01 نوفمبر 2024
تونس على اللائحة السوداء الأوروبية
نزل الخبر صاعقاً على المجتمعين، السياسي والمدني، وعلى المشتغلين في مجالات المال والأعمال والاستثمار في تونس، بعد أن تلقفته وسائل الإعلام المحلية والدولية، وسوقته بصفة عريضة في العالم الافتراضي وفي الصحافة المكتوبة والفضاء العام الاتصالي. مفاد الخبر إدراج تونس ضمن اللائحة السوداء (البلاك ليست) الأوروبية التي شملت 17 ملاذا أو جنة ضريبية في العالم، منها تونس ودول أخرى، مثل الإمارات والبحرين وكوريا الجنوبية وبنما. وقد رفضت الحكومة التونسية القرار الأوروبي الذي صادق عليه 28 وزير مالية أوروبياً في اجتماعهم في بروكسيل يوم 5 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، معتبرة "أن تونس ترفض التدخل في سياستها الجبائية، وهي ليست ملاذًا جبائيا". عُدّ القرار الأوروبي من بين القرارات الخطيرة التي سيكون لها كبير الأثر على المالية العمومية والاقتصاد التونسيين، وذلك لضخامة حجم المبادلات التونسية-الأوروبية التي بلغت قيمتها 20 مليار يورو، أي حوالى 60 مليار دينار تونسي، ما يمثل ضعف الموازنة التونسية تقريبا، بنسبة 63% من حجم المبادلات التونسية على المستوى العالمي. اتهام تونس بأنها جنة ضريبية وملاذ لتبييض الأموال ليس جديدا، إذ ارتبطت التهمة بنظام الرئيس الأسبق المخلوع، زين العابدين بن علي، الذي عرفت العشريتان الأخيرتان من حكمه هيمنة أسرته وأصهاره على الحياة الاقتصادية والمالية، وتأسيس شركات وهمية كثيرة تلاعبت بسوق المال، واشتغلت بالمضاربات العقارية. وقد أشار إلى هذا الأمر البنك الدولي في تقرير له سنه 2014، مبينا أن عائلة أصهار بن علي كانوا يملكون مصالح مُهيمنة في شركات تونسية عديدة، بما في ذلك الطائرات، ووكالات السيارات، وخدمات الإنترنت، ومحطات التلفزة والإذاعة، والمحلات الكبيرة للبيع بالتجزئة. وحدّد التقرير 662
مؤسسة، تملكها عائلة بن علي، تمثّل 2% فقط من الشركات الخاصة، لكنها تحوز 5% من ناتج القطاع الخاص و16% من كل أرباحه الصافية. وأظهر عمل اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق عن الرشوة والفساد التي أصدرت تقريرا في الأمر نفسه سنة 2011، وجود مليارات الدولارات المتخفية في شركات وهمية ومصارف أجنبية تعود إلى أفراد عائلة الطرابلسية والمقربّين منها، توفر لهم الحكومات المتعاقبة حماية بنوك الدولة ومؤسساتها، وتمكنها من حركة ومسارب وملاذات مالية آمنة محليا وإقليميا ودوليا، من دون أن يكون هذا الأمر مقلقا للاتحاد الأوروبي ومؤسساته المالية التي لم تبد احتجاجا يذكر آنذاك.
رفضت النخب الفكرية والجامعية التونسية القرار الأوروبي، واعتبرته ينطوي على مظلمة وحيف تجاه بلد وقّع أول اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في الفضاءين العربي والمتوسطي، ويرتبط عضويا بهذا الاتحاد، وخصوصا بالدولة الفرنسية التي تؤوي قرابة المليون تونسي يقيمون ويشتغلون على أراضيها، ولها 1300 شركة في تونس، وحضور لغوي لافت جعل من الفرنسية لغة ثانية وليست لغة أجنبية، حيث لم يبذل وزيرها للاقتصاد والمالية، برينو لومار، جهدا يذكر في الحيلولة دون المسّ بتونس بهذه الطريقة المجحفة.
وضع القرار الأوروبي على المحك وموضع اختبار الشعارات التي تغنت بها الحكومات الأوروبية، وخصوصا الثلاثي الفرنسي الألماني الإيطالي التي تروج للثورة والتجربة الديمقراطية التونسية الناشئة والوليدة، مثالا لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتشيد بها، وتعتبرها مثالا قابلا للتعميم عربيا على الأقل، لكنها، في الآن نفسه، تنخرط عمليا في إجهاض التجربة بمثل هذه القرارات التي تدعم الهشاشة الاقتصادية والمالية التونسية المصاحبة للانتقال الذي تعرفه البلاد، ما يهدّد مستقبل التجربة السياسية الجديدة، والوضع الديمقراطي المصاحب لها برمته.
اللوم والنقد الشديد وُجه كذلك للمكنة الدبلوماسية التونسية، ولرئيس الدولة الباجي قائد السبسي، مرجع النظر في السياسة الخارجية، لعدم استباق هذا القرار بلوبيينغ وبدبلوماسية اقتصادية ومالية ناجعة، كما فعل المغرب ودول أخرى، لإقناع الدول الأوروبية الفاعلة بالوقوف ضد هذا الإجراء الذي سيكرّس شكلا جديدا من أشكال الوصاية على السيادة الوطنية التونسية، هذه السيادة المترنحة أصلا والواقعة في قبضة الدول المقرضة والمانحة، حتى بلغ حجم المديونية التونسية أكثر 70% من الناتج الوطني الخام، ما جعل من القرار الوطني أمرا صوريا، فالتدخل الأجنبي لا يكاد يستثني مجالا، حتى بلغ التسميات في الهياكل القيادية للدولة، ناهيك عن السياسات والاختيارات والبرامج الاقتصادية والاستراتيجية.
لا يمكن فهم القرار الأوروبي وتنزيله إلا ضمن هذه الفلسفة الأوروبية التي تنظر إلى تونس حديقة خلفية لأوروبا وجب توجيهها، ولم لا التحكم فيها، وهي المستعمرة الفرنسية القديمة التي تحتل مكانا مهماً في الجغرافيا المتاخمة لأوروبا التي تستوجب المراقبة الدائمة والحماية. وإلا بماذا نفسّر هذا الزجر الأوروبي تجاه اختيار اقتصادي معمول به في تونس منذ سنة 1972، والمتمثل في إعفاء المؤسسات الاقتصادية الموجهة كليا نحو التصدير، ولا يحق لها التعامل مع السوق الداخلية، من الضرائب، والتي تشغّل 400 ألف من اليد العاملة المحلية، وهو خيار مندرج ضمن توجه ليبرالي، جاء على أنقاض المسار الاشتراكي التعاضدي الذي عرفته تونس في حقبة الستينيات، وهو قرار لم يشمل تهريب (وتبييض) الأموال المتأتية من المخدرات أو السرقات الكبرى والنهب المالي المنظم؟
يهدف الأوروبيون إلى تحقيق غايتين رئيسيتين، الأولى إضعاف الحكومة التونسية في
المفاوضات المزمع إجراؤها مع الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاق التبادل الحر والشامل، الذي سيعوض اتفاق الشراكة التونسي الأوروبي لسنة 1995، ليشمل مجالات الزراعة والخدمات التي لم تكن مدرجة سابقا، وهي مجالات حساسة سيؤدي الزحف الأوروبي عليها إلى تبعية تونس الكاملة لأوروبا في المستويين، الزراعي والخدماتي، وتفاقم ظاهرة البطالة والتهميش المحليين، وتهديد الأمن الغذائي التونسي. أما الغاية الثانية فهي الولوج مباشرة إلى المشهد السياسي، وتحسين شروط التفاوض حوله، استعدادا لانتخابات سنة 2019 التشريعية والرئاسية، عبر دعم وإسناد شرائح حزبية وسياسية ذات توجهات لائكية ونيو- ليبرالية موالية لأوروبا على حساب قوى محافظة، لها علاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، وأخرى تقليدية، وثالثة ذات طبيعة راديكالية اجتماعية ووطنية.
لم يلتزم الاتحاد الأوروبي بوعوده تجاه تونس، مثل إرجاع الأموال المنهوبة من نظام بن علي المودعة في البنوك الأوروبية، وبالدعم المالي لتونس المقدّر بخمسة وعشرين مليار دولار الذي أقرته قمة دوفيل في شهر مايو/ أيار سنة 2011، وواصل الاتحاد في دعم سياسة الإقراض المشروط بتحقيق أهداف سياسية، وأخرى مجتمعية، مثل الدعوة إلى المثلية الجنسية والمساواة في الميراث، أو تعويم الدينار، التي ينتهجها صندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي، وذلك ضمن سياساته التي ترمي إلى خدمة المصالح الأوروبية من دون الأخذ بالاعتبار الأضرار التي تلحق بالتجربة التونسية الجديدة، الفتية والطرية، التي يتفق القائمون عليها مع مختلف قوى المجتمع المدني والسياسي، بضرورة مراجعة سياسة الجوار الأوروبية المطبقة عليها، والخروج منها ضمن اتفاق جديد لا يكون مختلا لصالح أوروبا، كما هو الأمر على مدى العشريتين المنقضيتين. ولكي يتحقق ذلك، لابد من توفر إرادة سياسية تقوم على الندية، بدلا من الخشية من الغالب الأوروبي والولع بالتشبه به، وفق الترمنولوجيا الخلدونية.
رفضت النخب الفكرية والجامعية التونسية القرار الأوروبي، واعتبرته ينطوي على مظلمة وحيف تجاه بلد وقّع أول اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في الفضاءين العربي والمتوسطي، ويرتبط عضويا بهذا الاتحاد، وخصوصا بالدولة الفرنسية التي تؤوي قرابة المليون تونسي يقيمون ويشتغلون على أراضيها، ولها 1300 شركة في تونس، وحضور لغوي لافت جعل من الفرنسية لغة ثانية وليست لغة أجنبية، حيث لم يبذل وزيرها للاقتصاد والمالية، برينو لومار، جهدا يذكر في الحيلولة دون المسّ بتونس بهذه الطريقة المجحفة.
وضع القرار الأوروبي على المحك وموضع اختبار الشعارات التي تغنت بها الحكومات الأوروبية، وخصوصا الثلاثي الفرنسي الألماني الإيطالي التي تروج للثورة والتجربة الديمقراطية التونسية الناشئة والوليدة، مثالا لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتشيد بها، وتعتبرها مثالا قابلا للتعميم عربيا على الأقل، لكنها، في الآن نفسه، تنخرط عمليا في إجهاض التجربة بمثل هذه القرارات التي تدعم الهشاشة الاقتصادية والمالية التونسية المصاحبة للانتقال الذي تعرفه البلاد، ما يهدّد مستقبل التجربة السياسية الجديدة، والوضع الديمقراطي المصاحب لها برمته.
اللوم والنقد الشديد وُجه كذلك للمكنة الدبلوماسية التونسية، ولرئيس الدولة الباجي قائد السبسي، مرجع النظر في السياسة الخارجية، لعدم استباق هذا القرار بلوبيينغ وبدبلوماسية اقتصادية ومالية ناجعة، كما فعل المغرب ودول أخرى، لإقناع الدول الأوروبية الفاعلة بالوقوف ضد هذا الإجراء الذي سيكرّس شكلا جديدا من أشكال الوصاية على السيادة الوطنية التونسية، هذه السيادة المترنحة أصلا والواقعة في قبضة الدول المقرضة والمانحة، حتى بلغ حجم المديونية التونسية أكثر 70% من الناتج الوطني الخام، ما جعل من القرار الوطني أمرا صوريا، فالتدخل الأجنبي لا يكاد يستثني مجالا، حتى بلغ التسميات في الهياكل القيادية للدولة، ناهيك عن السياسات والاختيارات والبرامج الاقتصادية والاستراتيجية.
لا يمكن فهم القرار الأوروبي وتنزيله إلا ضمن هذه الفلسفة الأوروبية التي تنظر إلى تونس حديقة خلفية لأوروبا وجب توجيهها، ولم لا التحكم فيها، وهي المستعمرة الفرنسية القديمة التي تحتل مكانا مهماً في الجغرافيا المتاخمة لأوروبا التي تستوجب المراقبة الدائمة والحماية. وإلا بماذا نفسّر هذا الزجر الأوروبي تجاه اختيار اقتصادي معمول به في تونس منذ سنة 1972، والمتمثل في إعفاء المؤسسات الاقتصادية الموجهة كليا نحو التصدير، ولا يحق لها التعامل مع السوق الداخلية، من الضرائب، والتي تشغّل 400 ألف من اليد العاملة المحلية، وهو خيار مندرج ضمن توجه ليبرالي، جاء على أنقاض المسار الاشتراكي التعاضدي الذي عرفته تونس في حقبة الستينيات، وهو قرار لم يشمل تهريب (وتبييض) الأموال المتأتية من المخدرات أو السرقات الكبرى والنهب المالي المنظم؟
يهدف الأوروبيون إلى تحقيق غايتين رئيسيتين، الأولى إضعاف الحكومة التونسية في
لم يلتزم الاتحاد الأوروبي بوعوده تجاه تونس، مثل إرجاع الأموال المنهوبة من نظام بن علي المودعة في البنوك الأوروبية، وبالدعم المالي لتونس المقدّر بخمسة وعشرين مليار دولار الذي أقرته قمة دوفيل في شهر مايو/ أيار سنة 2011، وواصل الاتحاد في دعم سياسة الإقراض المشروط بتحقيق أهداف سياسية، وأخرى مجتمعية، مثل الدعوة إلى المثلية الجنسية والمساواة في الميراث، أو تعويم الدينار، التي ينتهجها صندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي، وذلك ضمن سياساته التي ترمي إلى خدمة المصالح الأوروبية من دون الأخذ بالاعتبار الأضرار التي تلحق بالتجربة التونسية الجديدة، الفتية والطرية، التي يتفق القائمون عليها مع مختلف قوى المجتمع المدني والسياسي، بضرورة مراجعة سياسة الجوار الأوروبية المطبقة عليها، والخروج منها ضمن اتفاق جديد لا يكون مختلا لصالح أوروبا، كما هو الأمر على مدى العشريتين المنقضيتين. ولكي يتحقق ذلك، لابد من توفر إرادة سياسية تقوم على الندية، بدلا من الخشية من الغالب الأوروبي والولع بالتشبه به، وفق الترمنولوجيا الخلدونية.