24 أكتوبر 2024
ثنائيات قاتلة
لخص وزير الخارجية الروسي المربّع اللغة والأفكار، والفظ التعابير، الإنجاز الروسي الكبير، بالقول إن الولايات المتحدة قد اقتنعت أخيراً بأن الدكتاتوريين العرب (الذين غادروا، والذين ما زالوا أحياءَ يَقتُلون، وعدّدَهم بالاسم) أفضل من الإرهاب الإسلامي.
لا يعود إجمال السياسي أفكاره بهذا الإيجاز لشح في المفردات فحسب، بل أيضاً لفقر مدقع في الأفكار. إنه يجمل الخلافات والتمايزات والصراعات في المنطقة العربية بزعماء دول يسميهم بالاسم من جهة، وإرهاب إسلامي من جهة أخرى، فلا وجود في عالمه المسطح لأنظمة استبداد، ولا مجتمعات وشعوب، ولا تيارات سياسية.
المهم بالنسبة لوزير بوتين هذا هو اقتناع أميركا بهذه الثنائية الضدية، وبأفضلية أحد طرفيها على الآخر، فقناعة روسيا بها معروفة، إذ دعمت الدكتاتوريات على أنواعها. وقد تألفت الشعوب وحركتها في الماضي من شعاراتٍ رفعها النظام السوفييتي أيديولوجية تبريرية لنظام ديكتاتوري شمولي. وقد زال ذلك النظام الشمولي، وبقيت الدكتاتورية في روسيا هي السائدة، ولكن من دون أوهام الشعوب والجماهير والثورات، وبحكم فردي سلطوي، يضمر لها احتقارا شديداً. القناعات الروسية المذكورة أعلاه لا تغيّر من أمر المنطقة العربية شيئاً، إذا رفضت أميركا هذا التبسيط الفظ. لذلك، كان على روسيا أن تنتظر اقتناع أميركا بها، أو تتبنى على الأقل موقفاً محايداً إزاء تدخل روسي يطبق هذه المعادلة الرهيبة، ويستعيد دور روسيا الدولي، بواسطة سفك الدماء العربية.
والتطبيق جار بالقصف الشامل من الجو ضد كل القوى التي تعارض الدكتاتورية، ويشمل ذلك في عقلية القياصرة وخانات المغول كل ما تبقى من المدن والبلدات والقرى التي تقيم فيها هذه القوى، فبحكم الثنائية أعلاه، تصنف هذه كلها إرهاباً إسلامياً. وليس التصنيف نظرياً، ولا يجري الفرز بمبضع الجراح، بل تجريه القاذفات بحممها التي تحرق كل ما هو ليس تابعاً لمعسكر الدكتاتور باسمه الشخصي، أي كل ما ليس من معسكر فلان.
يتساءل المرء، ماذا يعني الناس عموماً بالنسبة لهؤلاء؟ إنهم، في أفضل الحالات، موضوع صراع للسيطرة عليهم. وفي هذا الصراع، تسقط ضحايا، هي في الحقيقة "أضرار جانبية"، وهي ليست جانبية من حيث حجمها، بل من حيث أهميتها، إذ قد تكون "الأضرار الجانبية" من القصف الروسي جسيمة جداً، يفوق حجمها هدف القصف نفسه. وفي بلد كروسيا، لا توجد حساسية خاصة لسقوط الضحايا من المدنيين، ففيها لا يُستقبل لاجئون، ولا وجود لإعلام بديل يعرضها، ولا منظمات حقوق إنسان، ولا عملية انتخابية حقيقية تحاسب المجرمين. وفي أسوأ الحالات، يُعتبر الناس المعرّضون للقصف حاضنة اجتماعية وبيئة إرهابية ممكنة، وهم بالتالي ضحايا غير مأسوف عليها.
هذا ما يستحقه العرب، والشرقيون عموماً، من منظور عقلٍ عنصري استعماري بغيض. يتحالف اليمين المتطرف في الغرب مع الدكتاتوريات العربية، لأن القوة هي اللغة التي يفهمها العرب، ولا سبيل آخر لضبطهم سوى الفرد المستبد. ولا ينقص عرب يروّجون هذه النظرة العنصرية. (أما إسرائيل فيحترم نظامها، ويجري التحالف معه كما هو، وتكمل روسيا هنا تقليداً قائماً. فقد دعم الاتحاد السوفييتي إسرائيل ضد العرب عام 1948 كقوة واعدة بنظام اشتراكي عمالي "تقدمي"، في مقابل الملكيات العربية التابعة لبريطانيا، إلى أن اختارت إسرائيل التحالف الرابح مع الغرب، بلغة بن غوريون، في نظام القطبين السائد إبّان الحرب الباردة، فعندها تحول السوفييت إلى دعم العرب في سياق الصراع مع بريطانيا وفرنسا، ثم مع أميركا).
إذا كان العالم العربي منقسما بين دكتاتور من جهة، وإرهاب من جهة أخرى، فماذا يفعل المواطن العربي المتوسط الذي تتجاوز مصالحه وتطلعاته، وحتى بنيته النفسية والذهنية هذا وذاك، والذي نعتقد، جازمين، أنه يسخر من ثنائيات لافروف القاتلة؟ لا مكان للمواطن العربي في المعادلة أعلاه، عليه أن يختفي من الصورة، أن ينتظر نتائج القصف حابساً قهره؛ أو ينصاع للثنائية هذه، فإما أن يدفعه الغضب على الجريمة إلى أقصى الانتقام، أو يدفعه الخوف منها إلى القبول بالدكتاتور الفرد، والخضوع لما يتطلبه بقاؤه من فساد واستبداد وانتهاكات لكرامة البشر وأجسادهم.
لقد جنت القوى المتطرفة على تطلعات الناس التي خرجت في ثورةٍ على الاستبداد، فهذه القوى تشبه الاستبداد في إخضاعها كل شيء لهدف واحد، يقع ما وراء الخير والشر، وبالتالي، ترتكب ما شاءت من جرائم، لأن أفعالها لا تقع تحت طائلة الحكم الأخلاقي. وهي تجني عليها أيضا على مستوى الرأي العام، بتسهيل تمرير الثنائية أعلاه، فتسهّل على قوى، مثل روسيا، أن تكسب صمت العالم على تنفيذها المهام القذرة نيابة عنه، وهو الدور الذي تحلم به دولة تتألف صادراتها الرئيسية من السلاح والنفط.
لا يمكن الخروج من طائلة هذه الثنائية القاتلة، من دون نبذ هذه القوى المتطرفة، ولكن التسليم بالدكتاتورية هو انتصار لهذه الثنائية. تتطلع الكثرة الكاثرة من المواطنين العرب إلى نظام حكم عادل وتعددي ينصفها، أو يأتي على قدر تضحياتها العظيمة على الأقل. ومشكلة النخب العربية المعارضة أنها، حين تتنافس فيما بينها، تنسى هذه الحقيقة الأساسية، التي فيها تكمن هزيمة الثنائية المدمرة لبلداننا ومجتمعاتنا. تطلعات الشعوب العربية وتضحياتها في سبيل الحرية والكرامة أمانة في أعناق النخب السياسية والثقافية والمسلحة التي تمثل الأكثرية ضد الاستبداد، بوجهيه الدكتاتور والإرهاب. وهذا فقط ما يجعل الخيار الكامن في الثنائية أعلاه وهمياً.
لا يعود إجمال السياسي أفكاره بهذا الإيجاز لشح في المفردات فحسب، بل أيضاً لفقر مدقع في الأفكار. إنه يجمل الخلافات والتمايزات والصراعات في المنطقة العربية بزعماء دول يسميهم بالاسم من جهة، وإرهاب إسلامي من جهة أخرى، فلا وجود في عالمه المسطح لأنظمة استبداد، ولا مجتمعات وشعوب، ولا تيارات سياسية.
المهم بالنسبة لوزير بوتين هذا هو اقتناع أميركا بهذه الثنائية الضدية، وبأفضلية أحد طرفيها على الآخر، فقناعة روسيا بها معروفة، إذ دعمت الدكتاتوريات على أنواعها. وقد تألفت الشعوب وحركتها في الماضي من شعاراتٍ رفعها النظام السوفييتي أيديولوجية تبريرية لنظام ديكتاتوري شمولي. وقد زال ذلك النظام الشمولي، وبقيت الدكتاتورية في روسيا هي السائدة، ولكن من دون أوهام الشعوب والجماهير والثورات، وبحكم فردي سلطوي، يضمر لها احتقارا شديداً. القناعات الروسية المذكورة أعلاه لا تغيّر من أمر المنطقة العربية شيئاً، إذا رفضت أميركا هذا التبسيط الفظ. لذلك، كان على روسيا أن تنتظر اقتناع أميركا بها، أو تتبنى على الأقل موقفاً محايداً إزاء تدخل روسي يطبق هذه المعادلة الرهيبة، ويستعيد دور روسيا الدولي، بواسطة سفك الدماء العربية.
والتطبيق جار بالقصف الشامل من الجو ضد كل القوى التي تعارض الدكتاتورية، ويشمل ذلك في عقلية القياصرة وخانات المغول كل ما تبقى من المدن والبلدات والقرى التي تقيم فيها هذه القوى، فبحكم الثنائية أعلاه، تصنف هذه كلها إرهاباً إسلامياً. وليس التصنيف نظرياً، ولا يجري الفرز بمبضع الجراح، بل تجريه القاذفات بحممها التي تحرق كل ما هو ليس تابعاً لمعسكر الدكتاتور باسمه الشخصي، أي كل ما ليس من معسكر فلان.
يتساءل المرء، ماذا يعني الناس عموماً بالنسبة لهؤلاء؟ إنهم، في أفضل الحالات، موضوع صراع للسيطرة عليهم. وفي هذا الصراع، تسقط ضحايا، هي في الحقيقة "أضرار جانبية"، وهي ليست جانبية من حيث حجمها، بل من حيث أهميتها، إذ قد تكون "الأضرار الجانبية" من القصف الروسي جسيمة جداً، يفوق حجمها هدف القصف نفسه. وفي بلد كروسيا، لا توجد حساسية خاصة لسقوط الضحايا من المدنيين، ففيها لا يُستقبل لاجئون، ولا وجود لإعلام بديل يعرضها، ولا منظمات حقوق إنسان، ولا عملية انتخابية حقيقية تحاسب المجرمين. وفي أسوأ الحالات، يُعتبر الناس المعرّضون للقصف حاضنة اجتماعية وبيئة إرهابية ممكنة، وهم بالتالي ضحايا غير مأسوف عليها.
هذا ما يستحقه العرب، والشرقيون عموماً، من منظور عقلٍ عنصري استعماري بغيض. يتحالف اليمين المتطرف في الغرب مع الدكتاتوريات العربية، لأن القوة هي اللغة التي يفهمها العرب، ولا سبيل آخر لضبطهم سوى الفرد المستبد. ولا ينقص عرب يروّجون هذه النظرة العنصرية. (أما إسرائيل فيحترم نظامها، ويجري التحالف معه كما هو، وتكمل روسيا هنا تقليداً قائماً. فقد دعم الاتحاد السوفييتي إسرائيل ضد العرب عام 1948 كقوة واعدة بنظام اشتراكي عمالي "تقدمي"، في مقابل الملكيات العربية التابعة لبريطانيا، إلى أن اختارت إسرائيل التحالف الرابح مع الغرب، بلغة بن غوريون، في نظام القطبين السائد إبّان الحرب الباردة، فعندها تحول السوفييت إلى دعم العرب في سياق الصراع مع بريطانيا وفرنسا، ثم مع أميركا).
إذا كان العالم العربي منقسما بين دكتاتور من جهة، وإرهاب من جهة أخرى، فماذا يفعل المواطن العربي المتوسط الذي تتجاوز مصالحه وتطلعاته، وحتى بنيته النفسية والذهنية هذا وذاك، والذي نعتقد، جازمين، أنه يسخر من ثنائيات لافروف القاتلة؟ لا مكان للمواطن العربي في المعادلة أعلاه، عليه أن يختفي من الصورة، أن ينتظر نتائج القصف حابساً قهره؛ أو ينصاع للثنائية هذه، فإما أن يدفعه الغضب على الجريمة إلى أقصى الانتقام، أو يدفعه الخوف منها إلى القبول بالدكتاتور الفرد، والخضوع لما يتطلبه بقاؤه من فساد واستبداد وانتهاكات لكرامة البشر وأجسادهم.
لقد جنت القوى المتطرفة على تطلعات الناس التي خرجت في ثورةٍ على الاستبداد، فهذه القوى تشبه الاستبداد في إخضاعها كل شيء لهدف واحد، يقع ما وراء الخير والشر، وبالتالي، ترتكب ما شاءت من جرائم، لأن أفعالها لا تقع تحت طائلة الحكم الأخلاقي. وهي تجني عليها أيضا على مستوى الرأي العام، بتسهيل تمرير الثنائية أعلاه، فتسهّل على قوى، مثل روسيا، أن تكسب صمت العالم على تنفيذها المهام القذرة نيابة عنه، وهو الدور الذي تحلم به دولة تتألف صادراتها الرئيسية من السلاح والنفط.
لا يمكن الخروج من طائلة هذه الثنائية القاتلة، من دون نبذ هذه القوى المتطرفة، ولكن التسليم بالدكتاتورية هو انتصار لهذه الثنائية. تتطلع الكثرة الكاثرة من المواطنين العرب إلى نظام حكم عادل وتعددي ينصفها، أو يأتي على قدر تضحياتها العظيمة على الأقل. ومشكلة النخب العربية المعارضة أنها، حين تتنافس فيما بينها، تنسى هذه الحقيقة الأساسية، التي فيها تكمن هزيمة الثنائية المدمرة لبلداننا ومجتمعاتنا. تطلعات الشعوب العربية وتضحياتها في سبيل الحرية والكرامة أمانة في أعناق النخب السياسية والثقافية والمسلحة التي تمثل الأكثرية ضد الاستبداد، بوجهيه الدكتاتور والإرهاب. وهذا فقط ما يجعل الخيار الكامن في الثنائية أعلاه وهمياً.