10 نوفمبر 2024
تَدمُر لا تُدَمَّر
للمرة الثانية، تسقط مدينة تدمر بين أيدي "داعش" بطريقة مسرحية، من الصعب أن تنطلي على هواةٍ في ألعاب الحروب، ولكنها ربما انطلت على كثيرين من هواة الآثار. فأشاح جمعٌ منهم ناظريه عن مقتلة حلب، ليهتم بتدمير الظلاميين أوابد المدينة المتبقية، بعد أن أمعنوا فيها فساداً وتخريباً، إبّان زيارتهم الأولى منذ أشهر. لم يسأل هؤلاء القلقون على مصير الموقع الأثري أنفسهم عن سرّ هذا الانتصار السريع، والعودة الأسرع إلى جموعٍ لا تتجاوز المئات، عبروا صحراءً مكشوفةً على متن سيارات الدفع الرباعي، ليصلوا إلى مدينةٍ من المفترض أنها تشكّل رمزاً عسكرياً للقوات السورية، كما لحليفتها وداعمتها، القوات الروسية.
في برنامجٍ إذاعي، كنت أحاور عالماً فرنسياً بآثارها، والذي عبّر بصوتٍ يختلط بالبكاء الصادق، عن حزنه وغضبه وثورته ضد هؤلاء "الهمج" الجهلة. وأشار إلى كتابه الحديث الصادر عن تاريخ المدينة، في نهاية بكائيته البريئة، مروّجاً بالتالي تضامناً كتابياً يُدرُّ الأموال. لم يلتفت الأركيولوجي المحنّك إلى ما هو وراء سقوط تدمر للمرة الثانية، وبالدرجة نفسها من السهولة العسكرية، على الرغم من حمولتها الرمزية العالية. تعلّق بالحجارة، ونسي أن تَدمُر تعني أكثر من مجرد موقع تنقيبٍ يمنح دائماً العاملين في القطاع الأثري الكثير من الرضى الذاتي. رضىً يطوّر لديهم ارتباطاً محموداً في المطلق بمكان العمل. ويكون هذا الارتباط ضعيف المقبولية الأخلاقية، عندما يكون على حساب البعد الجيوسياسي. وعلى الرغم من ادّعاء بعضهم ممن يُدافع عن أنظمةٍ تسلطيةٍ (شريطة أن تتيح له العمل في مواقعها الأثرية) بأن لا باع لهم بالسياسة، ولا يودّون التدخل في محظوراتها، إلا أنهم، وخصوصاً من الأجانب، يتملقون الأنظمة في سبيل أداء عملهم، والاستمتاع به فكرياً ونفسياً، ويتناسون جميع الارتباكات التي تُحيق بالوضع العام الذي يعملون في إطاره.
لم يتطرّق عالم آثار واحد، على علمي، حتى بعد تقاعده، إلى تَدمُر موقع أقسى معتقلٍ عرفته
العقود الأخيرة، بعد أن طويت صفحة مخيمات التصفية النازية. ليس الأمر بالتأكيد متضمناً في المناهج التعليمية لمادة الآثار، ولكنه من الإنساني أن لا يختبئ الأخصائي وراء مادته العلمية، ليمتهن الصمم والعمى والخرس، كالقرود الثلاثة، إزاء ما هو انتهاكٌ فاضحٌ يجري على بعد أمتار من تنقيباته الممتعة.
في حمأة الحزن الآثاري على أوابد المدينة، والتي تُحزِن فعلاً، قام بعض من ضحايا المعتقل السابقين ببناء مجسّم له في مدرسة مهجورة قرب بيروت، وقدّموا فيلماً هو خليطٌ بين الوثائقي والتمثيلي. كان المهجع نموذجاً متقناً على ما كان حقيقةً، كما تفاصيله المتعدّدة. وكانوا يتعاقبون على سرد المحكيات المؤلمة عن سنوات الاعتقال الطويلة، بطريقةٍ لا تخلو من الفكاهة المرّة. علاجٌ فنيٌ أظنه ساعد كثيراً ممن أدّوه في التعامل مع الماضي القاسي، بحمولاته المتعدّدة، ليس لتجاوزه، بل لاعتباره جزءاً من صيرورةٍ لا مناص منها، وعليهم التفاعل مع نتائجها وتوثيقها، لكي تعلم الأجيال المقبلة وتتعلّم.
وفي عرضٍ أقامته مؤسسة أمم للأبحاث، وهي منتجة الفيلم، في العاصمة السويسرية بيرن، حضره معتقلون سابقون من مختلف المشارب الأيديولوجية، تمت دعوتهم في نهايته إلى المسرح، لمحاورة الجمهور السويسري المتأثر بشدة. وفي أول ملاحظةٍ، تبين للعارف أن المنصة حملت أكثر من ستين عاماً اعتقالاً وتعذيباً، مقسّمة على المعتقلين السابقين الخمسة الذين اعتلوها. كما برز، في حديثهم وفي إجاباتهم على الجمهور، أن أيّاً منهم لا يحمل أدنى الرغبة في الانتقام من جلاديه. في المقابل، أجمعوا كلّهم على وجوب معرفة الحقيقة وتناقلها بشكل دقيق. وفي تقديمٍ مؤثّر لزملائه، عرّف أحدهم عمل كلّ منهم في الوقت الحالي وموقعه الاجتماعي، فكان الشاعر العالمي، وكان الأستاذ في أهم جامعة أميركية، وكان المدير لمؤسسة استقصائية، وكان الباحث والكاتب المعروف... وفي هذا التعريف، لم يكن هناك أي بعد نرجسي، بل كانت هناك رغبة إيجابية في جعل الماضي بعيداً من دون نسيانه، كما في "الانتقام" الإنساني والأخلاقي والمهني من جلاديهم (آمرين ومأمورين) الذين كانوا بالتأكيد ممن يكره العلم.
تفاصيل كثيفة حملها الفيلم، كما حملتها سرديات المعتقلين السابقين، منها ما يقطع الأنفاس، كما
منها ما يُضحك القلوب. وبالتأكيد، فكثير من الألم المُعاش تحوّل، بعامل الزمن ونتيجة الرواية المتكرّرة، إلى ابتسامة تروى، مهما كانت عذاباته النفسية والجسدية ما زالت ماثلة.
معتقل تازممرت في المغرب كان من علامات "سنوات الرصاص" التي ميّزت مرحلة طويلة من حكم الملك الحسن الثاني الراحل، والتي تجاوزها المغربيون، عبر مساراتٍ متعدّدة للمصارحة. وقد كُتبت فيه روايات عديدة تُشير إلى أن عذاباته، على أنها لم "ترقَ" إلى عشر ما حملته الروايات القليلة التي حملت لنا شهاداتٍ من معتقل تدمر، كما "القوقعة" لمصطفى خليفة أو "من تدمر إلى هارفرد" لبراء السراج أو "الرجل الذي ابتلع الفأر" لفرج بيرقدار.
ستفخر سورية يوماً بآثارها التي دمّرها أولاً الاستبداد المتزاوج مع الفساد، قبل أن تدمرها ظلاميات إرهابية. كما أن سورية ستفخر، بالتوازي، بذاكرتها المؤلمة التي عاشها جزءٌ لا يُستهان به من شعبها، مباشرة أو بشكل غير مباشر. وستستنبط الأجيال القادمة من هذه التجارب (ربما) طرائق مختلفة لتجاوز القهر والألم، وتسعى إلى العيش المشترك، ولممارسة الحرية عاجلاً أم آجلاً، على الرغم من النكسات.
في برنامجٍ إذاعي، كنت أحاور عالماً فرنسياً بآثارها، والذي عبّر بصوتٍ يختلط بالبكاء الصادق، عن حزنه وغضبه وثورته ضد هؤلاء "الهمج" الجهلة. وأشار إلى كتابه الحديث الصادر عن تاريخ المدينة، في نهاية بكائيته البريئة، مروّجاً بالتالي تضامناً كتابياً يُدرُّ الأموال. لم يلتفت الأركيولوجي المحنّك إلى ما هو وراء سقوط تدمر للمرة الثانية، وبالدرجة نفسها من السهولة العسكرية، على الرغم من حمولتها الرمزية العالية. تعلّق بالحجارة، ونسي أن تَدمُر تعني أكثر من مجرد موقع تنقيبٍ يمنح دائماً العاملين في القطاع الأثري الكثير من الرضى الذاتي. رضىً يطوّر لديهم ارتباطاً محموداً في المطلق بمكان العمل. ويكون هذا الارتباط ضعيف المقبولية الأخلاقية، عندما يكون على حساب البعد الجيوسياسي. وعلى الرغم من ادّعاء بعضهم ممن يُدافع عن أنظمةٍ تسلطيةٍ (شريطة أن تتيح له العمل في مواقعها الأثرية) بأن لا باع لهم بالسياسة، ولا يودّون التدخل في محظوراتها، إلا أنهم، وخصوصاً من الأجانب، يتملقون الأنظمة في سبيل أداء عملهم، والاستمتاع به فكرياً ونفسياً، ويتناسون جميع الارتباكات التي تُحيق بالوضع العام الذي يعملون في إطاره.
لم يتطرّق عالم آثار واحد، على علمي، حتى بعد تقاعده، إلى تَدمُر موقع أقسى معتقلٍ عرفته
في حمأة الحزن الآثاري على أوابد المدينة، والتي تُحزِن فعلاً، قام بعض من ضحايا المعتقل السابقين ببناء مجسّم له في مدرسة مهجورة قرب بيروت، وقدّموا فيلماً هو خليطٌ بين الوثائقي والتمثيلي. كان المهجع نموذجاً متقناً على ما كان حقيقةً، كما تفاصيله المتعدّدة. وكانوا يتعاقبون على سرد المحكيات المؤلمة عن سنوات الاعتقال الطويلة، بطريقةٍ لا تخلو من الفكاهة المرّة. علاجٌ فنيٌ أظنه ساعد كثيراً ممن أدّوه في التعامل مع الماضي القاسي، بحمولاته المتعدّدة، ليس لتجاوزه، بل لاعتباره جزءاً من صيرورةٍ لا مناص منها، وعليهم التفاعل مع نتائجها وتوثيقها، لكي تعلم الأجيال المقبلة وتتعلّم.
وفي عرضٍ أقامته مؤسسة أمم للأبحاث، وهي منتجة الفيلم، في العاصمة السويسرية بيرن، حضره معتقلون سابقون من مختلف المشارب الأيديولوجية، تمت دعوتهم في نهايته إلى المسرح، لمحاورة الجمهور السويسري المتأثر بشدة. وفي أول ملاحظةٍ، تبين للعارف أن المنصة حملت أكثر من ستين عاماً اعتقالاً وتعذيباً، مقسّمة على المعتقلين السابقين الخمسة الذين اعتلوها. كما برز، في حديثهم وفي إجاباتهم على الجمهور، أن أيّاً منهم لا يحمل أدنى الرغبة في الانتقام من جلاديه. في المقابل، أجمعوا كلّهم على وجوب معرفة الحقيقة وتناقلها بشكل دقيق. وفي تقديمٍ مؤثّر لزملائه، عرّف أحدهم عمل كلّ منهم في الوقت الحالي وموقعه الاجتماعي، فكان الشاعر العالمي، وكان الأستاذ في أهم جامعة أميركية، وكان المدير لمؤسسة استقصائية، وكان الباحث والكاتب المعروف... وفي هذا التعريف، لم يكن هناك أي بعد نرجسي، بل كانت هناك رغبة إيجابية في جعل الماضي بعيداً من دون نسيانه، كما في "الانتقام" الإنساني والأخلاقي والمهني من جلاديهم (آمرين ومأمورين) الذين كانوا بالتأكيد ممن يكره العلم.
تفاصيل كثيفة حملها الفيلم، كما حملتها سرديات المعتقلين السابقين، منها ما يقطع الأنفاس، كما
معتقل تازممرت في المغرب كان من علامات "سنوات الرصاص" التي ميّزت مرحلة طويلة من حكم الملك الحسن الثاني الراحل، والتي تجاوزها المغربيون، عبر مساراتٍ متعدّدة للمصارحة. وقد كُتبت فيه روايات عديدة تُشير إلى أن عذاباته، على أنها لم "ترقَ" إلى عشر ما حملته الروايات القليلة التي حملت لنا شهاداتٍ من معتقل تدمر، كما "القوقعة" لمصطفى خليفة أو "من تدمر إلى هارفرد" لبراء السراج أو "الرجل الذي ابتلع الفأر" لفرج بيرقدار.
ستفخر سورية يوماً بآثارها التي دمّرها أولاً الاستبداد المتزاوج مع الفساد، قبل أن تدمرها ظلاميات إرهابية. كما أن سورية ستفخر، بالتوازي، بذاكرتها المؤلمة التي عاشها جزءٌ لا يُستهان به من شعبها، مباشرة أو بشكل غير مباشر. وستستنبط الأجيال القادمة من هذه التجارب (ربما) طرائق مختلفة لتجاوز القهر والألم، وتسعى إلى العيش المشترك، ولممارسة الحرية عاجلاً أم آجلاً، على الرغم من النكسات.