من يزور تيرانا هذه الأيام يلحظ الجانب الاحتفالي في قلب العاصمة الألبانية، المتمثّل في "ساحة إسكندر بِك"، ولافتةً ضخمة فيها تشير إلى "مئوية تيرانا"، وبالتحديد إلى اختيارها، في الثامن من شباط/فبراير 1920، عاصمةً للدولة الجديدة التي انبثقت من التركة العثمانية في البلقان.
في هذه الساحة بالذات، يحتار المرء الذي يزور تيرانا للمرة الأولى بين مظاهر تيرانا العمرانية المختلفة ما بين عثمانية وإيطالية وشيوعية وفوضوية ديمقراطية، وربما تحتاج المدينة إلى سنوات أخرى حتى تشكّل هويّتها الخاصة من هذه التركيبة المثيرة للزوّار، حيث يجد كلّ زائر ما يميل إليه ويتعلّق به.
في البلقان، توجد عاصمتان (سراييفو وتيرانا) ارتبطت نشأتهما بالوقف خلال الحكم العثماني. كانت كلّ منهما قرية صغيرة إلى أن بُنيت فيها نواة عمرانية متكاملة (جامع وحمّام وسوق وغير ذلك) من قبل واقِفٍ أدرك أهمية موقعها، وهو ما سرّع تطوّرها من قرية إلى قصبة فمدينة لاحقاً.
بالنسبة إلى تيرانا، تدلّ المكتشفات على آثار رومانية وبيزنطية، ولكن خلال فوضى العصر الوسيط ضاعت تيرانا ولم تبرز من جديد كقرية إلّا في السنوات الأولى للحكم العثماني الذي شمل البلقان؛ فقد ورد ذكرها في وثيقة للبندقية عام 1418 كـ"قرية تيرانا"، بينما جاء أول إحصاء عثماني في 1431 ليكشف عن قرية متواضعة يسكنها حوالي ستّين شخصاً فقط.
كان على هذه القرية أن تنتظر حتى 1614 حين اختارها أحد أبناء المنطقة، سليمان باشا برجيني، ليُنشئ فيها وقفاً يشتمل على نواة عمرانية متكاملة. ومع هذه النواة، بدأ تاريخ تيرانا الحديث في تحوّلها إلى مدينة ببناء المزيد من المنشآت التي كانت تُميّز المدن العثمانية الجديدة في البلقان من جوامع ومدارس وأسواق وقلاع وبيوت كبيرة، أو سرايات للنخبة المحلية الجديدة.
في هذا السياق، بدأ في نهاية القرن الثامن عشر بناء "جامع أدهم بك" الذي انتهى في 1821 بسبب الأعمال الفنية الكثيرة التي تُميّز فضاءه الداخلي، والتي تجعله من أجمل جوامع ألبانيا. وقد بقي - بفضل قيمته الفنية التاريخية - في مكانه وسط "تيرانا الحديثة" كمتحف بعد "الثورة الثقافية" التي اجتاحت ألبانيا بين 1966 و1970، وجرفت الكثير من الجوامع بعدما أُعلنت ألبانيا عام 1967 "أولَ دولة إلحادية في التاريخ".
لكن ألبانيا كانت على موعد آخر في 8 شباط/ فبراير، حين التأم "المجلس الوطني" في مدينة لوشنيا القريبة، وأُعلن اختيار تيرانا "عاصمة مؤقّتة" لـ"ألبانيا المستقلة". صحيح أن الألبان أعلنوا استقلالهم عن الدولة العثمانية في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1912، ولكن اعتراف الدول الكبرى وترسيم الحدود تأخّر حتى 1913، وهي السنة التي شهدت أيضاً تعيين أمير ألماني (ولهلم فون فيد) ملكاً على ألبانيا، واختيار مدينة دورس على الساحل الأدرياتيكي عاصمة للمملكة الجديدة.
إلا أنّ اندلاع الحرب العالمية الأولى جعل هذا الملك يرحل بسرعة عن ألبانيا، إذ تحوّلت إلى "بازار" للدول الكبرى التي تخلّت عنها حسب معاهدة لندن السرية (1915) للدول المجاورة (إيطاليا واليونان وصربيا والجبل الأسود). غير أن الانتفاضة المسلحة في 1919 - 1920 أثمرت عن التئام "المجلس الوطني" في مدينة لوشنيا، وارتأت اختيار عاصمة في الداخل (تيرانا)، عوضاً عن العاصمة الساحلية (دورس) المعرّضة إلى الخطر. وقد تأكّد هذا الخيار بعد استقرار ألبانيا ودخولها "عصبة الأمم" في 1920، حيث أصبحت تيرانا بموجب دستور 1925 عاصمة الدولة.
في ذلك الحين، برزت في ألبانيا شخصية طموحة (أحمد زوغو) تحكّمت بين 1922 و1939 في اختيار هوية جديدة لتيرانا وألبانيا برمّتها. كان زوغو يسبق أو يسابق مصطفى كمال أتاتورك في تركيا في "تخليص" ألبانيا من الإرث العثماني (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني والعمراني)، لتكون جزءاً من الغرب بأسرع وقت. وضمن هذا السياق، استدعى مجموعة من المهندسين الإيطاليين لوضع تصوّر عمراني مختلف لتيرانا. وقد تمّ اختيار جامع أدهم بك، الذي يتميّز بقيمته الفنية، نقطة انطلاق لبناء "تيرانا الجديدة" بشوارع عريضة ومنشآت مختلفة تماماً.
وهكذا بدأ تخطيط الساحة المركزية لتيرانا الجديدة (ساحة إسكندر بك حالياً)، لتُبنى في جوار الجامع المباني الحكومية الجديدة التي اتّخذت طابعاً إيطالياً، ومن ذلك مبنى بلدية تيرانا الملاصق تماماً لجامع أدهم بك. وفي هذا السياق، بُني أول فندق حديث (فندق دايتي) الذي بقي أفخم فندق طيلة العهد الشيوعي لألبانيا (1945 - 1990). وقد استمر هذا "الهوى الإيطالي" بالطبع خلال الاحتلال الإيطالي لألبانيا بين 1939 و1943.
في نهاية 1944، تمكّن "البارتيزان" الذين يقودهم "الحزب الشيوعي الألباني" من دخول تيرانا، لتشهد بدورها موجة جديدة من "التحديث" أطاحت بالكثير من المنشآت العثمانية (بما في ذلك جامع سليمان باشا المؤسّس للمدينة في 1614) لصالح المنشآت الجديدة التي أصبحت تمثّل "ألبانيا الشعبية".
وهكذا هُدم السوق العثماني القديم إلى جوار جامع أدهم بك لترتفع المباني الجديدة التي استلهمت النمط العمراني الموجود في الاتحاد السوفييتي، فبُنيت "دار الأوبرا" و"المكتبة الوطنية" و"المتحف القومي"، كما بُنيت المساكن الجديدة المختلفة، سواء لقادة الحزب والدولة (ما يُسمّى "المجمع" الآن) أو لـ"الجماهير".
بعد "ربيع الديمقراطية" في أوروبا الشرقية، جاء دور ألبانيا في 1990 ليُرغم النظام على القبول بالتعدّدية وبانتخابات ديمقراطية أدّت إلى فوز المعارضة التي دشّنت "الفوضى العمرانية" في كلّ مكان، وكشف عنها أخيراً زلزال دورس في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2019. مع هذه الفوضى العمرانية، اكتسبت تيرانا مشهداً جديداً لعمارات بُنيت على عجل، وبارتفاع شاهق لا تنسجم أبداً مع محيطها، ليزيد بذلك التنوّع العمراني الذي تبدو عليه الآن.
في السنوات الأخيرة، يسعى الحزب الاشتراكي الحاكم (وريث الحزب الشيوعي) ممثلّاً في الحكومة والبلدية إلى ضبط "الفوضى العمرانية"، وتجميل تيرانا بمزيد من المساحات الخضراء والفضاء العام لتكون مسرحاً لأنشطة متنوّعة على مدار العام، ومن ذلك تحويل "هرم أنور خوجا" (الذي كتب عنه إسماعيل كاداريه في روايته "الهرم") إلى فضاء شبابي، وتسويق المدينة باعتبارها "عاصمة التنوّع التاريخي"، و"عاصمة الشمس الدافئة" (2544 ساعة من الشمس المشرقة في السنة)، و"عاصمة الشباب"، إلى غير ذلك.
ما يعكس ذلك هو مصير "المجمّع"، الذي كان يضمّ مساكن قادة الحزب والدولة والذي كان مغلقاً على "الجماهير"، ثمّ أصبح في السنوات الأخيرة مفتوحاً حتى الساعات المتأخّرة بسبب الحيوية التي يتميّز بها مع وجود أحدث المطاعم والمتاجر والمقاهي التي لا تجد فيها "القهوة التركية"، فهذه أصبحت من مخلّفات الماضي ولا تجدها سوى في المقاهي المحيطة بقلعة تيرانا.
وعلى ذكر قلعة تيرانا، التي أخذت شكلها الحالي في القرن الثامن عشر، ويقع في جوارها "القصر الملكي" (يدلّ الآن على مدى تواضع أحمد زوغو)، يلاحظ المرء الآن حركة متأخرّة للاستفادة منها كموقع سياحي جاذب. وكانت القلعة قد شهدت خلال "الفوضى العمرانية" بناء سوق يشتمل على متاجر ومقاه لا علاقة له بمحيطه، بل يشعر المرء بالغربة فيه، بينما كان من الأفضل أن يُبنى فيه سوق على نمط "سوق واقف" في الدوحة.
ومن المأمول الآن أن يجري تفادي ذلك في الأقسام الأخرى للقلعة، على الأقلّ من باب التنوّع التاريخي والثقافي الذي يمكن أن يكون هوية تيرانا الجاذبة للشباب وكبار السن الباحثين عن الدفء المتوسّطي.
* باحث وكاتب كوسوفي سوري