لا يزال الملف الليبي بكلّ تعقيداته حبيس المفاوضات والبحث عن تفاهمات في الكواليس، من دون أن تخرج أي مواقف رسمية، في الوقت الذي لا تزال فيه محاور القتال في محيط سرت، وسط البلاد، تشهد جموداً ميدانياً بسبب تحذيرات إقليمية ودولية من مغبة اقتراب قوات حكومة "الوفاق" من المدينة.
وأبرز تلك المداولات التي تبحث عن تفاهمات بين الأطراف المنخرطة في الأزمة الليبية، ما يجري بشأن إعادة استئناف ضح النفط المتوقف منذ ستة أشهر، وسط تكهنات بين آراء مراقبين ليبيين تتوجس من فتح باب الحديث عن التقسيم الفعلي للبلاد.
وبرز مسمّى "تقسيم موارد النفط بشكل عادل"، كأحد الحلول للأزمة الليبية، على لسان المبعوث الأممي السابق لدى ليبيا غسان سلامة، المعروف بقربه من السياسة الفرنسية، إبان انتهاء زيارة له إلى موسكو في يونيو/ حزيران 2019، قبل أن يتداوله مسؤولو العديد من الدول المعنية بليبيا، لكن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جاهر بهذا المطلب صراحة، خلال خطابه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما طالب بمعالجة خلل توزيع الثروة الليبية والسلطة كحلّ لأزمة البلاد.
وبشكل فجائي، أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط بطرابلس، الإثنين، وجود مفاوضات، على مدى الأسابيع القليلة الماضية، مع كل من "حكومة الوفاق" والأمم المتحدة والولايات المتحدة ودول إقليمية، لم تسمّها، لاستئناف إنتاج النفط.
وجاء الإعلان بعد بيان للسفارة الأميركية لدى ليبيا، السبت، أعلنت فيه دعمها للمؤسسة، مشددة على موقفها من وجود عناصر من مرتزقة "فاغنر" في حقل الشرارة النفطي، جنوب البلاد.
وعلى الرغم من تأكيد المؤسسة وجود مفاوضات بشأن إعادة إنتاج النفط بين أطراف ليبية عدة من بينها حكومة "الوفاق"، بل وإقليمية أيضاً، إلا أنّ أياً منها لم يعلن عن موقفه من تلك المفاوضات ونتائجها، لكن صحفاً ووسائل إعلام نشرت تسريبات من كواليس تلك المفاوضات. وقالت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، أمس الثلاثاء، إنّ المفاوضات لفتح النفط تجري على أساس تقسيم العوائد على ثلاثة بنوك للأقاليم الليبية الثلاثة. لكن مصادر خاصة كانت قد كشفت، لـ"العربي الجديد"، في وقت سابق، عن أنّ المفاوضات تجري حالياً بشأن تعيين شاغلين جدد في مراكز هامة بالمؤسسة الوطنية للنفط تمثل كلّ الأطراف الليبية.
وبشأن تسريبات صحيفة "ذا غارديان" أكدت تلك المصادر، وهي حكومية من طرابلس وبرلمانية من طبرق، أن مقترح البنوك الثلاثة كان مقترحاً فرنسياً من بين مقترحات عدة، لكنه لم يكن مقنعاً، وتطبيقه بعيد عن الواقع، في ظلّ عدم وجود أجسام حكومية في الأقاليم الليبية الثلاثة يمكنها أن تمتلك حسابات مصرفية خارج البلاد.
وشددت المصادر على أن المفاوضات التي جرت، منها جلستان في تونس، وتوقفت، لم تصل إلى تفاهم واضح، باستثناء تعيين شخصيات ممثلة للأقاليم الليبية داخل المؤسسة الوطنية للنفط كضمان بعدم استفادة أي طرف من عائدات النفط خلال المرحلة الحالية، وفق ما يؤكده الباحث السياسي الليبي بلقاسم كشادة، معتبراً أن مبدأ المحاصصة على أساس الأقاليم الليبية الثلاثة "غير واقعي"، كون تلك الأقاليم أصبحت ذات مدلول تاريخي، والحديث عنه يعني العودة لشكل البلاد الجغرافي القديم القائم على أساس الاستقلال الذاتي.
وتساءل كشادة، في حديث لـ"العربي الجديد"، اليوم الأربعاء، حول من يمثل إقليم فزان، قائلاً: "اسمياً، تقع فزان تحت سيطرة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ما يعني ذهاب حصة الإقليم من النفط لجيب حفتر الذي قفز إلى السطح مجدداً ليمثل برقة في المفاوضات الجارية وفق بيان صادر عن قادته"، كما لفت إلى أن إجراء فتح حسابات في ثلاثة بنوك "هو عملية معقدة تستوجب وجود أجسام سياسية أو إدارية على الأقل للأقاليم الثلاثة، يتوجب قبلها الحديث عن تحديد حدود كل إقليم".
وحذّر كشادة من مغبة أن يكون المقترح الفرنسي بشأن البنوك الثلاثة بداية للحديث عن تقسيم البلاد بإرجاعها إلى أقاليمها التاريخية الثلاثة، مضيفاً: "هذا إن لم نقل التفتيت أيضاً وليس التقسيم فقط، فاندلاع صراعات داخل كل إقليم بسبب تقاسم حصة كل إقليم وارد". وقال: "طرح الحلّ على هذا الأساس يعني أنه لن يعود هناك حديث عن الانتماء إلى بلد واحد، وإنما البحث عن انتماء للمنطقة والقبيلة على أساس محاصصات الثروة، ما يعني ضرب المشروع الوطني ووحدة البلاد".
أكدت السفارة الأميركية، السبت، أن تمكين المؤسسة الوطنية للنفط من استئناف عملياتها شرط أساسي للتوافق الليبي
ويعرب كشادة عن قلقه بشأن غموض تلك المفاوضات، مشيراً إلى أن بيان المؤسسة الوطنية للنفط يؤكد أنها طرف في المفاوضات، وليست ضمن ممثلي حكومة "الوفاق".
وعلاوة على الموقف "الغامض" للحكومة بطرابلس، يلفت كشادة إلى خطورة استغلال حالة الصراع الحالية لفرض أمر واقع على الليبيين، من دون الرجوع لاستفتائهم بشأن عودة بلادهم إلى شكل الأقاليم، وخطر تقسيم البلاد الذي قد يمرَّر من خلال هذا المشروع.
واعتبرت السفارة الأميركية، في بيان لها، يوم السبت، أن تمكين المؤسسة الوطنية للنفط من استئناف عملياتها شرط أساسي للتوافق الليبي.
ويثير بروز حفتر مجدداً في مشهد الأزمة، من خلال إعلان قيادته، ليل الإثنين، قبوله بتفويض شعبي لتمثيل حراك "المدن والقبائل الليبية" في مفاوضات توزيع عائدات النفط، مخاوف دول عدة، بحسب الناشط السياسي الليبي عقيلة الأطرش. ويوضح الأطرش، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنّ حلف حفتر يبدو أنه يعيش حالة إعادة بناء، فلا يمكن أن تقبل مصر برجوع حفتر وتوليه التفاوض باسم القبائل، مشيراً إلى أن حراك المدن والقبائل لا يعرف من يمثل، الشرق فقط أم حتى قبائل الجنوب.
ويلفت الأطرش إلى أن القاهرة لن تكون مطمئنة بشأن عائدات النفط التي تقع في يد حفتر، وأن إمكانية استنزافها في شراء الأسلحة وعودة القتال قريباً من مواقع النفط وإمكانية اتساعها وصولاً إلى حدودها، أمر مرجح، كما أن إمكانية دخول القبائل في فوضى مسلحة وصراعات بشأن الحصول على حصصها من النفط، أمر وارد.
ورجح أن دولة الإمارات هي التي تدفع بحفتر للعودة إلى الواجهة مجدداً، فيما تحاول فرنسا تسريع وصول البلاد إلى سيناريو التقسيم، بعد أن فقدت وجودها الفاعل في ليبيا بسبب رهانها الخاسر على حفتر. ويؤكد الأطرش أن محاولات الإمارات للزج بالجيش المصري للتدخل في ليبيا، من خلال حثّ رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، على طلب ذلك رسمياً من خلال البرلمان، "هي محاولات فاشلة".
ولفت الأطرش إلى أنّ السعودية والإمارات فشلتا في السابق في إقناع مصر بالانخراط في حلفها ضد اليمن. كما أن مصر، لو كانت تسعى للتدخل في ليبيا، لكان ذلك مواتياً وكانت ظروفها مهيأة إبان سيطرة حفتر على غالبية أجزاء البلاد.
من جانبه، يرى الباحث الليبي في العلاقات الدولية مصطفى البرق، أن القاهرة تعيش حالياً مواجهة كبيرة بشأن محاولة ضبط الأوضاع في شرق البلاد، خصوصاً أمام التغول الروسي المتزايد.
ونقلت عملية "بركان الغضب"، عبر صفحتها الرسمية على "فيسبوك"، اليوم الأربعاء، عن الموقع الإيطالي "إيتاميل رادار"، إشارته إلى أن روسيا نقلت 473 رحلة جوية بين طائرات شحن وركاب للقوات الجوية الروسية إلى شرق ليبيا، منذ 10 فبراير/ شباط الماضي. وأشارت العملية إلى أن المعدل اليومي لحركة الطيران بين مطار اللاذقية في سورية، وقاعدة الخادم الإماراتية، جنوب المرج شرق ليبيا، يصل إلى 8 رحلات طيران يومياً منذ العاشر من فبراير/ شباط الماضي.
ويرى البرق، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنّ انخراط واشنطن في الملف الليبي من بوابة النفط، وبروز موسكو العسكري، أفضيا إلى شكل جديد من الصراع بين الأقطاب الكبرى التي يجرّ كل واحد منها أطرافاً إقليمية ودولية لصفّه.
ويشير البرق إلى أن الحلف الأميركي - التركي - الإيطالي يزيد من التقارب والمتانة كل يوم، ضد مشروع تقوده روسيا تقترب فيه الإمارات وفرنسا منه، على الرغم من اختلاف المصالح، لكن لا يبدو أن هذا الحلف يخدم مصالح القاهرة، ولا سيما أمنها القومي الذي لن يكون في مأمن إذا خرج عن شكل رؤية يبدو أنها تتبناها بشأن "التقسيم العادل للثروة".
كما يشير البرق إلى محاولات إحداث فوضى في مفهوم تقسيم الثروة، من خلال تمييع المصطلح في الخطابات الإعلامية الحالية بمقاربته بالحديث عن توزيع دخل النفط وعائداته. كما أن الحديث عن تقسيم موارد النفط الذي اعتبرته القاهرة أساساً للحل لن يتأتّى قبل وجود استقرار سياسي ووثيقة دستورية تحفظ حصص النفط لكل ناحية أو إقليم، وربما يكون التوزيع على أساس المحافظات والبلديات أيضاً.