08 نوفمبر 2024
تركيا و"إس 400" .. والغرب
ربما يُعدُّ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أكثر زعيمٍ تركي إدراكاً وتسليماً بحقيقة أن الأوروبيين لن يقبلوا عضوية بلاده في اتحادهم، لا الآن ولا في المستقبل. لذلك لم يحْتَجْ هذا الرئيس محاولةً انقلابيةً، كالتي استهدفت حكمه، في يوليو/ تموز سنة 2016، حتى يمعن في استقلال قرار بلاده وفي توجيهها شرقاً، بعد شكوك راودته بتورط الغرب في تلك المحاولة. وإذ لم يلتفت إلى تحذيرات الغرب له من عواقب إبرام بلاده صفقة توريد منظومة "إس 400" الدفاعية الروسية مع موسكو، فإن أردوغان بذلك لا يثبت عدم ثقة بلاده بهذا الغرب فحسب، بل ويؤكد على الخط الاستقلالي الذي يسعى إلى أن تسير فيه.
تسلَّمت تركيا قبل أيامٍ أولى تجهيزات منظومة الدفاع الروسية المتطورة "إس 400"، ليقطع وصولها إلى القواعد التركية العسكرية مع اللغط الذي أحاط بهذه الصفقة، ودام سنوات. إذ شهدت خلالها العلاقات بين تركيا والغرب توتراً وتجاذباتٍ ليست قليلة، بالتوازي مع ما شهدته علاقاتها مع روسيا من استقرار وتحسُّن مضطرد، وصل إلى مرحلة التنسيق التام على صُعد دولية كثيرة. وربما يخشى الغرب أن تكون هذه الصفقة فاتحةً وتأسيساً لتوجُّه تركيا المطلق والدائم باتجاه الدول الشرقية، المنافسة اقتصادياً وعسكرياً للغرب، لا سيما الصين وروسيا. كما يخشى أن تكون بدايةً لتضعضع تسليم الجميع بتفوق الأسلحة الأميركية والغربية، والانجذاب نحو الأسلحة الروسية، مع ما تشهده هذه من تطور بالغ في مجالي الدفاع والهجوم؛ عبر هذه المنظومة الدفاعية التي تعد الأكثر تطوراً في العالم، هذه الأيام، وعبر الجيل الجديد من طائرات سوخوي الحربية التي استغلت روسيا الحرب في سورية لتجريب إمكاناتها هناك. من هنا، سيدفع امتلاك تركيا هذه المنظومة الروسية، وهي العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) المعادي لروسيا، دولاً أخرى، لتحذو حذوها، والتفكير الجدي بشرائها، ما يعد قضماً روسيَّاً لجزءٍ وازن من حصة أميركا في سوق السلاح.
ولم يتوقف الغرب عند عدم احترامه رغبة تركيا، الدولة ذات السيادة، في شراء تلك المنظومة،
بل أقدم على ما هو متوقع منه في هذه الحالات، فبدأ بحملات العداء، وتوجيه التهديدات ضدها. وفي هذا الإطار، كان سحب بعض الدول الغربية الأنظمة الدفاعية التي طالبتها تركيا بنصبها للدفاع عن الأراضي التركية بداية الحرب في سورية بداية النظر بعدم الرضى الغربي عن سياسات أنقرة الاستقلالية. وتعاقبت الحوادث إلى أن جاء موضوع منع دخول وزراء أتراك أراضي بعض الدول الأوروبية، ومنهم وزير الخارجية التركي يومها، مولود جاويش أوغلو، حين منعت هولندا هبوط طائرته في أحد مطاراتها، في مارس/ آذار 2017، على الرغم من حصوله على إذن مسبق بذلك، وكانت سابقةً دبلوماسيةً في العلاقات الدولية.
وفي هذا السياق، وطوال العقود السابقة، وفَّر الغرب الأميركي والأوروبي لتركيا كل أسباب عدم الثقة به. ومن أهمها الأسباب التي تعتبرها تركيا مصيرية؛ رفض أوروبا قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من عضويتها الفاعلة في حلف شمال الأطلسي منذ 1952، والدور الذي لعبته خلال الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتي، في النصف الثاني من القرن الماضي، حين التزمت صفَّ الغرب في معاداة السوفييت الذين يجاورونها، على الرغم من تبعات هذا الموقف الاقتصادية والسياسية والعسكرية عليها. وتعاظمت تلك الأسباب حديثاً مع اتجاه الولايات المتحدة اللافت في دعمها الأكراد في سورية، من وحدات حماية الشعب، وهو الدعم الذي يمكن أن يصل إلى حد تعزيز قدراتهم الجيوسياسية لإقامة دولةٍ كرديةٍ على جزءٍ من الأراضي السورية. ويعدّ هذا بحد ذاته تهديداً يمكن أن يتعزّز مع إعطائه دفعةً معنويةً وماديةً لأكراد تركيا الذين يسعون، منذ عقود، إلى إقامة دولة كهذه على قسم من الأراضي التركية المجاورة لسورية والعراق.
قُيض لصفقة "إس 400" أن تكون تظهيراً للنظرة الحقيقية التي نظر خلالها الغرب إلى تركيا، عقودا، كما عزّزت حقيقة أن الغرب الذي ينظر إلى تركيا تابعاً اقتصادياً له، يريد
الاستمرار بهذه النظرة، وإلا لكان وافق على انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ففي وقت رفض فيه انضمام تركيا إلى صفوفه، وافق هذا الاتحاد على انضمام دولٍ من أوروبا الشرقية التي كانت ضمن المنظومة الاشتراكية التي ناصبها العداء عقودا، وهي دول ضعيفة اقتصادياً لا تقارن مكانتها الاقتصادية بمكانة تركيا. وفي هذا الإطار، يستمر الغرب بالنظر بعدم الرضى إلى خطوات تركيا الهادفة إلى تعزيز اقتصادها عبر بناء الممرات الاقتصادية والتجارية، من قبيل طريق الحرير الصيني وخطوط إمداد الطاقة الروسية والموانئ والمطارات التركية الحديثة، ومنها مطار اسطنبول الجديد الذي يعد أحد أكبر مطارات العالم، ويربط ثلاث قارّات، وحسب صحيفة ذا إيكونوميست، البريطانية، سنة 2017، إنه سيُفقد بعض المطارات الأوروبية جزءاً من أهميتها، ويهدد مطار هيثرو البريطاني ذاته.
إن بقي الغرب على موقفه المعادي لتركيا، ورفضت أميركا تسليمها طائرات إف 35، كما هدّدت خلال عملية التفاوض الروسي التركي لشراء للمنظومة، قد يؤدي ذلك إلى ما كان يخشاه الغرب ذاته، وهو الاستدارة التامة لتركيا نحو روسيا وشراء طائرات سوخوي، بدلاً من "إف 35". حينها لن تتوقف تركيا عن الاستمرار بعملية تزويد جيشها بالمعدات الروسية، رداً على الرفض الأميركي. وسيتعزّز هذا الأمر مع ازدياد التنسيق الروسي التركي في سورية والمنطقة، وهو ما يمكن أن يتوازى مع ازدياد التوتر بين الغرب وتركيا، وازدياد عوامل عدم ثقة تركيا بالغرب. والغرب لا يعرف أن تركيا بحاجة روسيا من ناحية التنسيق الأمني في سورية وغيرها من دول المنطقة، وروسيا بحاجة تركيا في سورية أيضاً. ويمكن أن ينسحب التنسيق الدائم في هذا المجال، يمكن أن ينسحب إلى المجالين، السياسي والاقتصادي، ويتعزّز، حينها سيكون الغرب الخاسر الوحيد من تعاظم قوة هذين القطبين.
ولم يتوقف الغرب عند عدم احترامه رغبة تركيا، الدولة ذات السيادة، في شراء تلك المنظومة،
وفي هذا السياق، وطوال العقود السابقة، وفَّر الغرب الأميركي والأوروبي لتركيا كل أسباب عدم الثقة به. ومن أهمها الأسباب التي تعتبرها تركيا مصيرية؛ رفض أوروبا قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من عضويتها الفاعلة في حلف شمال الأطلسي منذ 1952، والدور الذي لعبته خلال الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتي، في النصف الثاني من القرن الماضي، حين التزمت صفَّ الغرب في معاداة السوفييت الذين يجاورونها، على الرغم من تبعات هذا الموقف الاقتصادية والسياسية والعسكرية عليها. وتعاظمت تلك الأسباب حديثاً مع اتجاه الولايات المتحدة اللافت في دعمها الأكراد في سورية، من وحدات حماية الشعب، وهو الدعم الذي يمكن أن يصل إلى حد تعزيز قدراتهم الجيوسياسية لإقامة دولةٍ كرديةٍ على جزءٍ من الأراضي السورية. ويعدّ هذا بحد ذاته تهديداً يمكن أن يتعزّز مع إعطائه دفعةً معنويةً وماديةً لأكراد تركيا الذين يسعون، منذ عقود، إلى إقامة دولة كهذه على قسم من الأراضي التركية المجاورة لسورية والعراق.
قُيض لصفقة "إس 400" أن تكون تظهيراً للنظرة الحقيقية التي نظر خلالها الغرب إلى تركيا، عقودا، كما عزّزت حقيقة أن الغرب الذي ينظر إلى تركيا تابعاً اقتصادياً له، يريد
إن بقي الغرب على موقفه المعادي لتركيا، ورفضت أميركا تسليمها طائرات إف 35، كما هدّدت خلال عملية التفاوض الروسي التركي لشراء للمنظومة، قد يؤدي ذلك إلى ما كان يخشاه الغرب ذاته، وهو الاستدارة التامة لتركيا نحو روسيا وشراء طائرات سوخوي، بدلاً من "إف 35". حينها لن تتوقف تركيا عن الاستمرار بعملية تزويد جيشها بالمعدات الروسية، رداً على الرفض الأميركي. وسيتعزّز هذا الأمر مع ازدياد التنسيق الروسي التركي في سورية والمنطقة، وهو ما يمكن أن يتوازى مع ازدياد التوتر بين الغرب وتركيا، وازدياد عوامل عدم ثقة تركيا بالغرب. والغرب لا يعرف أن تركيا بحاجة روسيا من ناحية التنسيق الأمني في سورية وغيرها من دول المنطقة، وروسيا بحاجة تركيا في سورية أيضاً. ويمكن أن ينسحب التنسيق الدائم في هذا المجال، يمكن أن ينسحب إلى المجالين، السياسي والاقتصادي، ويتعزّز، حينها سيكون الغرب الخاسر الوحيد من تعاظم قوة هذين القطبين.