24 أكتوبر 2024
تونس.. المصالحة الوطنية الشاملة
طرح الرئيس التونسي، الباجي القايد السبسي، قبل أقل من عام، مشروعاً لقانون للمصالحة الاقتصادية، أثار لغطا في حينه، ورفضاً من قوى سياسية حزبية ومنظمات المجتمع المدني، اعتبرته محاولة لفرض عفو عن الفاسدين من دون محاسبتهم، خصوصاً وأن القانون تمت صياغته من دون مشاركة واسعة من الأحزاب أو استشارة لهيئة الحقيقة والكرامة ذات العلاقة بالموضوع، والتي أكدت في بيان لها (صادر بتاريخ 20/07/2015) أن هذا القانون "يضمن الإفلات من العقاب لمرتكبي أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام". وذكرت الهيئة "أنّ مشروع القانون يُفرغ منظومة العدالة الانتقالية من محتواها، ويؤدي إلى التخلي عن أهم آلياتها في كشف الحقيقة والمساءلة والتحكيم والمصالحة وإصلاح المؤسسات".
واليوم يعود الحديث عن القانون نفسه، ولكن ضمن إطار أوسع، ويتولى عرضه على الأوساط السياسية والمجتمعية طرف آخر غير رئيس الجمهورية، فمشروع المصالحة الوطنية الشاملة الذي يطرحه زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، إنما هو استعادة لقانون المصالحة الاقتصادية، مضافا إليه، هذه المرة، رد الاعتبار واسترداد الحقوق المدنية والسياسية والتعويض وجبر الضرر لمن شملهم مرسوم العفو التشريعي العام، بالإضافة إلى التأكيد على ضرورة التسريع في مسار العدالة الانتقالية. ويبدو أن هذا المقترح الذي أعلن عنه مجلس شورى حركة النهضة، أخيراً، كان تتويجاً للقاءاتٍ جمعت رئيس الحركة برئيس الجمهورية الذي هو، في الوقت نفسه، زعيم حزب نداء تونس، الشريك الأكبر في السلطة القائمة حالياً في البلاد.
ويثير المشروع الجديد جملة من التساؤلات بشأن طبيعة المصالحة المقترحة، باعتبارها تضم فئتين من المستفيدين منها، هما رجال أعمال متورطون في قضايا فساد وسياسيون وأمنيون متهمون بالضلوع في قضايا تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان زمن حكم بن علي. وإذا كانت الوقائع تكشف أن المصالحة، بصورتها الفعلية، هي بحكم المنجز، بالنظر الى الحلف القائم بين حركة النهضة (ينتمي إليها معظم المتضررين في قضايا انتهاك حقوق الإنسان) و"نداء تونس" الذي يضم غالبية رجال الأعمال ممن وردت أسماؤهم ضمن المستفيدين من المصالحة الاقتصادية، وهو ما يعني أن قانون المصالحة الشاملة متى صدر وأصبح في حيز التنفيذ إنما هو من قبيل إضفاء الشرعية المطلوبة على الخطوات السابقة التي أنجزها الحليفان، على المستوى السياسي، سواء بوصفهما شريكين في الحكم، أو باعتبارهما الأكثر استفادة من القانون الصادر.
ويظل الجمع بين العفو في قضايا حقوقية والمصالحة في قضايا الفساد أمراً مثيراً لحفيظة أطرافٍ مختلفةٍ، سياسية واجتماعية، بالنظر إلى أن الحق في التنازل عن المحاسبة ليس من صلاحيات الأحزاب أو السلطة، بقدر ما يتضمن جانباً شخصياً يتعلق بالذين تعرّضوا لمظالم طوال العهد السابق، فمن حقهم، من حيث المبدأ، اللجوء إلى القضاء من أجل المطالبة بمحاسبة مضطهديهم، كما أن المصالحة لا تعني التنازل عن كشف الحقيقة، فمن موجبات الصلح الاجتماعي السليم أن يتم كشف كل الحقائق، وأن يقدم المتورط في الانتهاكات اعتذاراً رسمياً، من دون أن يعني هذا تكريسا للإفلات من المحاسبة أو العقاب بأي صورة.
عرفت دول عديدة، في فترات انتقالها الديمقراطي، حالات من المصالحة المشابهة لما يجري
في تونس (سواء في جنوب إفريقيا ما بعد التمييز العنصري أو في دول أميركا اللاتينية أو حتى في المغرب الأقصى)، ولم يكن المقصود من مثل هذه المصالحات، وبغض النظر عن مُخرجاتها، مجرد العفو عن المتهمين، وإنما الغاية هي كشف الحقائق وإعادة الاعتبار للمتضررين، ووضع الأسس اللازمة لمنع تكرار ما جرى في الماضي الأليم. ومن هنا، يمكن فهم ردود أفعال بعض قوى المعارضة التي ترفض إصدار قانونٍ للمصالحة الشاملة، حيث أعلن التيار الديمقراطي رفضه المبادرة على لسان محمد عبو، فيما اعتبر منصف المرزوقي، عن حراك تونس الإرادة، أن هذا التمشي لا يخدم المسار الانتقالي للبلاد، وأنه تكريس لعودة ما أسماها "المنظومة القديمة" عبر تحالف "النهضة" و"نداء تونس".
وبعيداً عن مواقف قوى المعارضة بتوجهاتها المختلفة، فإن التقدم نحو طي ملفات الماضي، بصورةٍ عادلة، يشكل أولوية بالنسبة للحكومة الحالية، وضرورة قصوى للتقدم في المسارات الاقتصادية والسياسية، على المستوى الوطني. ولكن، من دون أن تتم التضحية بالمبادئ الأساسية التي قامت عليها الثورة التونسية، أعني كشف ملفات الفساد، وفضح كل الممارسات التي استهدفت الناشطين السياسيين زمن حكم بن علي، فليست هذه الأمور من قبيل الترف السياسي الذي يمكن الاستغناء عنه، وإنما هي من لوازم أي انتقال سياسي سليم، يضمن صلابة التحول الديمقراطي، بعيدا عن روح الانتقام أو الثأر والتشفي. ومن هنا، مجرد إصدار القانون لا يُغني عن الدور الذي تقوم به الهيئات الدستورية ذات العلاقة، ونعني بها هيئة الحقيقة والكرامة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، فمن أوكد واجبات أي سلطةٍ ديمقراطيةٍ فعليةٍ امتثالها للدستور، وتناغمها مع الهيئات المكلفة بأهداف محددة، حيث لا يمكن القفز عليها وإلغاء فاعليتها تحت أي مبرر، فالمصالحة الوطنية الشاملة مطلب عاجل وملح. ولكن، ضمن الشروط المجتمعية التي ينبغي أن يتوافق حولها أوسع طيفٍ ممكنٍ من القوى الحزبية والمدنية، من دون إقصاء أو حسابات خفية، يتم تمريرها تحت الطاولة.
واليوم يعود الحديث عن القانون نفسه، ولكن ضمن إطار أوسع، ويتولى عرضه على الأوساط السياسية والمجتمعية طرف آخر غير رئيس الجمهورية، فمشروع المصالحة الوطنية الشاملة الذي يطرحه زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، إنما هو استعادة لقانون المصالحة الاقتصادية، مضافا إليه، هذه المرة، رد الاعتبار واسترداد الحقوق المدنية والسياسية والتعويض وجبر الضرر لمن شملهم مرسوم العفو التشريعي العام، بالإضافة إلى التأكيد على ضرورة التسريع في مسار العدالة الانتقالية. ويبدو أن هذا المقترح الذي أعلن عنه مجلس شورى حركة النهضة، أخيراً، كان تتويجاً للقاءاتٍ جمعت رئيس الحركة برئيس الجمهورية الذي هو، في الوقت نفسه، زعيم حزب نداء تونس، الشريك الأكبر في السلطة القائمة حالياً في البلاد.
ويثير المشروع الجديد جملة من التساؤلات بشأن طبيعة المصالحة المقترحة، باعتبارها تضم فئتين من المستفيدين منها، هما رجال أعمال متورطون في قضايا فساد وسياسيون وأمنيون متهمون بالضلوع في قضايا تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان زمن حكم بن علي. وإذا كانت الوقائع تكشف أن المصالحة، بصورتها الفعلية، هي بحكم المنجز، بالنظر الى الحلف القائم بين حركة النهضة (ينتمي إليها معظم المتضررين في قضايا انتهاك حقوق الإنسان) و"نداء تونس" الذي يضم غالبية رجال الأعمال ممن وردت أسماؤهم ضمن المستفيدين من المصالحة الاقتصادية، وهو ما يعني أن قانون المصالحة الشاملة متى صدر وأصبح في حيز التنفيذ إنما هو من قبيل إضفاء الشرعية المطلوبة على الخطوات السابقة التي أنجزها الحليفان، على المستوى السياسي، سواء بوصفهما شريكين في الحكم، أو باعتبارهما الأكثر استفادة من القانون الصادر.
ويظل الجمع بين العفو في قضايا حقوقية والمصالحة في قضايا الفساد أمراً مثيراً لحفيظة أطرافٍ مختلفةٍ، سياسية واجتماعية، بالنظر إلى أن الحق في التنازل عن المحاسبة ليس من صلاحيات الأحزاب أو السلطة، بقدر ما يتضمن جانباً شخصياً يتعلق بالذين تعرّضوا لمظالم طوال العهد السابق، فمن حقهم، من حيث المبدأ، اللجوء إلى القضاء من أجل المطالبة بمحاسبة مضطهديهم، كما أن المصالحة لا تعني التنازل عن كشف الحقيقة، فمن موجبات الصلح الاجتماعي السليم أن يتم كشف كل الحقائق، وأن يقدم المتورط في الانتهاكات اعتذاراً رسمياً، من دون أن يعني هذا تكريسا للإفلات من المحاسبة أو العقاب بأي صورة.
عرفت دول عديدة، في فترات انتقالها الديمقراطي، حالات من المصالحة المشابهة لما يجري
وبعيداً عن مواقف قوى المعارضة بتوجهاتها المختلفة، فإن التقدم نحو طي ملفات الماضي، بصورةٍ عادلة، يشكل أولوية بالنسبة للحكومة الحالية، وضرورة قصوى للتقدم في المسارات الاقتصادية والسياسية، على المستوى الوطني. ولكن، من دون أن تتم التضحية بالمبادئ الأساسية التي قامت عليها الثورة التونسية، أعني كشف ملفات الفساد، وفضح كل الممارسات التي استهدفت الناشطين السياسيين زمن حكم بن علي، فليست هذه الأمور من قبيل الترف السياسي الذي يمكن الاستغناء عنه، وإنما هي من لوازم أي انتقال سياسي سليم، يضمن صلابة التحول الديمقراطي، بعيدا عن روح الانتقام أو الثأر والتشفي. ومن هنا، مجرد إصدار القانون لا يُغني عن الدور الذي تقوم به الهيئات الدستورية ذات العلاقة، ونعني بها هيئة الحقيقة والكرامة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، فمن أوكد واجبات أي سلطةٍ ديمقراطيةٍ فعليةٍ امتثالها للدستور، وتناغمها مع الهيئات المكلفة بأهداف محددة، حيث لا يمكن القفز عليها وإلغاء فاعليتها تحت أي مبرر، فالمصالحة الوطنية الشاملة مطلب عاجل وملح. ولكن، ضمن الشروط المجتمعية التي ينبغي أن يتوافق حولها أوسع طيفٍ ممكنٍ من القوى الحزبية والمدنية، من دون إقصاء أو حسابات خفية، يتم تمريرها تحت الطاولة.