حكمت الساحة العربية، منذ ثورات الربيع العربي، ثنائية ديمقراطية واستبداد. انقسمت النخب بين مؤيدين للتحول الديمقراطي وداعمين للأنظمة المستبدة. كذلك انقسمت الأنظمة السياسية بين أنظمة الثورة أو أنظمة محايدة، وأنظمة "أعداء الثورة" أو "الثورة المضادة".
تجاوز هذا التقسيم ميدانه السياسي والإعلامي، وزحف حتى الحقل الأكاديمي. وتجاوز أيضاً الحاضر، وتم إسقاطه على الماضي. فأصبحت الأحكام على تجارب الحكم العسكرية الفاشلة في العالم العربي، في العراق وسورية ومصر، لا باعتبارها فشلت في التجاوب مع تحدياتها، في وقتها، المتمثلة في الاستعمار والهيمنة الأجنبية، ومواجهة الكيان الصهيوني، وبناء دولة عربية متماسكة، إضافة إلى التنمية الاقتصادية، بل أصبحت أحكام النجاح والفشل تصدر بناء على ثنائية استبداد وديمقراطية. ظهرت هذه الروح بصورة كبيرة بين ثنايا أوراق مؤتمر "الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي" الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الأيام الثلاثة الماضية. صحيح أن عنوان المؤتمر هو "التحول الديمقراطي" و"الجيش والسياسة" أي ثنائيات من قبيل مدني/عسكري وديمقراطي/مستبد، إلا أن روح "الثنائيات" أثرت في رؤية تاريخ الجيوش العربية، وحضورها الشعبي، ودورها في تأسيس الجمهوريات العربية، في مرحلة مواجهة الاستعمار ثم الهيمنة الغربية.
تجاهل بعض الباحثين التحديات التي كانت تواجه الدول العربية، والتي ساهمت بشكل موضوعي في دور أكبر للجيش في بناء الدولة والسياسة، وقصروا أحكامهم في علاقة الجيش بالدولة، على ثنائية الاستبداد والديمقراطية، حتى في حديثهم عن الماضي، وهواجس ما قبل ثورات 2011.
مرد هذه الروح، أننا هنا، على بعد خطوات قليلة من الربيع، إذ أصبحت الديمقراطية هي الوصفة السحرية لكل أمراض العالم العربي، فقام العرب بصياغة أحلامهم وآمالهم على أساس أن الديمقراطية هي القيمة العليا، وحل كل المشاكل السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية والثقافية في المنطقة العربية، لكن ربما جاءت اللحظة التي يجب ألا يعمينا فيها الانحياز للديمقراطية، عن أن التاريخ لا يُصاغ وفق ثنائيات مصمتة، وأن هناك تعقيدات تتجاوز رغبتنا بتأطير ما يحدث عربياً، باعتباره صراعاً ميتافيزيقياً بين الخير والشر.