06 نوفمبر 2024
تركيا... الانقلاب وديمقراطية الإخوان
تحوّل حدث الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا من شأن تركي داخلي إلى ساحةٍ لجدل عربي/ عربي، يمكن وصف معظمه بالمبتذل؛ فقراءة غالبية المثقفين العرب، على اختلاف أيديولوجياتهم، الانقلاب الفاشل في تركيا، اتّسمت بالتنظير الحماسي، الذي لا ينظر إلى الأبعاد الداخلية للانقلاب، وقياس أثره وارتداداته على أزمات المنطقة العربية، ولا حتى باعتباره هزّةً ناجمةً عن أزمةٍ داخلية، أو ارتداداً للسياسة التركية في بلدان المنازعات، وتمحورت مجمل الكتابات والتحليلات حول أغراض الردح والنكاية، ومنح صفة الديمقراطية للقوى السياسية أو حجبها عنها، بحسب اتفاقها واختلافها مع وجهة النظر والموقف السياسي من الانقلاب في تركيا.
لا يعبّر النقاش اللاعقلاني للانقلاب الفاشل في تركيا عن وعي عربي ناضج بقيم الديمقراطية والانحياز الكلي لها، ولا عن مقتٍ تاريخيٍّ لتجارب الانقلابات العسكرية التي طالما اكتوت بها الشعوب العربية، في مراحل تاريخية عدة، وآخرها انقلاب الجيش المصري، بقيادة عبد الفتاح السيسي، وانقلاب مليشيات الحوثي في اليمن، كما أنه لم يأتِ نتيجة الخوف من تقويض الانقلاب العسكري للسلم الأهلي في تركيا وتداعيات ذلك على المنطقة، بما في ذلك تصاعد الشوفينية القومية التركية، والعداء للعرب والمسلمين، وتحول تركيا إلى ساحة صراع جديدة، قد تؤدي، بسبب حدودها المفتوحة مع سورية والعراق، إلى إغراق المنطقة بدورة عنف شاملة.
في مقاربتها دلالات الانقلاب العسكري في تركيا، انطلقت أغلب التحليلات العربية من رؤيةٍ ذاتيةٍ قاصرة، فقد ركّزت أطروحاتٌ كثيرة على الآثار الكارثية، في حال نجح الانقلاب على الدول العربية التي تعيش حروباً وأزماتٍ سياسية حادّة، خصوصاً الأزمة السورية، ووضع اللاجئين السوريين في الداخل التركي، وهو أمر يمكن تفهمه، باعتبار تركيا الموطن الأول للاجئين السوريين. لكن، لا يمكن تفهم اختزال الحدث التركي بموضوع هؤلاء، ولا الحماسة التي حملت بعضهم على اعتبار نظام أردوغان نقطة التوازن الرئيسية في الشرق الأوسط و"حامي الثورة السورية".
لا ينطلق موقف نظام أردوغان من الأزمة السورية ودعمه المعارضة من نبل سياسي، ولا من سوء النية، اللذين يتبناهما بعضهم، ويروّجهما حقائق سياسية، بل من دوافع مصالح تركيا وأمنها القوميين. ومن جهة أخرى، لم يؤدِ تبني نظام أردوغان الثورة السورية إلى انتصار الثورة، ولا إلى حل الأزمة السورية وإنهاء معاناة السوريين، بل أصبح جزءاً من المشكلة
السورية؛ حتى في ما يخصّ إقامة اللاجئين السوريين في تركيا، فذلك لا يعني قبول النظام بهذا العبء البشري كهم إنساني، فقد استطاع نظام أردوغان الاستفادة، سياسياً واقتصادياً، من قضية اللاجئين السوريين، ومارس، في مراحل كثيرة، ابتزازاً سياسياً على دول الاتحاد الأوروبي باستضافته اللاجئين، ومنع تدفقهم إلى بلدان أوروبا، وحصل في مقابل ذلك على مساعداتٍ دعمت الاقتصاد التركي. لا يعني ذلك التقليل من الدور التركي في الأزمة السورية، ولا نكران الخدمات الإنسانية التي يقدمها للاجئين، لكنها حقائق سياسية، على المثقفين السوريين ورموز المعارضة النظر إليها بمنأى عن افتراض النبل أو سوء النية، فهي تساعدهم على التفكير في البدائل التي يمكن اللجوء إليها، في حال تغير النظام مستقبلاً.
في سياق القراءات المتعسّفة للانقلاب العسكري في تركيا، عبّرت مواقف "الإخوان المسلمين" في البلدان العربية عن تحيّزات سياسية ذاتية، لا تنطلق من موقفٍ أصيل في دعم الديمقراطية، فالتنظيمات الإخوانية، على مستوى قياداتها ونخبها، دانت الانقلاب العسكري في تركيا، ليس إيماناً منها بقيم الديمقراطية، وهي التي اعتبرت، في عقودٍ سابقة، الديمقراطية كفراً، بل خوفاً من سقوط معقلٍ أخير من معاقل "الإخوان" في المنطقة؛ فبعد نكبة ميدان رابعة في القاهرة، وخصومة معظم أنظمة البلدان العربية "الاخوان المسلمين" وإغلاق حدود بلدانهم أمامهم، أصبحت تركيا الملاذ الوحيد الآمن، وتحول أردوغان من رئيس تركي إلى حامي حمى الإسلام السياسي.
لم تكن "نكبة رابعة" في مصر ومطاردة نظام عبد الفتاح السيسي "الإخوان المسلمين" تجربة مريرة خاصة بإخوان مصر فقط، لكنهم أكثر من عانى منها، حيث عمدت السلطات المصرية إلى ملاحقة كل أفراد التنظيم العرب، بالتعاون مع الأجهزة الاستخباراتية العربية. في مرحلة ما بعد "رابعة"، ضيقت الأنظمة العربية الخناق على "الإخوان"، مصادرة منابع قوتهم الاقتصادية، خصوصاً في مصر التي كانت مركز الثقل الاقتصادي لـ"الإخوان" في المنطقة. لم يجد "الإخوان المسلمين" العرب بلداً عربياً أو إسلامياً يفتح حدوده لها، لاحتضانهم قوة سياسية واقتصادية. لذا، اتخذ معظمهم تركيا منصة إعلامية وسياسية واقتصادية، في مرحلة ما بعد "رابعة"، وبقدر ما استفاد النظام التركي من النشاط الاقتصادي للإخوان، فإنهم استفادوا من هذا الاحتضان غير المشروط.
تصدّر "الإخوان المسلمين" إدانة الانقلاب في تركيا، دفاعاً عن مصالحهم، والمؤسف أن هذه القيادات لم تستفد من كل النكبات السياسية التي عانى منها "الإخوان"، بحيث تقوم بمراجعة أخطائها، فتحول فشل الانقلاب العسكري في تركيا إلى موجة عداءٍ إخوانية للسخط على الآخر، والأنكى تحميلها حزب العدالة والتنمية، أو ما اصطلح على تسميتها الأردوغانية، تشوهات تنظيم الإخوان المسلمين في البلدان العربية، وجعله رأس حربةٍ في صراعات "الإخوان" مع القوى السياسية الأخرى، وخصوصاً اليسارية والقومية.
يختبئ تنظيم الإخوان المسلمين خلف إنجازات حزب العدالة والتنمية، وكاريزما شخص
أردوغان، جاهدين لحساب التجربة الإسلامية في تركيا التي يمثلها حزب أردوغان وشخصه، جزءاً من التجربة السياسية لتنظيم الإخوان المسلمين في البلدان العربية، لكن الواقع غير ذلك؛ ففي حين قطع حزب العدالة والتنمية شوطاً كبيراً في تحديث بنيته السياسية والاجتماعية، خصوصاً في ما يتعلق بالحقوق والحريات، لا تزال تجربة تنظيم الإخوان المسلمين والأحزاب المنتمية له تقف عند نزق الخطاب الإخواني السبعيني، في مرحلة ما بعد أنور السادات، ولم يتغير موقفهم، في ما يتعلق بالحقوق والحريات، إلا بمقدار تلونهم مع السلطة السياسية التي يعيشون في كنفها.
المفارقة في العلاقة بين "الإخوان المسلمين" وشخص أردوغان تكمن في تبني "الإخوان" القسري للتجربة، واستخدامها لسد عجزهم الاجتماعي والسياسي عن التطوّر، فبدلاً من استلهام تجربة "العدالة والتنمية" وشروع تنظيم "الإخوان" والأحزاب المنتمية له بتحديث نفسه، نقل التنظيم أمراضه وعكسها على تلك التجربة، إلى حدّ جعل أردوغان زعيماً مقدّساً، وتجلى ذلك في رسالةٍ منسوبة للشيخ يوسف القرضاوي، عكست الأزمة السياسية العميقة لـ"الإخوان"، ومحاولتهم البائسة مصاردة التجربة الأردوغانية، وتجاهل كونها نتاج للبيئة المحلية التركية لأزمات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، الأزمات التي تفاقمت إلى حالةٍ من عداء للأخوان لدى أنظمةٍ ومجتمعات عربية كثيرة.
لا يحفل "الإخوان المسلمون" بالإجراءات التي تقوّض الديمقراطية، إذا كانت هذه الإجرءات تطاول خصومهم السياسيين، وما يؤكد ذلك ازدواجية المعايير التي يتبناها "الإخوان"؛ ففي مقابل استحسانهم الإجراءات التطهيرية التي قام بها أردوغان، وتعدّت المساس بالانقلابيين إلى تضييق الخناق على عموم الأتراك، فيما يشبه حملة مطاردة الساحرات، يدين "الإخوان المسلمون" مثل هذه التعسفات التي يتعرض لها المصريون، وكذلك "الإخوان" من نظام السيسي في مصر.
الحشود العربية التي خرجت مندّدةً بالانقلاب العسكري في تركيا، حاملةً صور أردوغان، لا تعبّر بالضرورة عن تعطّشها للديمقراطية ودفاعها عنها، خصوصاً أن بعضها خرج في بلدان غير ديمقراطية، وبعضها الآخر يعيش وضعاً مأساوياً من جرّاء الحرب وسيطرة المليشيا، كما في اليمن، بل تفصح تلك التظاهرات عن حاجة هذه الحشود إلى زعيم ومثالٍ ينسيها بؤسها، زعيم يحرّك فيها قيماً وطنية انقلب عليها معظم النخب السياسية، بما فيها نخب الإسلام السياسي.
لا يعبّر النقاش اللاعقلاني للانقلاب الفاشل في تركيا عن وعي عربي ناضج بقيم الديمقراطية والانحياز الكلي لها، ولا عن مقتٍ تاريخيٍّ لتجارب الانقلابات العسكرية التي طالما اكتوت بها الشعوب العربية، في مراحل تاريخية عدة، وآخرها انقلاب الجيش المصري، بقيادة عبد الفتاح السيسي، وانقلاب مليشيات الحوثي في اليمن، كما أنه لم يأتِ نتيجة الخوف من تقويض الانقلاب العسكري للسلم الأهلي في تركيا وتداعيات ذلك على المنطقة، بما في ذلك تصاعد الشوفينية القومية التركية، والعداء للعرب والمسلمين، وتحول تركيا إلى ساحة صراع جديدة، قد تؤدي، بسبب حدودها المفتوحة مع سورية والعراق، إلى إغراق المنطقة بدورة عنف شاملة.
في مقاربتها دلالات الانقلاب العسكري في تركيا، انطلقت أغلب التحليلات العربية من رؤيةٍ ذاتيةٍ قاصرة، فقد ركّزت أطروحاتٌ كثيرة على الآثار الكارثية، في حال نجح الانقلاب على الدول العربية التي تعيش حروباً وأزماتٍ سياسية حادّة، خصوصاً الأزمة السورية، ووضع اللاجئين السوريين في الداخل التركي، وهو أمر يمكن تفهمه، باعتبار تركيا الموطن الأول للاجئين السوريين. لكن، لا يمكن تفهم اختزال الحدث التركي بموضوع هؤلاء، ولا الحماسة التي حملت بعضهم على اعتبار نظام أردوغان نقطة التوازن الرئيسية في الشرق الأوسط و"حامي الثورة السورية".
لا ينطلق موقف نظام أردوغان من الأزمة السورية ودعمه المعارضة من نبل سياسي، ولا من سوء النية، اللذين يتبناهما بعضهم، ويروّجهما حقائق سياسية، بل من دوافع مصالح تركيا وأمنها القوميين. ومن جهة أخرى، لم يؤدِ تبني نظام أردوغان الثورة السورية إلى انتصار الثورة، ولا إلى حل الأزمة السورية وإنهاء معاناة السوريين، بل أصبح جزءاً من المشكلة
في سياق القراءات المتعسّفة للانقلاب العسكري في تركيا، عبّرت مواقف "الإخوان المسلمين" في البلدان العربية عن تحيّزات سياسية ذاتية، لا تنطلق من موقفٍ أصيل في دعم الديمقراطية، فالتنظيمات الإخوانية، على مستوى قياداتها ونخبها، دانت الانقلاب العسكري في تركيا، ليس إيماناً منها بقيم الديمقراطية، وهي التي اعتبرت، في عقودٍ سابقة، الديمقراطية كفراً، بل خوفاً من سقوط معقلٍ أخير من معاقل "الإخوان" في المنطقة؛ فبعد نكبة ميدان رابعة في القاهرة، وخصومة معظم أنظمة البلدان العربية "الاخوان المسلمين" وإغلاق حدود بلدانهم أمامهم، أصبحت تركيا الملاذ الوحيد الآمن، وتحول أردوغان من رئيس تركي إلى حامي حمى الإسلام السياسي.
لم تكن "نكبة رابعة" في مصر ومطاردة نظام عبد الفتاح السيسي "الإخوان المسلمين" تجربة مريرة خاصة بإخوان مصر فقط، لكنهم أكثر من عانى منها، حيث عمدت السلطات المصرية إلى ملاحقة كل أفراد التنظيم العرب، بالتعاون مع الأجهزة الاستخباراتية العربية. في مرحلة ما بعد "رابعة"، ضيقت الأنظمة العربية الخناق على "الإخوان"، مصادرة منابع قوتهم الاقتصادية، خصوصاً في مصر التي كانت مركز الثقل الاقتصادي لـ"الإخوان" في المنطقة. لم يجد "الإخوان المسلمين" العرب بلداً عربياً أو إسلامياً يفتح حدوده لها، لاحتضانهم قوة سياسية واقتصادية. لذا، اتخذ معظمهم تركيا منصة إعلامية وسياسية واقتصادية، في مرحلة ما بعد "رابعة"، وبقدر ما استفاد النظام التركي من النشاط الاقتصادي للإخوان، فإنهم استفادوا من هذا الاحتضان غير المشروط.
تصدّر "الإخوان المسلمين" إدانة الانقلاب في تركيا، دفاعاً عن مصالحهم، والمؤسف أن هذه القيادات لم تستفد من كل النكبات السياسية التي عانى منها "الإخوان"، بحيث تقوم بمراجعة أخطائها، فتحول فشل الانقلاب العسكري في تركيا إلى موجة عداءٍ إخوانية للسخط على الآخر، والأنكى تحميلها حزب العدالة والتنمية، أو ما اصطلح على تسميتها الأردوغانية، تشوهات تنظيم الإخوان المسلمين في البلدان العربية، وجعله رأس حربةٍ في صراعات "الإخوان" مع القوى السياسية الأخرى، وخصوصاً اليسارية والقومية.
يختبئ تنظيم الإخوان المسلمين خلف إنجازات حزب العدالة والتنمية، وكاريزما شخص
المفارقة في العلاقة بين "الإخوان المسلمين" وشخص أردوغان تكمن في تبني "الإخوان" القسري للتجربة، واستخدامها لسد عجزهم الاجتماعي والسياسي عن التطوّر، فبدلاً من استلهام تجربة "العدالة والتنمية" وشروع تنظيم "الإخوان" والأحزاب المنتمية له بتحديث نفسه، نقل التنظيم أمراضه وعكسها على تلك التجربة، إلى حدّ جعل أردوغان زعيماً مقدّساً، وتجلى ذلك في رسالةٍ منسوبة للشيخ يوسف القرضاوي، عكست الأزمة السياسية العميقة لـ"الإخوان"، ومحاولتهم البائسة مصاردة التجربة الأردوغانية، وتجاهل كونها نتاج للبيئة المحلية التركية لأزمات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، الأزمات التي تفاقمت إلى حالةٍ من عداء للأخوان لدى أنظمةٍ ومجتمعات عربية كثيرة.
لا يحفل "الإخوان المسلمون" بالإجراءات التي تقوّض الديمقراطية، إذا كانت هذه الإجرءات تطاول خصومهم السياسيين، وما يؤكد ذلك ازدواجية المعايير التي يتبناها "الإخوان"؛ ففي مقابل استحسانهم الإجراءات التطهيرية التي قام بها أردوغان، وتعدّت المساس بالانقلابيين إلى تضييق الخناق على عموم الأتراك، فيما يشبه حملة مطاردة الساحرات، يدين "الإخوان المسلمون" مثل هذه التعسفات التي يتعرض لها المصريون، وكذلك "الإخوان" من نظام السيسي في مصر.
الحشود العربية التي خرجت مندّدةً بالانقلاب العسكري في تركيا، حاملةً صور أردوغان، لا تعبّر بالضرورة عن تعطّشها للديمقراطية ودفاعها عنها، خصوصاً أن بعضها خرج في بلدان غير ديمقراطية، وبعضها الآخر يعيش وضعاً مأساوياً من جرّاء الحرب وسيطرة المليشيا، كما في اليمن، بل تفصح تلك التظاهرات عن حاجة هذه الحشود إلى زعيم ومثالٍ ينسيها بؤسها، زعيم يحرّك فيها قيماً وطنية انقلب عليها معظم النخب السياسية، بما فيها نخب الإسلام السياسي.