هل حروب العرب وإسرائيل تاريخ انقضى؟

21 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

منذ حرب أكتوبر (1973)، التي خاضها العرب "مجمّعين" حرباً أخيرة مع إسرائيل، سكتت جُلّ الجبهات، ولم يعد من معنىً للحديث عن حروب العرب مع إسرائيل إلّا من باب التجوّز والاستعارة. لم يحارب العرب إسرائيل منذ تلك الحرب، بل لم يعودوا راغبين في الحرب مطلقاً، ثمّ ما لبثوا أن تحوّلوا منزعجين ممّن يخوض منهم الحرب ضدّ إسرائيل، ناقمين عليه، طوراً باسم الواقعية، وطوراً آخر باسم الصلح والسلام. مع ذلك ظللنا عاطفياً مساهمين عرباً فيما نشب من حروب خاضها بعض العرب ضدّ إسرائيل، فخاضت المقاومة اللبنانية حروبها في تساوق طوْراً، وتقاطع طوْراً آخر، مع الحروب والاشتباكات التي خاضتها المقاومة الفلسطينية مع الكيان.
كان الشارع العربي خلال تلك العقود الثلاثة قد عبّر عن تعاطفه مع أشقائه في تلك الحرب التي خاضوها. ماج الشارع العربي مع حرب تمّوز (2006)، ومختلف الانتفاضات الفلسطينية، والعمليات التي قادتها الفصائل الفلسطينية المسلّحة، سواء حركة حماس أو حركة الجهاد الإسلامي. عكست موجة التعاطف والغضب التي عبّر عنها الشارع العربي درجة الخيبة والإحباط التي عاشتها الشعوب العربية، وهي ترى أنظمتها "محيَّدةً"، وكأنّ ما يجري لا يعنيها. في موجات التعاطف تلك، كانت جامعة الدول العربية خصوصاً، والنظام العربي الرسمي، محلّ سخريةٍ وتندّرٍ وغضب. حُمِلت على الاكتاف نعوش الجامعة، وهذا النظام الذي نظر إليه بعضهم شاهدَ زورٍ، أو في أفضل الحالات مساوماً وخانعاً. لهذه الموجات الهادرة من التعاطف تأثير نفسي كبير في المحاربين؛ حركات مقاومة، وجماعات الإسناد من المرابطين والعوائل، ومنتديات التعاطف الإنساني العالمي. يشعر المقاتلون أنّهم يخوضون حرباً نيابة عن الأمّة المخذولة، وهم يرون في الشاشات تلك الموجات البشرية التي تسندهم. يكفيهم أن تنتهي إلى مسامعهم الهتافات والأهازيج التي تُجلّهم.
غير أن الأيام دفعتنا تدريجياً إلى التدحرج إلى منزلة مؤلمة لم نكن نتوقَّعها مطلقاً. لا أدري متى بدأت المنعطفات الحاسمة للخيبة الكُبرى. هل بدأت مع سقوط جدار برلين واستفراد الولايات المتّحدة في قيادة العالم بتعجرف؟ أم بُعيد حرب الخليج الأولى أو الثانية؟ أم بعد أحداث 11 سبتمبر (2001)؟ أم هي مسارات التدحرج والتقهقر تلك تراكمت حتّى أوصلتنا إلى ما نحن فيه؟ ... ها قد انتهينا مشاهدين لفرجة كبيرة تتواصل مدّةً تجاوزت السنة. تسمّرنا أشهراً عديدةً أمام الشاشات نشاهد مشاهد الدمار التي عجز الإعلام عن نقلها أثناء الحروب المعاصرة الكُبرى؛ الحرب العالمية الثانية، وحرب التحرير الجزائرية، وحرب فيتنام... إلخ. المشهد الإعلامي المفتوح على تفاصيل القتل المرعب، وبالألوان، و"تحت المجهر" و"المباشر" و"العاجل" و"على الهواء مباشرة"، تُلقَى في الساعة الواحدة أطنانُ المعلومات والصور والتصريحات.

يشعر المقاومون أنّهم يخوضون حرباً نيابة عن الأمّة المخذولة

شكَّلت حروب العرب خلال العقود الأخيرة مخبراً غيرَ مسبوقٍ لتشكيل مناهجَ نقلٍ وبرامجَ، ولاختبار تقنيات تصوير، ولابتكار أشكال تغطية إعلامية جديدة بدأت تُدرج في مناهج كلّيات الإعلام. لقد انتهينا إلى منزلة فيها النَّهم المَرَضي إلى حدّ إدمان الخبر ومتابعته، وقد يسحب منّا هذا المشاعر الحيّة الممكنة كلّها. الإفراط في الخبر ومتابعته المَرَضية ينزعان منّا ردَّات الفعل الممكنة، وهذه إحدى رهانات الإعلام الراهن؛ سحب المشاعر وتبليدها في مقابل وفرة المادّة الخبرية وإغراق الناس بها. يتسابق الناس (والقنوات طبعاً) لتكون لهم أسبقية الاستماع إلى الخبر أو مشاهدته ونقله، فضلاً عن التفرّد الحصري ببثّ الصورة أو التصريحات. إنّها ملهاة المآسي الراهنة.
لا تفعل القنوات ذلك عمداً، ولكنّها تنتهي (وإن عن حسن نيّة) إلى تلك النتيجة. في المحصّلة، لم تعد الحرب تعني العرب حتّى شعوبهم. لا فائدة في نقل ما يطفو في شبكات التواصل الاجتماعي بهذا البلد أو ذاك من إبداء بعضهم الضيق بالمقاومة، والتبرّؤ منها (فتاوى ومواعظ وحِكَم ودروس...)، واعتبارها تقاتل باسمها فقط، وليس نيابةً عنّا. قد يكون هذا الرأي نادراً ومعزولاً ولا يمثّل رأياً عامّاً واسعاً، لكنّه مُؤشّر إلى حالة التدحرج التي وصلنا إليها نحن العرب. لم يعد الأمر مُجرَّد موقف من الحرب، فلقد انقسم العرب سابقاً حول من يحقّ له إعلان الحرب؟ كيف نشارك فيها؟ من له سلطة إيقافها؟... إلخ، بل إنّ الانقسام طاول الموقف من العدو ذاته وقد غدا لبعضهم صديقاً ولبعض آخر حليفاً.
تطالعنا في كثير من الكتب الجيوسياسية المستقبلية أنّ العرب لن يخوضوا حروبهم القادمة مع إسرائيل، بل ستكون حروبهم أهليةً، حروب تنشأ بين أهل البلد الواحد؛ ما يحدُث الآن في السودان واليمن وغيرهما، أو بين بلدان عربية. والمُؤشّرات كثيرة، فلننظر إلى الحدود الفاصلة بين هذا البلد أو ذاك وجيرانه، لنعرف جِدّيةَ ما يمكن أن يندلع من حروبٍ عربيةٍ قادمةٍ وخطورتَها.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.