في سبتمبر/أيلول سنة 1960، كتب الباحث العلمي، الناقد الأدبي اليساري، عبد العظيم أنيس، لزوجته عايدة ثابت، من معتقل الواحات، عن التعذيب الذي تعرّض له في سجنه. ثم عاد ونشر ما تعرّض له في كتاب أسماه "رسائل في الحب والحزن والثورة"، صادر عن دار روز اليوسف، عام 1976. وفي رسالته إلى زوجته، كتب أنيس: "لعلك أدركت من خلال زيارتك لي في الأشهر الأخيرة مبلغ السوء الذي وصلت إليه حالتي الصحية، غير أني اليوم أسترد صحتي بالتدريج فلا تقلقي. ولكن ما يقضّ مضجعي حتى اليوم أن شُهدي عطية، بمصرعه الفاجع في (سجن) الأوردي تحت سياط التعذيب، هو وحده الذي فدانا جميعاً. ولولا مصرعه وما أثار من ضجة خارجية لاستمر التعذيب حتى اليوم، ولاستطاب كثير من المسؤولين هذه الحال. ومن قبل قتلوا الدكتور فريد حداد ببساطة وكأنهم يؤدون عملاً عادياً، وهؤلاء القتلة معروفون ويعيشون بينكم لا يعذب أحداً منهم ضمير ولا تمتد إليه يد قانون".
ازداد التعذيب في مختلف مقار الاحتجاز في عهد السيسي
وبين سطور الحكاية وما بها من تفاصيل مؤلمة، لخص أنيس كيف يجري التعذيب والتنكيل في السجن، وكأنه يصف ما يحدث اليوم: "إلى جانب هذا القتل والتعذيب ساءت أحوال المعتقلين الصحية وبسبب سوء التغذية، وكثيرون مرضوا وأوشكوا على الموت بسبب انتشار الأمراض ولم يتحرك أحد رغم كل هذا، لقد عشنا في حالة مجاعة كاملة لمدة ثمانية أشهر. لا يعطونا إلا ما يكفي للإبقاء علينا على قيد الحياة فحسب. أما مهانات العمل في جبل أبو زعبل فهي عديدة. صفوة من مثقفي مصر مثل الدكتور لويس عوض والدكتور عبد الرازق حسن، والكاتب المسرحي ألفريد فرج، والرسام حسن فؤاد والناقد محمود أمين العالم، والدكتور فؤاد مرسي والدكتور فوزي منصور والدكتور إسماعيل صبري عبد ﷲ، وغيرهم كثيرون يساقون كل يوم إلى الجبل حفاة شبه عراة في أقسى أيام الشتاء لكسر حجارة أبو زعبل، بالإضافة إلى عشرات من القادة النقابيين وقيادات الطلاب".
هذه القصة التي تؤرّخ للتعذيب في مصر في حقبة زمنية شهدت تنكيلاً ممنهجاً بقيادات الحركة الشيوعية في مصر، لا تختلف كثيراً عما يحدث في السجون ومقار الاحتجاز المصرية اليوم، منذ تولي النظام الحاكم في صيف 2013. بل وازداد التعذيب في مقار الاحتجاز المختلفة مجدداً في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، إذ وثّق مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب (منظمة مجتمع مدني مصرية)، خلال العام الأول من تولي السيسي مقاليد الحكم، جملة انتهاكات من الشرطة ضد المواطنين، بلغت 289 حالة تعذيب، و272 حالة وفاة، و119 حالة إخفاء قسري، و97 حالة إهمال طبي، و63 حالة إصابة نتيجة إطلاق نار في الشارع، و52 حالة تكدير جماعي، و27 حالة تعذيب جماعي، و27 حالة ضرب، و16 حالة اعتداء جنسي، و15 حالة اعتقال رهائن، و10 حالات إهمال طبي لإصابات نتجت عن التعذيب، و8 حالات تحرش جنسي، و7 حالات تنفيذ حكم إعدام، و3 حالات احتجاز للأهالي أثناء زيارة السجون، وحالتي اعتقال ثم وفاة وادعاء مطاردة الأمن. وكأن النظام المصري يحمل على عاتقه مهمة "ترسيخ الاستبداد"، وتحويل السجون وأقسام الشرطة إلى "سلخانات تعذيب"، لكل معارض. ووثقت مؤسسة "كوميتي فور جستس" 11290 انتهاكاً في 94 مقراً للاحتجاز، خلال عام 2019 وحده.
ويضم تاريخ التعذيب في مصر، على مدار السنوات العشر الأخيرة، العديد من الأسماء التي تحولت إلى أيقونات لاحقاً، ولعل أبرزهم خالد سعيد الذي تحولت وفاته إلى شرارة مهدت لاندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وآخر هؤلاء الضحايا، إسلام الملقب بـ"الأسترالي" الذي لقي مصرعه في قسم شرطة المنيب في محافظة الجيزة، في 7 سبتمبر/أيلول الحالي، بعد يومين من القبض عليه، واتهم أهله أمناء وضباط شرطة القسم، بضربه وتعذيبه حتى الموت. أما باقي سجل التعذيب على مدار السنوات العشر الماضية فيضم:
خالد سعيد الذي قُتل على يد اثنين من أمناء الشرطة، في 6 يونيو/حزيران 2010، وكان مقتله بمثابة الشرارة الأولى للثورة، التي انطلقت يوم عيد الشرطة المصرية في 25 يناير 2011. وادعت الشرطة حينها أنه هرب من المخبرين وابتلع لفافة مخدر "بانغو" ومات نتيجة الخنق، بينما أثبت تقرير الطب الشرعي الذي طلبته النيابة العامة بعد الوفاة مباشرة وجود كسر في الفك ونزول في عظام الوجه "تحطيم للجمجمة"، إضافة إلى رضوض وكدمات في الوجه وإصابات متعددة في الوجه وبعض أجزاء الجسم، وسقوط الأسنان نتيجة تلقي ضربات شديدة. وفي مارس/آذار 2015، حكمت محكمة النقض المصرية نهائياً بتأييد حبس أميني الشرطة محمود صلاح وعوض إسماعيل 10 سنوات.
بدوره، لقي المصري سيد بلال مصرعه بعدما اعتقلته قوات من جهاز الأمن الوطني، وعدد آخر من السلفيين للتحقيق معهم في تفجير كنيسة القديسين في 1 يناير 2011، وقاموا بتعذيبه حتى الموت. وكانت الشرطة المصرية قد اقتادت سيد بلال من مسكنه فجر الأربعاء 5 يناير، وأخضعته للتعذيب ثم أعادته إلى أهله جثة هامدة بعدها بيوم واحد. واندلعت الثورة بعد 19 يوماً من مقتله، لتطيح الرئيس المخلوع حسني مبارك، ووزير داخليته حبيب العادلي.
وثّق مركز النديم 289 حالة تعذيب و272 حالة وفاة
وفي فبراير/شباط 2016، قضت محكمة جنايات الإسكندرية ببراءة ضابط أمن الدولة المتهم بقتل سيد بلال، وأسدل الستار على الواقعة بالكامل.
ولقي عصام عطا، مصرعه بعد تعذيبه من قِبَل إدارة سجن طرة في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2011 بينما كان يقضي هناك عقوبة الحبس لمدة سنتين، لتورطه في مشاجرة يوم 25 فبراير/شباط 2011 في منطقة المقطم. ونفت وزارة الداخلية المصرية وفاته بسبب التعذيب، وقالت إنه تعرض لوعكة صحية، فيما أكدت مصادر حقوقية بالإضافة إلى والد عصام، أنه قد عذب من قِبَل ضباط بالسجن بإدخال خراطيم مياه في فتحات جسده حتى الموت.
في فبراير/شباط 2015، قُتل المحامي كريم حمدي في قسم شرطة المطرية بعد 48 ساعة من القبض عليه، حيث تم التعدي عليه بالضرب والصعق بالكهرباء وضربه بشكل انتقامي مستمر حتى فارق الحياة، على خلفية اتهامه بـ"الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين والتحريض على العنف، والتعدي على قوات الأمن في المسيرات، باستخدام أسلحة نارية". صرحت عائلة حمدي، بأنها قد وجدت آثار تعذيب وكدمات واضحة على جثمانه أثناء تغسيله وتكفينه. وفي 13 مايو/أيار 2018، تمت تبرئة الضباط المسؤولين عن مقتل حمدي من قبل محكمة جنايات القاهرة، التي عُقدت بأكاديمية الشرطة، برئاسة المستشار سيد عبد العزيز التوني، وعمر محمود عمر ومحمد الأنور محمدين.
ولقي المواطن عفيفي حسني، حتفه على يد قوات الشرطة المصرية، بعد جرعات من التعذيب، استمرت منذ اقتياده من الصيدلية التي يعمل بها في الإسماعيلية إلى قسم الشرطة، انتهت به جثة هامدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2015. في التوقيت نفسه تقريباً، كان التعذيب الجماعي يمارَس على السائق طلعت شبيب، منذ اقتياده من مقهى بالأقصر حتى خروجه من قسم الشرطة جثة هامدة. تلا الواقعتين المتزامنتين اعتذارٌ مبطن من وزارة الداخلية بعد ضغط من الرأي العام، ومسلسل طويل من التحقيقات. وفي ديسمبر/كانون الأول 2015، صدر قرار بإخلاء سبيل الضابط المتهم بتعذيب حسني، بضمان وظيفته، بعدما أسندت له النيابة أربع تهم، من بينها ضرب أفضى إلى موت، وقررت حبسه على ذمة التحقيقات. أما بخصوص الضابط قاتل شبيب، فقد قضت المحكمة بسجنه المشدد 7 سنوات، و3 سنوات لـ5 أمناء شرطة وإلزام وزير الداخلية بمليون ونصف المليون جنيه كتعويض مدني مؤقت بصفته مسؤولاً عن أعمال تابعيه.
وطاول التعذيب الإيطالي جوليو ريجيني، الذي قُتل في مصر بعد اختطافه في 25 يناير/ كانون الثاني 2016 في الذكرى الخامسة للثورة، وعثر على جثته مشوّهة في 3 فبراير/ شباط من العام نفسه، في منطقة صحراوية في مدينة 6 أكتوبر في القاهرة الكبرى. وأظهر التشريح الإيطالي للجثة في أعقاب نقلها إلى روما أنه قتل إثر تعرضه لضربة قوية في أسفل جمجمته وإصابته بكسور عدة في كل أنحاء جسده. وأثرت قضية ريجيني بشكل كبير على العلاقات بين البلدين.