تونس: مشاغل صيفيّة أم ملل من السياسة؟
يهب الصيف التونسيين غلالاً وفاكهةً لذيذة، يندر أن تجد لها مثيلاً في المتوسط، ويمنحهم أيضاً، أوقاتا للمتعة، تتوزع بين الليالي الملاح التي تصل الليل بالنهار والمهرجانات، كما يزيدهم العطاء، فينثر على أراضيهم شواطئ ذهبية، تتحلل فيها أجسادهم طيفاً عائماً في استثناء عربي نادر. ولكن، بقدر ما يهبهم ذلك كله، فإنه يجزي العطاء ويضاعفه لحكامهم، حيث يريحهم ما يزيد عن ثلاثة أشهر من عبء "الهرج السياسي"، فيخفف، ولو إلى حين، من صداعهم.
ينثر الصيف خدره المحبذ مع لطائف الياسمين، فتزهد نفوس كثيرة في المناكفة، وتعرض عن التجاذب والسجال. يلطف مزاج الناس ويلين، وليس من المصادفة ألا يحفظ التاريخ القريب للتونسيين تحركاتٍ، تذكر لهم في الصيف، ما عدا مظاهرات تعلقت بقضايا عربية، على غرار العراق أو فلسطين او العدوان على لبنان سنة 2006. على عكس ذلك، كان الشتاء موسم الانتفاضات بامتياز. الثورة كانت آخر الفواكه الشتوية، وربما أنضجها.
لكل ذلك، تخبئ الأنظمة السياسية التي تعاقبت على البلاد إجراءاتها الأكثر قسوة وقراراتها الأكثر لا شعبية، وفي غفلة من المواطنين، تعلن تلك القرارات نهايات الأسبوع، حيث تتهيأ العائلات، كما جرت العادات التونسية، لإحياء حفلات الأعراس، أو التوجه إلى الشواطئ.
في هذا المناخ، اختارت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي شهد أحداثها جدلاً سياسيا وقانونياً واسعاً، استمر أكثر من سنة، بعد معارك مع المحكمة الإدارية تواصلت أشهر، انطلاق عملية تسجيل الناخبين للانتخابات المقبلة التي ستكون ضربة البداية فيها للتشريعية يوم 26 أكتوبر/كانون الثاني المقبل. اختارت الهيئة أن تمتد الحملة على شهر من 22 يونيو/حزيران إلى 22 يوليو/تموز الجاري، في كامل أنحاء البلاد، واختارت لها شعاراً لا يخفي كسله، فضلا عن غياب التخيل والطرافة والعمق "نحب تونس مالا نقيد".
تهدف العملية إلى تسجيل ما لا يقل عن أربعة ملايين ناخب، لم يقع تسجيلهم، لسببٍ أو لآخر في انتخابات 2011. فضلاً عن نحو مائة ألف شاب، انضافوا إلى الجسم الانتخابي في انتظار البقية الذين سيبلغون سن الثامنة عشر مع موعد الانتخابات المقبلة، ولقد أعدت الهيئة لتأمين هذه العملية قرابة 2500 موزعين على كامل تراب الجمهورية، في مكاتب ثابتة، وأخرى متجولة هي في حدود 280، على أمل أن تقنع من اختار، أو اضطر إلى "مقاطعة" انتخابات 23 أكتوبر/ كانون الثاني2011.
الحصيلة التي سجلت، إلى حد الآن، ضعيفة بكل المقاييس، فلم يتجاوز عدد المسجلين مائة ألف إلى الأسبوع الجاري، وهو الأسبوع الأول من يوليو/تموز، ما طرح عدة أسئلة، وربما استنتاجات أعتقد أنها سابقة لأوانها، ويبدو أن أطرافاً سياسيةً، عجلت في بناء خططها على ضوء ذلك كله. هل يمكن أن نطمئن إلى السياق الظرفي الذي كنا نصف ملامحه، لتفسير هذا الإقبال الضعيف، أم أن الأمر يتجاوز الإيقاع الاجتماعي الذي يمليه الصيف على حياة التونسيين؟
لن تكون الإجابات، مهما تدققت، إلا على شاكلة فرضيات مؤقتة في انتظار قيام سوسيولوجيا انتخابية، تشتغل على حقل بكر، إذ مازالت أسباب عزوف نحو أربعة ملايين عن الانتخابات الماضية مجهولة. ويمكن، في اعتقادي، وباستثناء ما أشرنا إليه من ظرف موسمي، تقديم فرضيات ثلاث، لفهم هذا البطء المحير في التسجيل الانتخابي، إضافة إلى ما أشرنا:
- مشاعر الإحباط لدى أوساط عديدة، وأساسا الشباب وسكان المناطق الداخلية التي تعتقد أن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة لم تقدم لهم مكاسب اجتماعية واقتصادية ذات بال، بل ربما تدهورت وضعياتهم، مقارنة مع ما قبل الثورة، وهم لا يعيرون لما تحقق من مكاسب سياسية، على غرار الحريات والحقوق والدستور وغيرها، اهتماماً، إذ يعتقد بعضهم أنها مسائل لا تعنيهم مباشرة. الحصيلة العامة، من وجهة نظرهم، لم تكن جيدة جاذبة انتخابياً، بل طاردة، وهم يصرون، تبعا لذلك، على النأي بأنفسهم عن الانتخاب، وهي مشاعر فردية، لا ترتقي إلى سلوك معقلن ومنظر له.
- التيئيس الذي اشتغلت عليه دوائر سياسية وإعلامية وفنية، إذ استغلت هذه الأوساط صعوبات الانتقال الديموقراطي وصعود حركة النهضة وأخطاء الحكم، لنسف عملية التحول الديموقراطي بذاته، وإيجاد مقارنةٍ مختزلةٍ، ينتج عنها "ترحم على بن علي"، وحنين جارف إلى عهده، تصل إلى حد الدعوة إلى عودته، باعتباره عصراً ذهبياً، وبدأت هذه العملية ممنهجة ومترابطة، فيها تخطيط وتوزيع للأدوار دقيق، فانتهت إلى حد الاستهزاء من الشهداء. تراهن هذه الآلة الخفية على إيجاد حالة من النقمة على الثورة، والانفضاض من حولها، من خلال "مقاطعة صامتة" للانتخابات، لكنها غير متحزبة، حتى يتم استعمالها حجةً في الانقلاب على الثورة. التشويش الأخلاقي للثورة، وتصويرها على أنها غير شعبية بالمرّة، هو بدء للتشريع إلى
عودة النظام القديم، سيستعمل هؤلاء النسب الضعيفة للإقبال على الانتخابات المقبلة، مقدمة ضمن مخطط طويل، يبدأ مشواره من هذه الخطوة.
التيئيس من العمل السياسي، برمته، إفراغ للتحول الديموقراطي بحرمانه من التفاف الناس حوله وعزله عن الحاضنة الشعبية، وحصره، بدل ذلك، في ممارسة السياسة المحترفة، وهو ما يخلق مجتمعاً مضاداً للمجتمع السياسي الضيق، آنذاك، سيواجه التحول الديموقراطي شرخاً وانقسام المجتمع إلى شطرين: مجتمع الساسة الذين "يأكلون بعضهم بعضاً" ومجتمع الناس الذين ملوا، ونقموا على السياسيين والثورة معاً.
هذان السببان لا يحجبان العامل المفترض الثالث، وهو بعض الأخطاء التنظيمية واللوجستية التي وقعت فيها الهيئة المستقلة للانتخابات، لعل أهمها تلك المتعلقة بالحملة الدعائية التي تبدو غير موفقة، بدءاً من تعثر الومضات الاشهارية وغياب المحاميل الدعائية، إضافة إلى الشعار الدعائي المركزي الذي اختارته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات "إنا نحب تونس مالا نقيد"، وهو شعار كتب باللهجة التونسية، ولا ينم عن جهد تخييلي كبير، بل هو أقرب إلى السذاجة، وربما الكسل. إنه شعار لا يحتاج إلى ذكاء كبير، ولا يولد الرغبة في التسجيل مطلقاً، وتلك قاعدة يعلم خبراء التسويق مدى خطورتها، خصوصاً وإن الحملة تجرى، وأفئدة الناس، وخصوصاً الشباب، مشدودة إلى قنوات أجنبية لمتابعة مباريات كأس العالم.
شرع بعضهم، قبل الأوان، في استغلال الحصيلة الضعيفة لتصفية حساباته مع الهيئة التي لاستقلاليتها متهمة بمحاباة أطراف سياسية، ذلك أن بعضهم لا يتسع فهمه للاستقلالية، إلا إذا رأى فيها معاداة صارخة لحركة النهضة تحديداً، وقد تستغل هذه الأطراف النسبة المتدنية للانقلاب على المسار الانتخابي برمته.