار.