06 نوفمبر 2024
ثلاثي الأقطاب وهجين
فيما كان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يلقي خطابا في عرض عسكري نادر، بمناسبة عيد الاستقلال، يشد فيه عصب مواطنيه، في بلد لعب فيه اللون، وليس القومية، الدور الرئيس في تحديد ملامح شخصيته، نشر موقع CNBC الإخباري مقالا، بمناسبة احتفال الأميركيين بمولد أمتهم قبل 243 عاما، تناول التحولات الكبرى التي يشهدها النظام الدولي، وموقع أميركا فيه. يقول المقال إن حجم اقتصادات الدول غير الديموقراطية في العالم (الصين، روسيا، السعودية .. إلخ) سوف يتجاوز خلال خمس سنوات، إذا استمرّت معدلات النمو الحالية، حجم اقتصادات الدول الديموقراطية (أوروبا وأميركا واليابان) التي تشكل اليوم أكثر قليلا من نصف الاقتصاد العالمي، بحسب تقرير صدر أخيرا عن صندوق النقد الدولي. تزامناً، نشرت مجلة فورين بوليسي مقالًا، لاحظت فيه أن دول الغرب واليابان كانت تستأثر، حتى الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بثلثي الاقتصاد العالمي، وأن الدول التي توصف بأنها "غير حرّة" بحسب منظمة "فريدوم هاوس" كانت تمثل حتى عام 1990 نحو 12% فقط من الاقتصاد العالمي، أما اليوم فقد باتت تتحكم بثلث الاقتصاد العالمي، وسوف تتجاوز النصف خلال السنوات الخمس المقبلة.
الاستنتاج الذي لم تملك "فورين بوليسي" الشجاعة أو العمق للتصريح به هو أنه في وقتٍ تصبح فيه الديموقراطيات أقل غنى، وتتضاءل قدرتها على تلبية احتياجات مجتمعاتها من الخدمات ووسائل الرفاهية، تصبح الدول ذات النظم الأوتوقراطية أكثر غنىً، من دون ظهور ما يؤشر الى إمكانية تحولها نحو الديموقراطية. ويشكل هذا الاستنتاج تحدّيا كبيرا لأدبيات التحول الديموقراطي التي ترى أن تحول الأوتوقراطيات إلى ديموقراطياتٍ يتزايد بازدياد معدلات الثراء، وارتفاع مستوى المعيشة، وتوسع الطبقة الوسطى، وهو ما حصل في إسبانيا والبرتغال واليونان وكوريا الجنوبية في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. في بلد مثل الصين، تسير الأمور في الاتجاه المعاكس تماما، وليس أن الصين لا تتجه نحو الديموقراطية، على الرغم من أنها تصبح أكثر غنى، بل هي تشهد، وهذا الأسوأ، تحولا داخل نطاق النظام الاستبدادي نفسه، من نظام شمولي قائم على حكم الحزب الواحد والقيادة الجماعية، إلى نظام الحكم الفردي القائم على عبادة الفرد وتركيز السلطات بيده، لنصبح أمام نموذج أيديولوجي غير مسبوق في التاريخ، نظام هجين ناتج عن التزاوج بين الرأسمالية واقتصاد السوق، ونظام سياسي أوتوقراطي، ينذر صعوده بصدام عالمي كبير.
هذا يعني أن الرئيس ترامب، وإن حاول تخفيف حدة التوتر مع الصين خلال قمة العشرين في أوساكا الشهر الماضي لأسباب مرتبطة بحملة إعادة انتخابه، إلا أنه بات واضحا أن العالم دخل مجدّدا في أتون صراع أيديولوجي، وجيو- سياسي شبيه بالذي كان سائدا خلال الحرب الباردة، وإن كانت طبيعته هذه المرة أعقد، ونتائجه غير واضحة لسببين: الأول أن الصين باتت تقدم نموذجا في الحكم والإدارة تزداد جاذبيته، بسبب نجاحاته الاقتصادية وتطوره الصناعي والتكنولوجي الكبير. والثاني، أن النظام الدولي أخذ يتحوّل إلى نظام ثلاثي القطبية، بدلا من نظام ثنائي القطبية الذي ساد في الحرب الباردة. وهو أمر بدا واضحا في إعلان الرئيس ترامب، في شهر فبراير/ شباط الماضي، انسحابه من معاهدة الحد من الأسلحة النووية المتوسطة المدى لعام 1987، مع روسيا، ودعوته إلى أن تتحول الاتفاقية من ثنائية إلى ثلاثية تضم الصين. إذ من غير المعقول، بحسب ترامب، أن تخفض روسيا والولايات المتحدة قدراتهما العسكرية الاستراتيجية، في الوقت الذي تستمر فيه الصين بتطوير قدراتها.
كان صعود الصين خلال العقود الأربعة الماضية، منذ إصلاحات دينغ سياو بينغ عام 1978 غير مسبوق في التاريخ المعاصر، إذ تضاعف حجم اقتصادها أربع مرات في أقل من عقدين (من 1,9 إلى 8,3 تريليونات دولار بين 1998-2014 وصولا إلى 13,5 تريليونا اليوم)، وارتفع إنفاقها العسكري من 2,2% إلى 12,2% من الإنفاق العالمي على الدفاع بين عامي 1994-2015. صعود الأوتوقراطيات بقيادة الصين، وتقاربها مع روسيا، يلقى ظلالا ثقيلة على نظام ما بعد الحرب الباردة الذي قادته أميركا، وبوجود هذا المزيج الغريب: نظام ثلاثي الأقطاب من جهة، وهجين أيديولوجيا من جهة ثانية، ستكون التداعيات كبيرة، خصوصا في منطقتنا الهشّة.
الاستنتاج الذي لم تملك "فورين بوليسي" الشجاعة أو العمق للتصريح به هو أنه في وقتٍ تصبح فيه الديموقراطيات أقل غنى، وتتضاءل قدرتها على تلبية احتياجات مجتمعاتها من الخدمات ووسائل الرفاهية، تصبح الدول ذات النظم الأوتوقراطية أكثر غنىً، من دون ظهور ما يؤشر الى إمكانية تحولها نحو الديموقراطية. ويشكل هذا الاستنتاج تحدّيا كبيرا لأدبيات التحول الديموقراطي التي ترى أن تحول الأوتوقراطيات إلى ديموقراطياتٍ يتزايد بازدياد معدلات الثراء، وارتفاع مستوى المعيشة، وتوسع الطبقة الوسطى، وهو ما حصل في إسبانيا والبرتغال واليونان وكوريا الجنوبية في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. في بلد مثل الصين، تسير الأمور في الاتجاه المعاكس تماما، وليس أن الصين لا تتجه نحو الديموقراطية، على الرغم من أنها تصبح أكثر غنى، بل هي تشهد، وهذا الأسوأ، تحولا داخل نطاق النظام الاستبدادي نفسه، من نظام شمولي قائم على حكم الحزب الواحد والقيادة الجماعية، إلى نظام الحكم الفردي القائم على عبادة الفرد وتركيز السلطات بيده، لنصبح أمام نموذج أيديولوجي غير مسبوق في التاريخ، نظام هجين ناتج عن التزاوج بين الرأسمالية واقتصاد السوق، ونظام سياسي أوتوقراطي، ينذر صعوده بصدام عالمي كبير.
هذا يعني أن الرئيس ترامب، وإن حاول تخفيف حدة التوتر مع الصين خلال قمة العشرين في أوساكا الشهر الماضي لأسباب مرتبطة بحملة إعادة انتخابه، إلا أنه بات واضحا أن العالم دخل مجدّدا في أتون صراع أيديولوجي، وجيو- سياسي شبيه بالذي كان سائدا خلال الحرب الباردة، وإن كانت طبيعته هذه المرة أعقد، ونتائجه غير واضحة لسببين: الأول أن الصين باتت تقدم نموذجا في الحكم والإدارة تزداد جاذبيته، بسبب نجاحاته الاقتصادية وتطوره الصناعي والتكنولوجي الكبير. والثاني، أن النظام الدولي أخذ يتحوّل إلى نظام ثلاثي القطبية، بدلا من نظام ثنائي القطبية الذي ساد في الحرب الباردة. وهو أمر بدا واضحا في إعلان الرئيس ترامب، في شهر فبراير/ شباط الماضي، انسحابه من معاهدة الحد من الأسلحة النووية المتوسطة المدى لعام 1987، مع روسيا، ودعوته إلى أن تتحول الاتفاقية من ثنائية إلى ثلاثية تضم الصين. إذ من غير المعقول، بحسب ترامب، أن تخفض روسيا والولايات المتحدة قدراتهما العسكرية الاستراتيجية، في الوقت الذي تستمر فيه الصين بتطوير قدراتها.
كان صعود الصين خلال العقود الأربعة الماضية، منذ إصلاحات دينغ سياو بينغ عام 1978 غير مسبوق في التاريخ المعاصر، إذ تضاعف حجم اقتصادها أربع مرات في أقل من عقدين (من 1,9 إلى 8,3 تريليونات دولار بين 1998-2014 وصولا إلى 13,5 تريليونا اليوم)، وارتفع إنفاقها العسكري من 2,2% إلى 12,2% من الإنفاق العالمي على الدفاع بين عامي 1994-2015. صعود الأوتوقراطيات بقيادة الصين، وتقاربها مع روسيا، يلقى ظلالا ثقيلة على نظام ما بعد الحرب الباردة الذي قادته أميركا، وبوجود هذا المزيج الغريب: نظام ثلاثي الأقطاب من جهة، وهجين أيديولوجيا من جهة ثانية، ستكون التداعيات كبيرة، خصوصا في منطقتنا الهشّة.