01 نوفمبر 2024
تونس.. قانون للعفو عن الفاسدين
مفارقة كبيرة وتحد حقيقي مثّله قانون المصالحة الإدارية، أمام الطبقة السياسية في تونس بمختلف أطيافها ومكوناتها، فلم يحدث أن انزعج التونسيون مثل انزعاجهم من القانون الذي صادق عليه البرلمان التونسي يوم 13 سبتمبر/ أيلول الجاري. وقد استمرت مقاومة تمرير هذا القانون سنتين ونصف السنة بدون تردد ولا هوادة، أملا في إسقاطه بالوسائل القانونية والشعبية الممكنة. لكن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، صاحب المبادرة التشريعية، مارس كل أنواع القوة الناعمة والمكر السياسي والدهاء الاتصالي والمناورة الحزبية والضغط على نواب الائتلاف الحاكم الليبرالي – الإسلامي، وعقد التفاهمات وصفقات البيع والشراء السياسي، للمصادقة على القانون، وتحويله إلى أمر واقع. فقد مُرر القانون، في دورة برلمانية استثنائية وفي أيام العطلة القضائية، حيث كان محل استشارة وجوبية لدى المجلس الأعلى للقضاء، وفي غفلة من الرأي العام والقوى السياسية والمجتمع المدني والاتصالي والنخب الفكرية والجامعية، على الرغم من احتجاجات محدودة قادتها حملة "مانيش مسامح" أمام مجلس نواب الشعب، لحظة المناقشة العامة، والتصدّي الشرس لنواب المعارضة من داخل قبة البرلمان، على الرغم من محدودية عددهم، محاولة منهم لتأجيل التصويت إلى حين تنطلق الدورة البرلمانية العادية في مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، بالتزامن مع بداية الموسم السياسي الجديد.
يعفو نص القانون، في فصله الثاني، عفوا صريحا عن الموظفين العموميين وأشباههم الذين ارتكبوا جرائم ذات طبيعة إدارية أو مالية أو متعلقة بمسؤولية التسيير والإشراف في حق الدولة والمجتمع. وقد أوقف هذا القانون التتبعات والمحاكمات في حق كل من مارس "أفعالا تم القيام بها، والمتصلة بمخالفة التراتيب، أو الإضرار بالإدارة لتحقيق منفعة، لا وجه لها للغير، شريطة عدم الحصول على فائدة لا وجه لها لأنفسهم". ويعد محتوى هذا الفصل، وكذلك الفصل الثالث
الذي يلغي الأحكام القضائية، ويجبر الوكلاء العامين لمحاكم الاستئناف على تقديم شهادة براءة للمعنيين بالقانون، يعدّ كافيا للرجّة التي أحدثتها المصادقة البرلمانية في بعض الأحزاب السياسية التي تنسب نفسها إلى أيديولوجيا 14 جانفييه (يناير) 2011. فالرأي العام لم يستغرب أو يفاجئه موقف حزب نداء تونس، أو فروعه المنشقة عنه، مثل حزب مشروع تونس والكتلة الوطنية، أو حليفه حزب آفاق تونس، الداعمين قانون المصالحة الإدارية بسبب مرجعيتهم التجمعية والدستورية واليسارية-البورقيبية، وإنما فاجأهم موقف حركة النهضة الإسلامية التي تصنف نفسها ضمن القوى القادمة من فيافي النضال التاريخي المقاوم للاستبداد والفساد، فإذا بها تنحاز وتتخندق إلى جانب الماكنة العميقة الساكنة في مفاصل الدولة، المتحكّمة في الغرف السياسية والإعلامية والمالية المظلمة، والتي كانت تنتج ذلك الاستبداد والفساد عشرات السنين. فقد تلا هذا الموقف المناقض لأبسط مقاومات الإسلام الداعية إلى الإصلاح والتصدي للفساد، مصادقة "النهضة" على حكومة يوسف الشاهد الثانية والمشاركة فيها مع وزراء كانوا عشية 14 يناير/ كانون الثاني 2011 (إسقاط الثورة نظام بن علي) في آخر حكومة أسقطتها دماء شهداء الثورة التونسية، ونضال أجيال من المعارضين، على خلفية كل مظاهر البؤس السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي انتهت إليها تونس آنذاك. وقد أوجع هذا الأمر الحركة الإسلامية، وأثخن جراحها، بعد أن تعرّضت إلى حملة انتقاد شديدة من داخل مناصريها وأتباعها ومن خارجهم، فأفقدها بقايا مصداقية متلاشية من تحالفها مع جلّاديها من تجمعيين ودستوريين، نظموا أنفسهم في حزب نداء تونس، ولم يتبق لها من الصفة الإسلامية سوى الشعارات التي لم تعد تقبل الترويج، وبعض الممارسات الطقوسية للدين التي يشترك فيها أنصارها مع عامة التونسيين. لم يكن الأمر هيّنا على النهضويين، فقد بلغوا حدّ استقالة أحد نواب "النهضة" من الوزن الثقيل، وهو وزير العدل في حكومة الترويكا الثانية من كتلتهم البرلمانية، وتصويت خمسة نهضويين ضد القانون وغياب 31 آخرين عن التصويت، وهو ما حدث أول مرّة في التجربة البرلمانية والتأسيسية لحركة النهضة، ما يعني أن اختلافات وانقسامات تعتمل داخل هذا الحزب السياسي، قد تجد طريقها إلى العلن في الأفق القريب.
وقد أثبتت النقاشات والمنتديات والديناميات الفكرية والسياسية والنقابية والمدنية التي أحدثها القانون في أوساط النخب المختلفة، وكذلك الطعون التي تقدمت بها كتل المعارضة البرلمانية التونسية إلى هيئة مراقبة دستورية مشاريع القوانين، أثبتت ضعف القانون وارتجاليته وصبغته الارتدادية لإلغاء التشريعات التي جاءت بها منظومة 14 جانفييه، في مجال العدالة الانتقالية والإصلاح والنزاهة والشفافية، وفساد محتوياته وعقم روحه وخلفيته الثقافية وتناقضه الصارخ مع الدستور. ذلك أن تحديد تاريخ 1955 مرجع عفو على الإداريين، أي الموظفين من مديرين ومديرين عامين ورؤساء مديرين عامين وأشباههم، أي السياسيين من وزراء وكتاب دولة ورؤساء دواوين وولاة ومعتمدين، هدروا المال العام وتجاوزوا سلطاتهم، واستولوا على الأملاك العمومية، وزوّروا نتائج مناظرات الانتداب في الوظيفة العمومية، فحرموا كثيرين من أصحاب الحقوق من العمل والحياة الكريمة، أو دلّسوا الانتخابات بأنواعها الرئاسية والتشريعية والبلدية عشرات السنين من أجل أن يحكم البلاد حزب واحد ورئيس واحد، مردّه هو الرغبة في محو ما جاء في الفصل 17 من قانون العدالة الانتقالية أن عمل هيئة الحقيقة والكرامة يغطي الفترة من الأول من يوليو/ تموز 1955 إلى سنة 2013، وما ورد في الفصل 15 من القانون نفسه من أن المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
يتناقض القانون مع الدستور في مواطن كثيرة، من ذلك ما جاء في الفقرة الأولى من التوطئة من تحقيق أهداف ثورة 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 – 14 يناير/ كانون الثاني 2011، ووفاء لدماء الشهداء ولتضحيات التونسيين والتونسيات على مرّ الأجيال، والقطع مع
الظلم والحيف والفساد، فهو تشريع يكرّس الحيف والفساد في أبلغ صوره. كما يخترق الفصل 15 من الدستور الذي ينص على أن الإدارة العمومية في خدمة المواطن والصالح العام، تنظم وتعمل وفق مبادئ الحياد والمساواة واستمرارية المرفق العام، وفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة، فبموجب هذا القانون يصبح الإفلات من المساءلة هو القاعدة ويشجع تكرار مثل تلك الممارسات التي ساعدت على هشاشة أركان الدولة التونسية، فالإدارة هي العصب الرئيسي للدولة. ويتناقض قانون المصالحة الإدارية تناقضا صريحا مع معاهدة الأمم المتحدة الخاصة بمكافحة الفساد (2003) بمقتضى القانون المؤرخ في 25 فبراير/ شباط 2008، علما أن المعاهدات الدولية ترتب في مرتبة أعلى من القوانين، حسب ما ينص على ذلك الدستور التونسي في فصله عدد 20، ناهيك عن أن منظمة الشفافية الدولية دعت الحكومة التونسية إلى سحبه، نظرا إلى أنه يكرّس الفساد، ويؤدي إلى الإفلات من العقاب.
إخلالات كثيرة تضمنها نص القانون، منها ما يمسّ بجوهره وروحه في علاقة بالدستور، ومنها ما يتعلق بالشكل، ما سيجعل منه موضوع اختبار عسير للهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين التي ستجد نفسها بين فكي كماشة الإرادة الشعبية، الداعية إلى إسقاطه، المستندة إلى روح دستور 27 يناير/ كانون الثاني 2014، وتدخل السلطة التنفيذية التي استردت عافيتها الاستبدادية والهيمنية، بعد أن بلغ هرم السلطة، بواسطة الصندوق الديمقراطي في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول وديسمبر/ كانون الأول 2014، أحزاب وقوى سياسية لا تخفي انتماءها إلى المنظومة الاستبدادية القديمة التي كان يقودها التجمع الدستوري الديمقراطي، متحالفةً مع حركة إسلامية تم تدجينها وصهرها حتى باتت أكثر براغماتية وغنائمية من حلفائها أنفسهم.
يعفو نص القانون، في فصله الثاني، عفوا صريحا عن الموظفين العموميين وأشباههم الذين ارتكبوا جرائم ذات طبيعة إدارية أو مالية أو متعلقة بمسؤولية التسيير والإشراف في حق الدولة والمجتمع. وقد أوقف هذا القانون التتبعات والمحاكمات في حق كل من مارس "أفعالا تم القيام بها، والمتصلة بمخالفة التراتيب، أو الإضرار بالإدارة لتحقيق منفعة، لا وجه لها للغير، شريطة عدم الحصول على فائدة لا وجه لها لأنفسهم". ويعد محتوى هذا الفصل، وكذلك الفصل الثالث
وقد أثبتت النقاشات والمنتديات والديناميات الفكرية والسياسية والنقابية والمدنية التي أحدثها القانون في أوساط النخب المختلفة، وكذلك الطعون التي تقدمت بها كتل المعارضة البرلمانية التونسية إلى هيئة مراقبة دستورية مشاريع القوانين، أثبتت ضعف القانون وارتجاليته وصبغته الارتدادية لإلغاء التشريعات التي جاءت بها منظومة 14 جانفييه، في مجال العدالة الانتقالية والإصلاح والنزاهة والشفافية، وفساد محتوياته وعقم روحه وخلفيته الثقافية وتناقضه الصارخ مع الدستور. ذلك أن تحديد تاريخ 1955 مرجع عفو على الإداريين، أي الموظفين من مديرين ومديرين عامين ورؤساء مديرين عامين وأشباههم، أي السياسيين من وزراء وكتاب دولة ورؤساء دواوين وولاة ومعتمدين، هدروا المال العام وتجاوزوا سلطاتهم، واستولوا على الأملاك العمومية، وزوّروا نتائج مناظرات الانتداب في الوظيفة العمومية، فحرموا كثيرين من أصحاب الحقوق من العمل والحياة الكريمة، أو دلّسوا الانتخابات بأنواعها الرئاسية والتشريعية والبلدية عشرات السنين من أجل أن يحكم البلاد حزب واحد ورئيس واحد، مردّه هو الرغبة في محو ما جاء في الفصل 17 من قانون العدالة الانتقالية أن عمل هيئة الحقيقة والكرامة يغطي الفترة من الأول من يوليو/ تموز 1955 إلى سنة 2013، وما ورد في الفصل 15 من القانون نفسه من أن المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
يتناقض القانون مع الدستور في مواطن كثيرة، من ذلك ما جاء في الفقرة الأولى من التوطئة من تحقيق أهداف ثورة 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 – 14 يناير/ كانون الثاني 2011، ووفاء لدماء الشهداء ولتضحيات التونسيين والتونسيات على مرّ الأجيال، والقطع مع
إخلالات كثيرة تضمنها نص القانون، منها ما يمسّ بجوهره وروحه في علاقة بالدستور، ومنها ما يتعلق بالشكل، ما سيجعل منه موضوع اختبار عسير للهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين التي ستجد نفسها بين فكي كماشة الإرادة الشعبية، الداعية إلى إسقاطه، المستندة إلى روح دستور 27 يناير/ كانون الثاني 2014، وتدخل السلطة التنفيذية التي استردت عافيتها الاستبدادية والهيمنية، بعد أن بلغ هرم السلطة، بواسطة الصندوق الديمقراطي في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول وديسمبر/ كانون الأول 2014، أحزاب وقوى سياسية لا تخفي انتماءها إلى المنظومة الاستبدادية القديمة التي كان يقودها التجمع الدستوري الديمقراطي، متحالفةً مع حركة إسلامية تم تدجينها وصهرها حتى باتت أكثر براغماتية وغنائمية من حلفائها أنفسهم.