كسب الجمهوريون الجولة بمزيج من الدهاء وليّ الأذرع وتطويع الإجراءات والأصول المرعية لاجتياز محطات الموافقة. تفوّقوا في المناورة على الخصم الديمقراطي الذي لم يحسن توظيف ورقة الضحية كريستين فورد، التي اتهمت كافانو بمحاولة الاعتداء الجنسي عليها قبل 36 سنة، والتي حظيت إفادتها أمام لجنة الشؤون العدلية بصدقية لم يجادل بها حتى الجمهوريون.
وعندما تكشفت قصتها، جاءت الخطوة متأخرة وجرى تجويفها من خلال التركيز على ثغرة الأدلة التي بقيت ضبابية، أو التي تمّت إحاطتها بالضباب من خلال تقليص مساحة التحقيقات الأخيرة وعدم الاستماع إلى الشهود كافة. كذلك لم تفلح سائر التحذيرات من جانب جهات نافذة ومؤثرة في تغيير المعادلة لغير صالح كافانو. من بينها تلك التي صدرت عن المئات من أساتذة الحقوق الجامعيين، وانضم إليهم القاضي السابق في المحكمة العليا جون ستيفنس، المحسوب على الجمهوريين، والعديد من وسائل الإعلام، من بينها "واشنطن بوست"، فضلاً عن معارضة 48% من الرأي العام، حسب الاستطلاعات الأخيرة.
إلا أن الأولوية كانت للولاء الحزبي المتشنج، إذ لم يخرج عن صف حزبه في هذا التصويت سوى سيناتور واحد جمهوري وآخر ديمقراطي، بما أبقى التوازن على حاله لصالح الجمهوريين بصوتين كانا كافيين لضمان الفوز، وإن كان غير مسبوق بتواضعه إلا مرة واحدة قبل 137 سنة؛ عندما وافق مجلس الشيوخ في عام 1881 على تعيين قاضٍ بأغلبية صوت واحد فقط. وبذلك سيدخل كافانو إلى المحكمة العليا مدموغاً بخاتم الحزبية الضيقة ومحاطاً بالشكوك حول أدائه ومزاجه وصدقيته، فضلاً عن القصص الأخلاقية لتي تكشفت عن ماضيه والتي بقيت عالقة من غير حسم.
لكن تواضع الفوز لا يقلل من أهميته. فالرجل صار صاحب الصوت المرجح لكفة القرار في المحكمة المقسومة مناصفة، وبما يضع هذه المؤسسة، التي تمثل السلطة القضائية في النظام الأميركي، بيد المحافظين المتشددين. تماماً كما هي الحال في السلطتين التنفيذية والتشريعية.
وبذلك، اكتملت حلقة إمساك الرئيس دونالد ترامب واليمين بمفاصل القرار الداخلي والخارجي، ولو من غير توافق كامل بين الأجنحة، خاصة في مجال السياسة الخارجية التي تتجاذبها توجهات انعزالية وأخرى صدامية. التيار الأول طاغٍ في التعامل مع الملفات الدولية عموماً، اما التيار الثاني فيزايد حضوره وبروز دوره إزاء ملفات معينة، منها إيران، بقيادة المستشار جون بولتون، الذي يحظى بإصغاء الرئيس ترامب. كلاهما يتجه نحو التمادي في رفض الآخرين، بما يضمن ترحيل التأزيم الداخلي إلى الخارج؛ فهذا الأخير مقبل على مزيد من التصعيد والتسخين بعد الذي حصل في معركة كافانو، حسب سائر التقديرات.
المرحلة المقبلة باتت محكومة بارتفاع منسوب الاضطراب السياسي، سواء بقيت التوازنات على حالها بعد الانتخابات أم تغيرت لصالح الحزب الديمقراطي. التغيير في أحد أو كلا مجلسي الكونغرس، وهو الاحتمال المرجح، من المتوقع أن ترافقه أجواء انتقامية وتصفية حسابات. وبقاء الوضع على حاله، لا بد أن يطلق يد المحافظين لاستكمال بنود أجندتهم الداخلية والدولية.
لم تكن معركة كافانو حول الكفاءة القانونية ولا حول المآخذ والأهلية؛ بقدر ما كانت حلقة أخرى من التناتف السياسي الشرس بين الفريقين. وفي كل حال، ليست هذه الجولة سوى صورة مصغرة عن المواجهة الكبرى المقبلة مع نشر تقرير روبرت مولر بخصوص تحقيقات التدخل الروسي، والمحتمل صدوره في فترة ما بعد الانتخابات.