ثقافة التأخر وتأخر الثقافة
أحمد ناصر (مصر)
في مجتمعاتنا العربية، يوجد ما لا يُحصى من العوامل التي يجب إزالتها، لنتمكن من تعبيد الطريق للنهوض. لكن، أحب أن أناقش ثلاثة منها، أراها من الأهمية بمكان لإفرادها بالبحث وهي: ثقافة المغالاة في المهور، ثقافة السرقة، وثقافة الرشوة.
لكن، كيف تكون مثل هذه الأمور السلبية ثقافة؟ بل ماذا تعني الثقافة أصلاً؟.
يقول المفكر مالك بن نبي، في كتابه "مشكلة الثقافة" إن الأخيرة تعني "مجموعة من الصفات الخُلقية والقيم الإجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لاشعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي وُلد فيه".
وعلى هذا، فإن رد الفعل المتكرر من أفراد مجتمع إزاء قضية معينة من قضاياه يعتبر ثقافة. والمدقق في حال الأمة العربية لا يخفي عليه تفشي هذه الثلاثية السلبية، حد وصولها إلى ظاهرة تفتك بالمجتمعات، ولهذا فهي ظواهر ثقافية، تنخر بمخالبها في البنيان الثقافي العربي.
من المسلم به أنّ نهضة الأمم تقوم على أكتاف شبابها، وأمة تعين نوائب الدهر على شبابها وتدفعهم دفعاً إلى التقوقع والكفر بالحياة لهي أحرى بأن تكون في ذيل الأمم، لكن الأمم تستقي شخصيتها الإعتبارية من مجموع أبنائها الذين يشكلونها ويتشكلون معها، فالفرد في المجتمع مفعول به في المقام الأول، ثم فاعلاً تتهافت عليه الموروثات الثقافية، لتكبله من كل اتجاه، محاولة كسر إرادته لتدجينه، وجعله مجرّد رقم وسط غثاء كغثاء السيل. وما ذاك إلا أثر الثقافة على الفرد والمجتمع. ومن القوانين البشرية التي لا تتغير أنّ بعضنا يخلّف بعضاً، ويرثه مالاً وخلقاً وخُلقاً وظروفاً معيشية، حتى الأفكار نتوارثها أجيالاً ونتحمل تبعاتها، حتى وإن لم نكن من المؤيدين لها.
وهنا أستعين بكلمات مالك مجدّداً، لأحدد ما ينبغي علينا فعله إزاء ذلك، حيث يقول "من أول واجباتنا تصفية عاداتنا وتقاليدنا وإطارنا الخُلقي والاجتماعي مما فيه من عوامل قتالة، ورمم لا فائدة منها، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية للحياة، ولن تتأتى هذه التصفية إلا بفكر جديد، يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع يبحث عن وضع جديد هو وضع النهضة".
من أول هذه الأمور التي يجب تصفيتها من عاداتنا هي عادة المغالاة في المهور، والتي لا تحتاج للحكومات، بل يمكن للأفراد أن يتغلبوا عليها إن هم أرادوا ذلك. لست أحتاج إلى الاحتكام للأرقام لإثبات أننا على حافّة خراب مجتمعي، بسبب الاضطراب النفسي الذي يتعرض له الملايين من الشباب الذين تعدّوا سن الزواج، نراهم ونسمع أنينهم، ولا نحرّك ساكناً. في الوقت الذي نتمنى أن نتقدم مثل الغرب، إلا أننا نتعمد التخلف عن ركب حضارتهم، حين نعطل إمكانات الشباب الذي نعطل إبداعه عن طريق إشغاله بأساسيات الحياة، فهو يعمل ليل نهار، ولا يستطيع تحقيقها. أحب أن أذكر أن بناتنا ونساءنا لسن سلعةً نتاجر بها، إذ ندّعي كذباً أننا نحفظ حقهن في الوقت الذي ندمرهن وقد ندفعهن نحو الخطأ، وأن البركة الحقيقية هي في جعل المهور أموراً رمزية، وأن التيسير والبساطة من ثقافة التقدّم، وأن التعقيد والمظاهر دليل علي الإنحطاط الثقافي، دعونا ننفصل عن رواسب الماضي لنصل إلى حياة كريمة ثقافتها البساطة والتيسير علي الشباب.
من الرمم التي يجب دفنها في مجتمعاتنا، ثقافة الرشوة، التي أصبحت سلوكاً عادياً للفرد العربي ناتجة من رد فعله الثقافي إزاء قضايا مثل تدني الأجور أو عدم الرقابة والفساد الإداري. رغم اللعنات التي تتبع المرتشي أينما ذهب، إلا أن سلوك الراشي من حيث الخضوع لشروط المرتشي هو ما يدفعه للخوض وللتبجح أكثر. قد تضيع بعض المصالح إن قرر الفرد أن يقف في وجه المرتشي، لكن العائد المجتمعي الكبير من الوقوف في وجه المرتشين ثمرته سيتلذذ بها الجميع.
ماذا لو توقفنا عن تعطيل مصالح الناس؟ أليس لنا عندهم مصالح أيضاً؟ أليس في ثقافتنا أن قضاء مصالح الناس أفضل من الاعتكاف في المساجد؟ كيف نرضي بالدنيا ونقبل بمال سحت نطعمه أولادنا؟ حقوق الناس نضيعها حين نعطي من لا يستحق ما لا يستحق، فقط مقابل دراهم ستكون حتماً سبباً في خراب مجتمعنا، ونحن من مجتمعنا كالسمك من الماء، نموت إن فسد.
وأما ثالثة الموت، التي لن نرى نور الحضارة سوى بالتغلب عليها؛ هي ثقافة سرقة الأموال العامة. فبسبب تلك الثقافة المشؤومة، أصبحت المجتمعات العربية تعاني من نقص رهيب في الموارد اللازمة لتمويل مشروعات تقوّي من دعائم الاقتصاد وتوفر فرص عمل للشباب الذي أصبح في حالة تيه بسبب بحث عن عمل لا يجده فيصبح عبئاً علي نفسه وعائلته ومجتمعه.
إنّ فقرنا الحقيقي ليس فقر موارد أو قدرات بقدر ما هو فقر ثقافة تُصحح مسارنا الأخلاقي، فتجعل أحدنا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويعرف للآخر حقه فيحفظ عليه ماله ونفسه.
ختاماً، قد تنقصنا المعرفة التي تجعلنا في مصاف الدول، لكن لا تنقصنا المعرفة لنتقدم، وإنما تنقصنا الثقافة التي تهيئ الحالة المجتمعية للتقدم، فالثقافة نظرية في السلوك أكثر منها نظرية في المعرفة.
لكن، كيف تكون مثل هذه الأمور السلبية ثقافة؟ بل ماذا تعني الثقافة أصلاً؟.
يقول المفكر مالك بن نبي، في كتابه "مشكلة الثقافة" إن الأخيرة تعني "مجموعة من الصفات الخُلقية والقيم الإجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لاشعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي وُلد فيه".
وعلى هذا، فإن رد الفعل المتكرر من أفراد مجتمع إزاء قضية معينة من قضاياه يعتبر ثقافة. والمدقق في حال الأمة العربية لا يخفي عليه تفشي هذه الثلاثية السلبية، حد وصولها إلى ظاهرة تفتك بالمجتمعات، ولهذا فهي ظواهر ثقافية، تنخر بمخالبها في البنيان الثقافي العربي.
من المسلم به أنّ نهضة الأمم تقوم على أكتاف شبابها، وأمة تعين نوائب الدهر على شبابها وتدفعهم دفعاً إلى التقوقع والكفر بالحياة لهي أحرى بأن تكون في ذيل الأمم، لكن الأمم تستقي شخصيتها الإعتبارية من مجموع أبنائها الذين يشكلونها ويتشكلون معها، فالفرد في المجتمع مفعول به في المقام الأول، ثم فاعلاً تتهافت عليه الموروثات الثقافية، لتكبله من كل اتجاه، محاولة كسر إرادته لتدجينه، وجعله مجرّد رقم وسط غثاء كغثاء السيل. وما ذاك إلا أثر الثقافة على الفرد والمجتمع. ومن القوانين البشرية التي لا تتغير أنّ بعضنا يخلّف بعضاً، ويرثه مالاً وخلقاً وخُلقاً وظروفاً معيشية، حتى الأفكار نتوارثها أجيالاً ونتحمل تبعاتها، حتى وإن لم نكن من المؤيدين لها.
وهنا أستعين بكلمات مالك مجدّداً، لأحدد ما ينبغي علينا فعله إزاء ذلك، حيث يقول "من أول واجباتنا تصفية عاداتنا وتقاليدنا وإطارنا الخُلقي والاجتماعي مما فيه من عوامل قتالة، ورمم لا فائدة منها، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية للحياة، ولن تتأتى هذه التصفية إلا بفكر جديد، يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع يبحث عن وضع جديد هو وضع النهضة".
من أول هذه الأمور التي يجب تصفيتها من عاداتنا هي عادة المغالاة في المهور، والتي لا تحتاج للحكومات، بل يمكن للأفراد أن يتغلبوا عليها إن هم أرادوا ذلك. لست أحتاج إلى الاحتكام للأرقام لإثبات أننا على حافّة خراب مجتمعي، بسبب الاضطراب النفسي الذي يتعرض له الملايين من الشباب الذين تعدّوا سن الزواج، نراهم ونسمع أنينهم، ولا نحرّك ساكناً. في الوقت الذي نتمنى أن نتقدم مثل الغرب، إلا أننا نتعمد التخلف عن ركب حضارتهم، حين نعطل إمكانات الشباب الذي نعطل إبداعه عن طريق إشغاله بأساسيات الحياة، فهو يعمل ليل نهار، ولا يستطيع تحقيقها. أحب أن أذكر أن بناتنا ونساءنا لسن سلعةً نتاجر بها، إذ ندّعي كذباً أننا نحفظ حقهن في الوقت الذي ندمرهن وقد ندفعهن نحو الخطأ، وأن البركة الحقيقية هي في جعل المهور أموراً رمزية، وأن التيسير والبساطة من ثقافة التقدّم، وأن التعقيد والمظاهر دليل علي الإنحطاط الثقافي، دعونا ننفصل عن رواسب الماضي لنصل إلى حياة كريمة ثقافتها البساطة والتيسير علي الشباب.
من الرمم التي يجب دفنها في مجتمعاتنا، ثقافة الرشوة، التي أصبحت سلوكاً عادياً للفرد العربي ناتجة من رد فعله الثقافي إزاء قضايا مثل تدني الأجور أو عدم الرقابة والفساد الإداري. رغم اللعنات التي تتبع المرتشي أينما ذهب، إلا أن سلوك الراشي من حيث الخضوع لشروط المرتشي هو ما يدفعه للخوض وللتبجح أكثر. قد تضيع بعض المصالح إن قرر الفرد أن يقف في وجه المرتشي، لكن العائد المجتمعي الكبير من الوقوف في وجه المرتشين ثمرته سيتلذذ بها الجميع.
ماذا لو توقفنا عن تعطيل مصالح الناس؟ أليس لنا عندهم مصالح أيضاً؟ أليس في ثقافتنا أن قضاء مصالح الناس أفضل من الاعتكاف في المساجد؟ كيف نرضي بالدنيا ونقبل بمال سحت نطعمه أولادنا؟ حقوق الناس نضيعها حين نعطي من لا يستحق ما لا يستحق، فقط مقابل دراهم ستكون حتماً سبباً في خراب مجتمعنا، ونحن من مجتمعنا كالسمك من الماء، نموت إن فسد.
وأما ثالثة الموت، التي لن نرى نور الحضارة سوى بالتغلب عليها؛ هي ثقافة سرقة الأموال العامة. فبسبب تلك الثقافة المشؤومة، أصبحت المجتمعات العربية تعاني من نقص رهيب في الموارد اللازمة لتمويل مشروعات تقوّي من دعائم الاقتصاد وتوفر فرص عمل للشباب الذي أصبح في حالة تيه بسبب بحث عن عمل لا يجده فيصبح عبئاً علي نفسه وعائلته ومجتمعه.
إنّ فقرنا الحقيقي ليس فقر موارد أو قدرات بقدر ما هو فقر ثقافة تُصحح مسارنا الأخلاقي، فتجعل أحدنا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويعرف للآخر حقه فيحفظ عليه ماله ونفسه.
ختاماً، قد تنقصنا المعرفة التي تجعلنا في مصاف الدول، لكن لا تنقصنا المعرفة لنتقدم، وإنما تنقصنا الثقافة التي تهيئ الحالة المجتمعية للتقدم، فالثقافة نظرية في السلوك أكثر منها نظرية في المعرفة.