عبث في تونس لا حدّ له

09 سبتمبر 2024

(معمّر مكّي)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

حتّى في الأنظمة التسلطية والمستبدّة، تجرى الانتخابات في مناخٍ من الانفراج والهدوء. يفتعل المُستبدّون هدنةً ولو قصيرةً يحرصون فيها على إبداء شيء من المرونة واللطف. لا يبدو ذلك قناعةً راسخةً، ولكنّها ضرورة الحُكم إذا ما أرادت الحيّةُ أن تُجدّد جلدتها.
يعمد الحاكم خلال تلك الفترة إلى افتعال اللطف إلى حدّ المبالغة، وإلى تنشيط مختلف أشكال الحوار مع معارضيه، وينتقي إجراءاتٍ انفراجيةً ولو محدودة (مصالح، لمّ الشمل...) هي من قبيل الاستعراض، كإطلاق سراح بعض خصومه... إلخ. ذلك كلّه في سياق حملة انتخابية، حتّى لو كان مترشّحاً وحيداً أو في منافسة غير متكافئة مع معارضين حقيقيين أو أرانبَ سباق يختارهم لإضفاء مزيد من الشرعية أو جرعةٍ غبيّةٍ من التشويق. في أحيانٍ كثيرة، تتحوّل الحملة كرنفالاً مملّاً، لكنّها ضرورات المنافسة في حدودها الدنيا تدفع إلى مثل هذه المساحيق التي تحرص على تزيين تلك الوجوه البشعة للاستبداد.

خلال عهدة الرئيس قيس سعيّد لم يشعر الناس بأنّهم أمام مُترشّح عرض عليهم برنامجاً سياسياً 

عرفت تونس مع الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي انتخاباتٍ عدديةً فاز فيها دوماً بنسبٍ خيالية، ظلّت تقارب دوماً 99%، شهدت في كل مرّة مناخاتٍ خاصّةً رغم أنّ جُلّ أطياف المُعارَضة لوحقت بالسجن أو بالتضيقات. وُضِعت اليدُ الغليظة على الإعلام، وطوّع بشكل مُبتذَل، فلم يكتفِ بأن يكون بوقاً للدعاية الفجّة للنظام، بل تحوّل آلةَ شتمٍ وتشويه للخصوم، حتّى إنّه لم يتورّع عن هتك أعراض الناس. ظنّ التونسيون أنّهم بعد الثورة غادروا تلك المناخات إلى الأبد، لكنهم، في الأسابيع القليلة الماضية، عادوا إليها، بل إنّهم يشهدون حالياً ما هو أسوأ من ذلك بكثير. لو ذهبت البلاد إلى إلغاء الانتخابات (تحت أيّ ذريعة؛ الخطر الداهم، بلاهة الشعب...) لكان ذلك أكثر انسجاماً مع منظومة الحُكم الحالية، فلا شيء يُنبئ بأنّ للانتخابات الجارية حالياً معنىً حقيقياً.
حين يعتقد الحاكم أنّه مبعوث العناية الإلهية، وأنّه أُرسل إلى قومه رحمةً، حتّى يُخلّصهم من براثن الفساد، فلا معنى للانتخاب أصلاً. لا جدوى من الانتخابات في ظلّ عقيدة سياسية تعتقد أنّ الجميع فاسدون، وأنّ الله اجتبى من خلقه حاكماً جاء لتطهير البلاد. تفترض الانتخابات قبل النزاهة والشفافية الاقتناع بأنّ لا وصاية للحاكم على المحكومين، ولا أفضليةَ له على غيره، إلّا بما برهن عليه من خلال ممارساته سلطته. لذلك، يُلقي الحاكم، مع بقيّة من ينافسونه، "عرضه السياسي" على أمل أن يُقنع به غيرَه، فيحوز الثقة، يمضي الحاكم في هذه الثقافة السياسة الدنيا من أجل تجسيد ما وعد به، حتّى تكون الانتخابات المقبلة فرصةً للتقييم، فإمّا أن يُجدَّد له لإيمان الناخبين بكفاءته، أو أن يُعاقَب بإزاحته واستضافة غيره ممّن نافسوه على كرسي الحُكم.
خلال عهدة الرئيس قيس سعيّد لم يشعر الناس بأنّهم أمام رئيس انتخبوه، أي أمام مُترشّح عرض عليهم برنامجاً سياسياً هو بصدد الالتزام بتطبيقه، باعتباره تعهّداً سياسياً انتخابياً. في خطاباته العديدة، التي دوماً تكون متوتّرةً ومنفعلةً بدا الرئيس مبعوثاً إلهياً، قال مرّة إنّ القدر اجتباه، وإنّه أمام أمانةٍ جسمية، مستذكراً آياتٍ قرآنيةً عديدة. لا يشعر الرجل بأنّه جاء الى الحكم عبر أصوات الناخبين، وبأنه مرّ بصعوبة في دورٍ ثانٍ احتاج فيه أصوات "النهضة"، حتّى يفوز على منافسه آنذاك نبيل القروي، الذي سيضطرّ لاحقاً إلى الهروب والتسلّل إلى التراب الجزائري. فما أن قام الرئيس قيس سعيّد بانقلابه، حتّى استشعر بالخطر، لتلاحقه المحاكم التونسية بعد ذلك في سلسلة من التهم لا زالت جاريةً.

لا جدوى من الانتخابات في ظلّ عقيدة سياسية تعتقد أنّ الجميع فاسدون

يمحو الرئيس من ذاكرته وأقواله وممارساته تلك الحلقة التي تُذكّره بأنّه مُنتخبٌ من خلال أصوات انتخابية بشرية، حتّى يبدو "مصطفىً" إلهياً ساقته أقدار حكيمة بكلّ عناية وتدبير ربّاني من أجل تخليص البلاد. لذلك لا يرى من نفسه بديلاً. البديل السياسي، شخصاً كان أو أطروحةً سياسيةً، هو الخطر الداهم على الرئيس سعيّد، ولذلك هو مُضطر إلى محاربته باعتباره مؤامرةَ تغيير فاسدة لإرادة الأقدار أو المشيئة الربّانية التي اصطفته في حكمة بالغة. علينا أن نفهم لِماذا تنشط الغربلة بهذا الشكل العبثي لإزاحة الخصوم بلا تردّد أو شفقة. جُلّ من عبّروا عن رغبتهم في خوض السباق الانتخابي هم حالياً في السجن أو ملاحقون أو في المنفى؛ الطبيب لطفي المرايحي، رجل الأعمال العياشي زمّال، عماد الدايمي، منذر الزنّادي، الصافي سعيد... إلخ.
لم يبقَ حالياً سوى ثلاثة مترشّحين؛ سعيّد وأمين عام حركة الشعب (تيّار ناصري عروبي) زهير المغزاوي، وعياشي زمّال الذي قبض عليه، بعد أن أقرّت الهية العُليا للانتخابات بشكل نهائي ترشّحه، بتهمة تزوير التزكيات الانتخابية، بعد أيام قليلة تُطلق سراحه محكمة منوبة (إحدى ضواحي العاصمة التونسية)، وهو يخطو خطوته الأولى خارجاً من بوابة السجن يعاد القبض عليه، وإحالته مُجدّداً على القضاء بتهمة أخرى تتعلّق بتزوير التزكيات. تعمد الإدارة إلى نقل القاضية التي أمرت بإطلاق سراحه إلى مدينة حدودية بعيدة، وهي أمضت أكثر من 30 سنة في خدمة القضاء، ولم يبقَ لها سوى سنوات قليلة على التقاعد. لطف العناية الإلهية إنّ صحّت ستضيق ذرعاً بهذا العبث كلّه.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.