تذكّر اغتيال أنطون سعادة .. سوريا الكبرى أم أرض إيران المفيدة؟
ولأن المستَذكَر كان مفكراً ومناضلاً وصاحب قضيةٍ ومشروع استنهاضٍ للأمّة، تختلف معه حوله أم تتفق، كان من المنتظَر رفع الذكرى إلى مناسبة جليلة، ينصرف في وحيها المحتفون إلى الدفاع عن صاحب كل رأي، وصيانةِ حق كل مختلف في التعبير والممارسة. واعتبارِ أن في الاغتيال السياسي ما يتجاوز اغتيال فرد إلى إعدامٍ للحياة السياسية برمتها، وتعطيلٍ لكل مسار ديمقراطي، وتدميرٍ منهجي لسويّة الحياة والمجتمع، وإلى عائقٍ أمام تقدّم الأمة التي دفع سعادة حياته من أجلها.
كان من الطبيعي أيضاً أن يخيب الظنّ، فحين لا يكون سبَق لكثيرين ممن أدلوا بدلوهم في هذه المناسبة أن ناصر قضيّة بهذا النبل، (هذا إذا لم يكن وقف مراراً وتكراراً في صفوف المصفّقين والداعمين لإعدام الخصوم ومحو ذكراهم، وتشويه تاريخهم بالإشاعات)، لا نُفاجأ أمام هذا الإسهاب الإنشائي الملفّق على عجل، إذا لم يقع القارئ على موقف واحد، أو كلمة واحدة تدين الاغتيال السياسي بالمطلق، أو تدين المتطاولين على الحريّة تحت أية ذريعة. هكذا ينقلب التكريم إلى استغلال رخيص لذكرى سعادة، وتستحيل المناسبةُ حجّةً تختفي خلفها "راهنية" أخرى، يستثمر فيها القيّمون الفعليّون على الصحيفة، ويتحاشى "شجعان الرأي" تسميتها.
استعادة فكر سعادة ليس همّاً
إذا لم تكن الغاية من استذكار إعدام أنطون سعادة اعتبارَهُ مناسبةً لاستنهاض رأي عام، يضع حريّة التفكير وصيانتَها في صميم أيّ مشروع نهضوي لهذه المنطقة المنكوبة بالاستبداد المستدام، فإن استعادةَ مشروع سعادة من أجل إعادة تقييمه ووزنه بميزان جديد، بفصل قمحه
عن زؤانه بعد العمر الطويل، هو أيضاً لم يكن همّاً في حساب أحد.
رُفعت شعاراتٌ برّاقة، جُمع نثارها مما كتب الرجل، ونزل بها "فرسان الكلام" كما في تظاهرة دعا إليها الداعي لغاية في نفس يعقوب. لم يناقش أحدٌ فكرةً واحدةً مما هو مدارُ خلاف مع أفكار سعادة منذ زمن بعيد. ولا يقبع وراء اللافتات الكبيرة التي رفعها المحتفون إلا التهويلُ باكتشافات مفاجئة لم يمتحن أحدٌ صلابتها على الإطلاق. وكأنّ ما كتبه سعادة كان وديعةً مدفونةً في الكهوف والمغاور.
تصنيم "الزعيم"، في كل الأحوال، وعلى عكس ما حاول بعضهم خداع القارئ به، بالتبجيل والتبخير لديمقراطية في الحزب القومي لم يرقَ إليها تنظيم آخر، هذا التصنيم، أعدم ولا يزال، كلّ أسباب الديمقراطية، وحين ترقى إعادة قراءة سعادة وتقييمه إلى ارتكاب معصيةٍ لا تجيزها سنّة الأُباة، فسيبقى ممتنعاً على أيّ من محازبيه، أن يقع في حصاده الكبير على حبّة زؤان واحدة. وإذا كان لأحدهم أن يمنح سعادة شرف "نقد الدين"، فالأولى الحيلولة دون تحويل كتابات سعادة إلى دين جديد لمناصريه، فحيث ينعدم النقد يسهل القياد. كما يسهل صبّ الجموع في المتاريس، وضدّ أحلامها في معظم الأحيان.
وفي عجالةٍ كهذه، يرشح منها الخداعُ والتلفيقُ، ليس غريباً أن تتصادم الآراء المنثورة ببعضها، بحيث يخرج القارئ من هذه الكتابات بثوبٍ مهلهلٍ تمّ ترقيعه بخيوط الذرائع التي يتقنها المخادعون. وبالنفاق، هذه المرّة، يتم إعدام مفكر كأنطون سعادة مرة جديدة على منصة التكريم.
وبهذه البساطة أيضاً، حين يلاحظ حسن علّيق "علمانية سعادة الرحبة، في زمننا، زمن صعود الهويّات المذهبية الضيقة"، يذكّره مصطفى أبو سنينة "إنّ من يقرأ سعادة سيشعر بالفخر أنه سوري، وأنه ينتمي إلى أُمة مقاتلة وحيّة ومُبدعة"، وأن "ذلّ العرب لا يعني ذلّ الأُمة السورية".
وبينما تكتشف نباهة أسعد أبو خليل أن سعادة "كان أكثر ديموقراطيّة من قادة الأحزاب الشيوعيّة والليبراليّة والقوميّة"، يُسعفه نايف معتوق، مرسّخاً في ذهن القارئ، هذه الرحابة الديمقراطية التي تفتح صدرها للجميع، باعتباره "الفكر القومي هو خارطة طريق الإنقاذ التي باعتمادها فقط (لاحظ الكثافة الديمقراطية في لفظة فقط) خلاصٌ لمجمل كياناتنا السوريّة من كلّ ما تعاني منه".
وإذا ما تأكّد لأنيس النقاش "أن فكر سعادة هو فكر غاص في التاريخ والجغرافيا السورية وفي المجتمع السوري بشكل عميق ودقيق، ولم يكن ناقلاً لمجرد أفكار قومية كانت تُتداول في تلك المرحلة التاريخية"، يتأكّد لأبو خليل أمر آخر مختلف تماماً، هو "استعانة سعادة بعلم
الاجتماع الغربي، وخصوصاً علم الأنثروبولوجيا، الذي أوقعه في عنصريّة واستشراق هذا العلم، مع ملاحظته لبعض النواحي العنصريّة فيه مثلما لاحظ «التحامل على السلالات» في أميركا".
وبعيداً عن تربة الوطن السوري الخصبة وعن علم الاجتماع الغربي، لا يفوتُ وليد شرارة أن يلحظ، هو الآخر، عند سعادة "تأثّره بتجربة الجنرال خوان بيرون الوطنيّة في الأرجنتين، وبتجارب وطنيّة أخرى في أميركا اللاتينية"، مانحاً مشروع الزعيم بعداً عالمثالثياً، فات أقرانه فأعاد، بهذا الاكتشاف الخطير، الأمورَ إلى جادّة الصواب.
وبعد أن يشير إلى أن سعادة تحدّث عن سلالات "راقية" وأخرى "منحطّة"، لا يبخل أبو خليل على الزعيم بمنحه من حسابه تبريراً يحتاج إلى ما يبرّره: "لكن تطوّر العقيدة يسمح بإهمال هذه العناصر من الفكر المؤسس". مضيفاً في مكان آخر ".. وبالرغم من التعبيرات المعادية لليهوديّة والتي تخلّى الحزب عنها في ما بعد". ولكن الـ "في ما بعد» هذه، يتعطل مفعولها التلفيقي على مقربة سطور معدودة من قول أبو خليل، حين يضيف معتوق إلى عوامل الاصطراعات التي ضربت لبنان في سبعينيات القرن الماضي "العامل اليهوديّ العدائي".
وكما لو كان استنكار إعدام سعادة لا يكفي وحده سبباً للمشاركة في إدانة هذه الجريمة، فما أن يعثر القومي العربي معن بشور على تبريره ضرورة التصالح مع إرث سعادة، لـ "أننا ما زلنا في مرحلة التحرر الوطني والقومي التي تتطلب رصّ الصفوف بين كل من يعمل من أجل تحرير الأرض واستقلال الوطن، والقوميون الاجتماعيون في طليعتهم"، حتى ينسف مصطفى أبو سنينة هذا التبرير من أساسه، بتذكيرنا بنظرة سعادة القومية المتعارضة بحدّة مع نظرة بشور، فيرى إلى الزعيم "كما لو أنه يكتب اليوم. يتطرّق إلى معاهدات الهدنة مع الكيان الصهيوني، ليس باعتبارها خيانة، بل كجزء من المصالح السياسية لهذه الأمم العربية التي تتعارض مع مصلحة الأُمة السورية في سورية الجنوبية".. بمثل هذه النقدية الخلاقة والفذّة، إذن، علينا أن نشارك في استعادة "راهنية" أنطون سعادة "هنا والآن".
سوريا بلا سوريين
إذا كانت وحدة سورية الطبيعيّة تؤمّن رسوخاً تحتاجه النهضة الموعودة للأمة، كما يرى القوميون، فالشعارات اللفظية التي استوت مبادئ تحتشد تحتها الجموع، ليست، على ما يبدو، بهذا الرسوخ. بل هي معرّضة لانزلاقات جيولوجية مستمرة. فـ "سورية للسوريين" يمكن لها أن تنزلق بخفة إلى "سورية لمن يحرّرها"، فيسهل بذلك تبديل وجهة "الكفاح" وإحالة الشعار القديم إلى التقاعد وتجاهل الحناجر التي صدحت به طويلاً.
كذلك، يمكن أن تنزلق شعارات الدولة العلمانية كلها، ومعها كل الشعارات المحذّرة من خطر الطائفية بذريعة "محاربة التكفيريين"، بالانحياز التام إلى نوع آخر من التكفيريين. هكذا تتم محاربة "جيش الإسلام" و"الدولة الإسلامية" و"جند الأقصى" و"جيش النصرة" و"شباب السنة"، بحمل السلاح إلى جانب فصائل من نوع "حزب الله" و"زينبيون"
و"فاطميون" و"لواء الإمام الحسين" ولواء "أبو الفضل العباس" و"كتيبة الزهراء"، حيث لن ينجلي غبارُ المعارك المصيريّة إلا عن بيارق العلمانيّة الخفّاقة، ونجومُ النهضة تلمع في سماء الهلال الخصيب.
يفوت بدري الحاج أن ما يجري على أرض سورية الطبيعية، "هنا والآن"، إنما يجري في العلن، ما تصعب معه محاولاتُ تمويهه وتزوير مجرياته، فلو سعى في معرفة ما تميّز به "ديكتاتور دمشق حسني الزعيم"، لتوصّل بالتأكيد إلى تعيين من هم أجدر منه بهذه الصفة، ممن يتفانى "الممانعون" في ترسيخ سلطانهم على جموع سورية "التي فيها قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ".
باسم مقارعة الاستعمار، وربيبته إسرائيل بطبيعة الحال، تحضر فلسطين من دون أهلها، ضيفاً دائماً كعناصر الإطفاء، تنجد "الممانع" الحريص بالدعم والسند، فعليها من دون سواها حمل وزر العزة والكرامة والمجد ومفردات التزحلق فوق كل المواقف المتعارضة. كما تحضر العلمانيّة مثل لوح من الصابون، يعين في غسل الأيدي من قذاراتٍ تصدر عن اختلاط النضال السياسي بالجهاد الديني، بحيث يسهل على الممانع "الدفاع عن مقام السيدة زينب"، والانخراط في "حرب كونيّة" ضد الاستعمار في موقعة واحدة، يدمّر فيها وطناً كاملاً بأرضه وشعبه، ويخرج نظيف الكف والضمير.
وحين تتضافر نصرة فلسطين ونصرة العلمانية معاً، يكون مشروع النهضة الموعودة قد بلغ ذراه، ويصبح من الواجب والمفيد تذكير القرّاء بحادثة، جرت "هنا والآن"، لما في التذكير بها من تصويب لحقائق غُضَّ الطرف عنها في المعمعان الكبير. (ليس المهم تذكير المحتفين لأنه ليس في مصلحتهم تذكر حادثة مماثلة).
في عام 1998، قرّرت إدارة مسرح بيروت الذي كان يديره الكاتب إلياس خوري أن تنظم إحياء للذكرى الخمسين لنكبة فلسطين. وفي التفاتة رائعة، أُعلن بين أسماء المشاركين اسمُ الصحافي سليم نسيب كريدية، المقيم في باريس (من منظمة العمل الشيوعي اللبناني)، والكاتبين المغربيين إبراهيم السرفاتي (منظمة إلى الأمام الماركسية اللينينية في المغرب) وإدمون عمران المليح. ولأن هؤلاء عرب تصادف أنهم من أصول يهودية، لم يشفع لهم تاريخهم الطويل من تمسكهم بعروبتهم وعروبة فلسطين والدفاع الشرس عن حقوق شعبها. وقعت الواقعة وجاء التهديد المتكرّر بتفجير المسرح، وتعطيل الاحتفال، من "المناضل الممانع"، أحمد جبريل، ربيب النظام السوري "الممانع"، ما اضطرّ إدارة المسرح إلى الاعتذار عن حضور الكتّاب الثلاثة والاكتفاء بقراءة مساهماتهم على الحاضرين بالنيابة. ولكن درّة المواقف وجدت تعبيرها الأسمى في مقالٍ يدعم التهديد، ويزيد في التهويل، تشرّفت بنشره صحيفة الديار "الممانعة"، دبجها قوميّ سوريّ واضعاً الموقف من مشاركة "اليهود" في مكانه الصحيح من تعاليم الزعيم، ومتهماً إلياس خوري بالماسونية.
لقد شهدنا بالفعل كيف يتجلّى الفكر العلماني والمقاوم في أنصع صوره وتمام كماله، رافعاً الدفاع عن فلسطين إلى قمة إنسانية غير مسبوقة. وحسناً فعل كاتب المقال عن نباهة وحنكة "بالرغم من التعبيرات المعادية لليهوديّة والتي تخلّى الحزب عنها فيما بعد". قاطعاً الطريق على أبو خليل أن يجني كعادته، مكسباً من التزلف الرخيص.
فلسطين والعلمانية غبّ الطلب
لا، ليست ذكرى إعدام سعادة ما استدعت هذه الوقفة التضامنية المفاجئة، وبالتأكيد ليس الاعتراض على الاغتيال السياسي. وإلا كيف نفسّر في مناسبةٍ لشهيد، الوضاعة والدناءة، في
استحضار شهيد آخر كجورج حاوي، منزوعة عنه شهادته، مفترى عليه، مع غضّ الطرف عن مغتاليه، والتجاهل المتعمد لكونه صاحب الطلقة الأولى للمقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي لبيروت.
النّيل من جورج حاوي، يا أسعد أبو خليل، كما اغتياله، تعرف سببه جيداً، وهو أن جورج حاوي رمزٌ لمقاومة علمانية وطنية من المطلوب محو آثارها من أجل ترسيخ "مقاومة" طائفية مرتهنة. كما كان موقف الشهيد سمير قصير، الداعي إلى التلازم بين طريق تحرير فلسطين وبناء مجتمعات حرة وديمقراطية، قد أودى به إلى مصير مشابه على أيدي الطغاة أنفسهم.
أما استياؤك المزعوم من "تقبيل جورج حاوي لصلبان رجال الدين الذين يلتقيهم"، للتقليل من شأن علمانيّته، فعذرٌ أقبح من ذنب، فالذي يشهر علينا ثوريته في فسحة ضيقة بين عباءات الملالي ورجال الدين الموتورين، لا يجدرُ أن تُزعجَه فِعلةُ جورج حاوي لو صحت. المراوغة لا تخدم طويلاً. والكلام الطليعي، حين يعوزه الصدق في امتحان المواقف، يتهافت كما تتهافت زلات اللسان. فالقارورة البراقة قد تسكب نبيذاً فاسداً، كما قد يسيل دمٌ كثير تحت الصلوات.
هكذا يتم التضحية بالعلمانية، كلما تعثرت بها المسالك المفضية إلى مشاريع المذهبية. كما تُنحّى جانباً المقاومة الوطنية لإسرائيل، عن طريق السعي الدؤوب إلى مقاومة كل تنوير. وتَضمرُ فلسطين حين تصبح معانيها أكبر من أن تحتملها خطبُ المرائين على المنابر.
"راهنية" الأرض المفتوحة
"الراهن" إذن، في حساب الداعين إلى إحياء ذكرى إعدام أنطون سعادة، ليس مواجهة أنظمة تسمن بعرق المواطنين ودمائهم، وتتاجر بأحلامهم في السرّ والعلن. ولا في الإسراع لنجدة
حرية يتهددها الاغتيال والإقصاء، ففي مسيرةٍ تعاني من عطب سياسي وأخلاقي، يتراكم الاستبداد على طريق فلسطين، وعلى كل مساحة سورية الطبيعية، حيث تنهض للتخلف حصونٌ منيعةٌ وللطغيان قلاعٌ يطلق منها "الممانعون" الألعاب النارية في ذكرى إعدام الزعيم. الدعوة إلى وحدة للأرض يتفتّت عليها قاطنوها ويُسحقون بأنظمة القهر، يجعل لسايكس ـــ بيكو فضلاً ثميناً علينا، لأنّه يكون على الأقلّ، قد سمح لبقعة أن تنجو من السقوط في قبضة الاستبداد الشامل.
"الراهن" هو ما أوحى به مصطفى أبو سنينة: "أن الأمة السورية ذات مصير مشترك في فلسطين والعراق ولبنان والأردن والشام والكويت وشبه جزيرة سيناء. هذه، اليوم، هي مناطق المواجهة والاشتباك مع الإمبريالية الأميركية ومع المشروع الصهيوني التخريبي في سورية الكبرى". هنا مكمن بيت القصيد.
ما لم يبح به "الممانعون"، في هذه الجلبة، أن سورية الكبرى ليست غير أرض إيران المفيدة. والمطلوب بإسقاط الحدود بين بلدانها، "هنا والآن"، ليس تجميع عناصر القوّة من أجل الارتقاء بالمجتمعات، بل من أجل تسهيل عبور الغزاة الجدد بفصائل الإرهاب التي خبرنا جهودها في تفكيك هذه المجتمعات وتدميرها وتشريد مواطنيها من العراق إلى لبنان.