ابن خلدون الفيسبوكي وسكان إفريقية الحالية
يتقاسم الناس على مختلف شبكات التواصل الاجتماعي أقوالاً كثيرة تُنسَب إلى ابن خلدون، مفادها أن "أهل إفريقية شمّاتون عند المصائب حسّادون عند النعم". ويضيفون إليها أقوالاً أخرى، كلها استياء من أهل إفريقية، والمقصود بها طبعاً هنا في إسقاط تاريخي، سكان تونس الحالية. تشي الأقوال المنسوبة إلى ابن خلدون، بقطع النظر عن صوابها ودقتها أو عدمهما، بأن الرجل قالها عن تجربة، تبدو، لمن ينخرط في قراءة هذه الأقوال، مريرة انتهت إلى إصدار تلك الأحكام القاسية عن سكان تونس.
ينقل الناس أقوالاً عديدة أخرى، وينسبونها إلى ابن عربي والحلاج، وقد يضيفون إليهما أيضاً نيتشه ونابليون، وحتى محمود درويش ونزار قباني، إلخ. ينثرون على مختلف الصفحات تلك الأقوال، وهي أقرب إلى الحكم والمواعظ، غير أنهم ما إن يذكرون أقوالاً لابن خلدون، حتى تقترن بسخطه على أهل إفريقية. يرسم ابن خلدون الفيسبوكي صورة سيئة عن سكّان البلاد، أقرب إلى النفاق والخديعة والطمع، كقوله الفيسبوكي: "لا يجمع أهل إفريقية سوى الطبل، ولا تفرّقهم غير العصا".
وغنيٌّ عن القول أن من العبث تأكيد صحة هذه الأقوال، غير أن الأمر لا يخلو من دلالة عميقة، لعدة أسباب. ثمّة تصوّر ما شائع لدى عامة مستعملي "فيسبوك" أن ابن خلدون غادر تونس "غاضباً ومستاءً". ولربما كانت بعض إشارات واردة في ما كتب تفيد فعلاً بأن الرجل ما كان له أن يغادر إفريقية (تونس) لولا ما حاكه بعضهم من دسائس انتهت به إلى التوجّه إلى مصر، حيث الاستقرار بالقاهرة حيث توفي هناك. تتحوّل هذه الإشارات إلى سردية ثابتة مفادها بأن الرجل غادر تونس لفساد أهلها.
لا تعكس الصورة التي ينتقيها التونسيون من ابن خلدونهم "الشخصيةَ القاعديةَ" للشعب التونسي، وتظلّ محيرة دالّة على حجم استياء بعضهم من بعض
ينسى الناس أن تقلبات حياة ابن خلدون ومحنه وأزماته، على افتراض دقّة ما أورده الرجل حول نفسه أو ما أورده معاصروه حوله ليست استثناءً، بل هي سُنّة ثقافية لعصره. تدلنا كل السير التي تناقلها بعضهم من أهل التراجم وكتّاب السير والإخباريين أو ما كتبه بعضهم عن أنفسهم على غرار الشعراء والفلاسفة والفقهاء، أنّ جلّ هؤلاء عاشوا محناً قاسية، كانت قد حاكتها الدسائس والمؤامرات. وكانت الدسيسة إحدى السُّنن الثقافية لتلك العصور. كانت البلاطات سراديب دسائس، قلما نجا منها نجم عصره: فقيهاً أو شاعراً أو فيلسوفاً. لا تخضع الدسائس تلك لمقتضيات "المنافسة غير الشريفة" فحسب، بل تخضع أيضاً لمزاج الأمراء والسلاطين المتقلب، علاوة على خصال الضحية ذاته (مثقف تلك العصور). كلنا يتذكّر توجع المتنبي من المحن التي عصرته نتيجة تلك الدسائس، حتى كادت أن تهلكه مرّات عديدة. تتأكد هذه السُّنة الثقافية، حين ننخرط بها في أدب الرحلة الذي شاع آنذاك وازدهر، وهو ينقل إلينا عن صور نمطية متضاربة لسكان تلك الأمصار (نجد، الحجاز، العراق، الشام، السودان، المغرب، الصين، بلاد الفرنجة، إلخ). وهي صور على غاية من الطرافة رُسمَت بخيال عصرها وأحداثه وقيمه، فضلاً عن التجارب الخاصة بـ"كتّابها".
غير أن انتقاء ابن خلدون والتركيز على استعادته حالياً أمر على غاية الأهمية. يجري صياغة تلقٍّ ما لابن خلدون الفيسبوكي، وهو في الحقيقة ابن خيالنا الجماعي الراهن وأزماتنا الحالية بكل خيباتها. يختبئ الناس وراء ابن خلدون لقولٍ يريدون إذاعته، ولكن على لسانه. إنه يعبّر عما فاضت به قرائحهم، غير أنهم عجزوا عن صياغته في قالب موافق، وآراء يتحمّلون مسؤولية الدفاع عنها والبرهنة على صدقها وصوابها. يعفيهم ابن خلدون الفيسبوكي من كل وجع الرأس هذا.
ليست هذه الصورة التي ينتقيها التونسيون من ابن خلدونهم، في النهاية، سوى صورة جزئية ومظلّلة في أحيانٍ كثيرة، ولكنها، حتى ولو كانت لا تعكس "الشخصية القاعدية" للشعب التونسي، تظلّ محيرة دالّة عموماً على حجم استياء بعضهم من بعض بشيء من التعميم والأحكام القطعية.
يغيب ابن خلدون، ويعود إلينا من خلال أقواله وحكمه بين حين وآخر، فهو زائر الأزمات. لا نعرف تماماً الأسباب التي جعلت ابن خلدون يغادر تونس نهائياً ولا يعود إليها، مخيراً الرحلة إلى القاهرة سنة 1382 التي لم يكن فيها أيضاً سعيداً. وبقطع النظر إن كان الرجل قد هرب من الطاعون الزاحف آنذاك على البلاد، أو من الدسائس التي كادت مرّات عديدة أن تودي بحياته أو خشيةً من حرب أهلية ستضع السلطان المالكي مجدّداً في مواجهة الخوارج، فإن الرجل غادرها غير راغب فيها، بل هارباً منها ومن أهلها، بشيء من التعميم. يلتقط الناس تلك المشاعر لوصف حال "شعبهم" الراهن. شعب لا يرون فيه سوى التشفي والشماتة والسقوط في سرداب الغرائز القاتلة.