09 يناير 2023
ترامب ينتصر مجدّداً على الأميركيين
وائل السواح
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.
حقّق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، انتصار جديا، حين نجح في جعل الجمهوريين يصوّتون لتثبيت قاضٍ مسيَّس، ثبت كذبه على الكونغرس، وتتهمّه ثلاث نساء بالتحرّش بهن، ويروي عنه زملاؤه أنه كان يسكر حتى الضياع، وأنه حين يسكر يغدو عنيفا في المحكمة العليا.
وأثبت القاضي، بريت كافانا، أنه غير محايد، عندما اتهم ما يجري ضدّه من مظاهراتٍ واحتجاجاتٍ عمّت أنحاء الولايات المتحدّة بأنها مؤامرات ديمقراطية، للثأر لآل كلينتون من انتصار ترامب سنة 2016. كما أثبت أنه يمكنه أن يفقد رشده وأعصابه ببساطة، من خلال إجاباته الوقحة على أسئلة الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، ومحاباته الذليلة للجمهوريين. غير أن انتصار ترامب ليس انتصارا حقيقيا، بل هو يشبه انتصارات بشّار الأسد، فكلا الرجلين ينتصران على شعبهما. انتصر الأسد، بمساعدة الروس والإيرانيين، على السوريين، وانتصر الثاني على الأميركيين، ويا للمفارقة، بمساعدة الروس أيضا. وهو أيضا ليس انتصارا حقيقيا، لأن مرشّحه للمحكمة العليا فاز بفارق مذلّ، فارق صوت واحد فقط (50 - 49)، وهو للأسف صوت سيناتور ديمقراطي، خشي أن يفقد مقعده في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل لو صوت ضدّه، فباع حزبَه وضميره، وصوّت مع قاضٍ كاذب ومتّهم بالتحرّش ومحاولة الاغتصاب.
هذه النسبة هي الأكثر ضآلة في تاريخ المحكمة العليا على الإطلاق، فحتّى مرشّح ترامب السابق نيل غورسيك فاز بـ 54 صوتا مقابل 54، والأخير على الرغم من اختلاف الليبراليين معه يبقى قاضيا نزيها، وعلى عكس كافانا، لا يسمح لقناعاته الأيديولوجية بالتأثير على
قراراته. كما أن انتصار ترامب - كافانا سيظل دائما منقوصا، لأن كافانا وأسرته لن يستطيعوا التخلّص أبدا من صوت الدكتورة كريستين فورد، وهي تتهمه بمحاولة اغتصابها، كما لن يستطيعوا التخلص من هتافات مئات ألوف الأميركيين الذين خرجوا إلى الشارع للاحتجاج ضدّه. وسوف تستمرّ الصحافة ومنظمات الحقوق المدنية والمجتمع المدني الأميركي في ملاحقة الرجل وتاريخه، كاشفين، في كلّ يوم ربما، عن أمر جديد سيشكّل مصدر قلق جديد له، وسيعيش كافانا طويلا وهو يشعر باحتقار معظم الأميركيين له.
بالنسبة للرئيس ترامب، كانت المعركة كلها لتحقيق انتصار آخر، من النوع الذي يحبّه: الانتصار الذي يثير شقاقا وصخبا، فكلّما ازداد غضب الليبراليين، تراكم تأييد قاعدته السياسية وحبها له. وهو لم يخفِ ولو لثانية واحدة تأييده مرشّحه، ولم يفتر أبدا عن مهاجمة النساء اللواتي اتهمنه بالاعتداء عليهن. وقد أثار إحساس مؤيديه بالظلم، عندما زعم أن كافانا كان ضحية النسويات الشريرات والليبراليين، ولم يخجل من أن يقلّد، بشكل بائس، إحدى ضحايا كافانا من على منبر الخطابة أمام آلاف المتحمسين له من القوميين والعنصريين البيض والنازيين الجدد.
لقد بلغ الانقسام المجتمعي في أميركا حدّا غير مسبوق منذ الحرب الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر، والفضل في ذلك يعود إلى رئيس مهزوز، محدود الأفق، متعصب عنصريا ودينيا ومعاد للمرأة، لكنه تمكّن، مع ذلك، من فرض إرادته على كلّ أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، باستثناء سيّدة شجاعة من ألاسكا، هي السيناتور ليزا موركوسكي، فلا الاتهامات الموثوقة بالاعتداءات الجنسية، ولا الكذب تحت القسم، ولا الهجمات المتحزّبة الصريحة على أعضاء مجلس الشيوخ الذين يحاولون تقييم صلاحيته للخدمة، ولا الوقاحة المتناهية: لم يكن أي منها كافياً لمنح القادة الجمهوريين أكثر من مجرّد وقفة مؤقتة في حملتهم للاستيلاء على السيطرة الحاسمة على المحكمة العليا.
يتشارك مع ترامب زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، الذي أرسى صراحة معركة السيطرة الحزبية على المحكمة، حين رفض السماح للرئيس السابق، باراك أوباما، بملء المقعد الذي شغر بوفاة القاضي سكاليا في عام 2017 مدة عام تقريبا، رافضا التصويت لمرشّح أوباما القاضي المعتدل، ميريك غيرلاند، الذي كان يحظى بتقدير كبير من الحزبين، وكان رفضه سيحرج في النهاية الجمهوريين في مجلس الشيوخ، لكن ماكونيل أصر على الاحتفاظ بالمقعد مفتوحا لجذب الناخبين الإنجيليين المتعصبين للمشاركة في التصويت لصالح ترامب. وكانت تلك مناورة ذكية، على الرغم من أنها كانت تخاطر بمصداقية النظام القانوني الأميركي، وقد تمّ دفع الرهان الآن، وتحقّقت المخاطر.
يسيطر قضاة محافظون منذ نصف قرن تقريبا على المحكمة العليا، لكنها مع ذلك استمرّت
بمصداقيتها، ولم تفقد احترامها، على الرغم من القرارات المثيرة للجدل، مثل قرارها في الخلاف بين جورج بوش الابن وآل غور في عام 2000، الذي سلّم البيت الأبيض إلى رئيس جمهوري. أما الآن، فإن تنصيب قاض مثل بريت كافانا سوف يمثّل مرحلة جديدة، حيث سيتعيّن على أميركا أن تعيش عقودا الآن في ظلّ عدالةٍ غير ذات مصداقية، قد يلعب فيها قاضٍ متّهم بالاعتداء الجنسي دورا حاسما في تشجيع التطرّف ومحاربة المرأة والأقليات والفئات المهمّشة، كالمثليين جنسيا، أو على الأقل تجعل من الصعب على المرأة ممارسة حقوقها الدستورية.
سيكون هنالك في المحكمة العليا الآن خمسة قضاة، تمّت تسميتهم من رؤساء جمهوريين. ولكن، يا للمفارقة، أربعة من هؤلاء الخمسة رشّحهم رئيسان انتخبا على الرغم من أنهما خسرا التصويت الشعبي (جورج بوش ودونالد ترامب)، وتمّت تسمية أولئك القضاة بنسبة أصواتٍ ضئيلة، لا تعكس ثقة الأميركيين بنزاهة المحكمة العليا.
ويعارض معظم الأميركيين اليوم رأي الأغلبية في مجلس الشيوخ. إنهم لا يدعمون الرئيس ترامب، ولا يوافقون على الحزبية التي لا هوادة فيها، ولا يتجاهلون نزاهة المؤسسات الديمقراطية. وقد احتلّ هؤلاء الأميركيون ممرّات الكونغرس الأميركي وردهاته، ليُسمعوا صوتهم لنوابهم الذين رفضوا الاستماع لهم أو لصوت العقل، بيد أن لدى هؤلاء الأميركيين، لحسن الحظ، القدرة على محاسبة حكومتهم. وأغلب الظنّ أنهم سيفعلون ذلك في الانتخابات النصفية المقبلة يوم 6 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وأثبت القاضي، بريت كافانا، أنه غير محايد، عندما اتهم ما يجري ضدّه من مظاهراتٍ واحتجاجاتٍ عمّت أنحاء الولايات المتحدّة بأنها مؤامرات ديمقراطية، للثأر لآل كلينتون من انتصار ترامب سنة 2016. كما أثبت أنه يمكنه أن يفقد رشده وأعصابه ببساطة، من خلال إجاباته الوقحة على أسئلة الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، ومحاباته الذليلة للجمهوريين. غير أن انتصار ترامب ليس انتصارا حقيقيا، بل هو يشبه انتصارات بشّار الأسد، فكلا الرجلين ينتصران على شعبهما. انتصر الأسد، بمساعدة الروس والإيرانيين، على السوريين، وانتصر الثاني على الأميركيين، ويا للمفارقة، بمساعدة الروس أيضا. وهو أيضا ليس انتصارا حقيقيا، لأن مرشّحه للمحكمة العليا فاز بفارق مذلّ، فارق صوت واحد فقط (50 - 49)، وهو للأسف صوت سيناتور ديمقراطي، خشي أن يفقد مقعده في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل لو صوت ضدّه، فباع حزبَه وضميره، وصوّت مع قاضٍ كاذب ومتّهم بالتحرّش ومحاولة الاغتصاب.
هذه النسبة هي الأكثر ضآلة في تاريخ المحكمة العليا على الإطلاق، فحتّى مرشّح ترامب السابق نيل غورسيك فاز بـ 54 صوتا مقابل 54، والأخير على الرغم من اختلاف الليبراليين معه يبقى قاضيا نزيها، وعلى عكس كافانا، لا يسمح لقناعاته الأيديولوجية بالتأثير على
بالنسبة للرئيس ترامب، كانت المعركة كلها لتحقيق انتصار آخر، من النوع الذي يحبّه: الانتصار الذي يثير شقاقا وصخبا، فكلّما ازداد غضب الليبراليين، تراكم تأييد قاعدته السياسية وحبها له. وهو لم يخفِ ولو لثانية واحدة تأييده مرشّحه، ولم يفتر أبدا عن مهاجمة النساء اللواتي اتهمنه بالاعتداء عليهن. وقد أثار إحساس مؤيديه بالظلم، عندما زعم أن كافانا كان ضحية النسويات الشريرات والليبراليين، ولم يخجل من أن يقلّد، بشكل بائس، إحدى ضحايا كافانا من على منبر الخطابة أمام آلاف المتحمسين له من القوميين والعنصريين البيض والنازيين الجدد.
لقد بلغ الانقسام المجتمعي في أميركا حدّا غير مسبوق منذ الحرب الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر، والفضل في ذلك يعود إلى رئيس مهزوز، محدود الأفق، متعصب عنصريا ودينيا ومعاد للمرأة، لكنه تمكّن، مع ذلك، من فرض إرادته على كلّ أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، باستثناء سيّدة شجاعة من ألاسكا، هي السيناتور ليزا موركوسكي، فلا الاتهامات الموثوقة بالاعتداءات الجنسية، ولا الكذب تحت القسم، ولا الهجمات المتحزّبة الصريحة على أعضاء مجلس الشيوخ الذين يحاولون تقييم صلاحيته للخدمة، ولا الوقاحة المتناهية: لم يكن أي منها كافياً لمنح القادة الجمهوريين أكثر من مجرّد وقفة مؤقتة في حملتهم للاستيلاء على السيطرة الحاسمة على المحكمة العليا.
يتشارك مع ترامب زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، الذي أرسى صراحة معركة السيطرة الحزبية على المحكمة، حين رفض السماح للرئيس السابق، باراك أوباما، بملء المقعد الذي شغر بوفاة القاضي سكاليا في عام 2017 مدة عام تقريبا، رافضا التصويت لمرشّح أوباما القاضي المعتدل، ميريك غيرلاند، الذي كان يحظى بتقدير كبير من الحزبين، وكان رفضه سيحرج في النهاية الجمهوريين في مجلس الشيوخ، لكن ماكونيل أصر على الاحتفاظ بالمقعد مفتوحا لجذب الناخبين الإنجيليين المتعصبين للمشاركة في التصويت لصالح ترامب. وكانت تلك مناورة ذكية، على الرغم من أنها كانت تخاطر بمصداقية النظام القانوني الأميركي، وقد تمّ دفع الرهان الآن، وتحقّقت المخاطر.
يسيطر قضاة محافظون منذ نصف قرن تقريبا على المحكمة العليا، لكنها مع ذلك استمرّت
سيكون هنالك في المحكمة العليا الآن خمسة قضاة، تمّت تسميتهم من رؤساء جمهوريين. ولكن، يا للمفارقة، أربعة من هؤلاء الخمسة رشّحهم رئيسان انتخبا على الرغم من أنهما خسرا التصويت الشعبي (جورج بوش ودونالد ترامب)، وتمّت تسمية أولئك القضاة بنسبة أصواتٍ ضئيلة، لا تعكس ثقة الأميركيين بنزاهة المحكمة العليا.
ويعارض معظم الأميركيين اليوم رأي الأغلبية في مجلس الشيوخ. إنهم لا يدعمون الرئيس ترامب، ولا يوافقون على الحزبية التي لا هوادة فيها، ولا يتجاهلون نزاهة المؤسسات الديمقراطية. وقد احتلّ هؤلاء الأميركيون ممرّات الكونغرس الأميركي وردهاته، ليُسمعوا صوتهم لنوابهم الذين رفضوا الاستماع لهم أو لصوت العقل، بيد أن لدى هؤلاء الأميركيين، لحسن الحظ، القدرة على محاسبة حكومتهم. وأغلب الظنّ أنهم سيفعلون ذلك في الانتخابات النصفية المقبلة يوم 6 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
دلالات
وائل السواح
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.
وائل السواح
مقالات أخرى
04 ديسمبر 2022
06 نوفمبر 2022
23 أكتوبر 2022