31 أكتوبر 2024
ثورة الجياع القادمة
لم أكن أتخيل، حتى في أسوأ كوابيسي، أن يطرق باب بيتي إنسانٌ ليطلب وجبة طعام، أو أي أكلٍ زائد عن الحاجة. اعتدت أن "أستقبل" طالبي حاجات أخرى: مثل النقود، أو الملابس المستعملة، أو حتى حذاء زائد عن الحاجة، أما أن يطلب أحدهم طعاما، فتلك واقعة نادرة الحدوث، وتضيء في المشهد مائة ضوء أحمر؟
حدث هذا قبل فترة، ويومها دارت الدنيا بي، واحترت ماذا أفعل، فهذه هي المرة الوحيدة التي أقف فيها أمام جائع حقيقي، لا يريد شيئا إلا ما يسدّ جوعه. طبعا ثمّة طلبات أخرى تواجهك في الشارع، من "نفس" عائلة الجوع والحاجة، مثل طلب مساعدة لشراء دواء، أو إعادة وصل التيار الكهربائي المقطوع، أو شراء شيء لست بحاجة له، لكن بائعه بحاجة لدريهماتٍ يطعم أطفاله، أو سوى هذا من طلباتٍ تشي بالحال الذي وصلنا إليه، ليس في الأردن فقط، بل في معظم بلادنا العربية، ومنها بلاد البترول الوفير، فقد صرت ترى، على موقع تويتر بشكل خاص، دعوات أو طلبات مباشرة لتقديم إعانة لهذه الأسرة أو تلك من الغارمين الذين كسر ظهرهم الديْن، فألقي بمعيلهم في السجن. وهنا حدث ولا حرج، فما يسمونها مراكز الإصلاح تعج بالمتعسرين الذين تغيرت أحوالهم، وبارت تجارتهم، أو أفلسوا، فتراكمت عليهم الديون والشيكات المرتجعة، فإذا تركت هذا المشهد القريب، ونظرت إلى ما هو أبعد قليلا، رأيت آلافا مؤلفة من التجار السابقين الذين فرّوا إلى بلادٍ ليس بينها وبين بلادهم اتفاقات تسليم "مطلوبين" هربا من الديون والسجن.
لدى أصحاب الأرقام والإحصاءات في دنيا العرب صورة أكثر وضوحا عن أعداد الجوعى العرب، ولا نقول الفقراء، فثمّة تصنيفات للفقر ابتدعها القوم، تتراوح بين المدقع والنسبي
والمطلق، وسوى هذا من تعريفات. وحسب تعريف تقرير التنمية في العالم لعام 1990، فإن الفقر هو "عدم القدرة على تحقيق الحد الأدنى من مستوى المعيشة". كما يُعرّف الفقر الآن بأنه "عدم القدرة على الحصول على الخدمات الأساسية"، ولو دققنا النظر فيما تنشره دوائر الإحصاء المحلية والعالمية عن عدد الفقراء العرب، نصاب بالهلع، وثمّة مراجع كثيرة في وسع القارئ أن يجد فيها معطياتٍ صادمة فعلا عن حالات الفقر والجوع، في العالم العربي.
لا يعاني الوطن العربي من شحٍّ في المصادر الطبيعية، أو من نضوبٍ في سبل العيش الكريم، بقدر ما يعاني من وفرة في الدخل وسوءٍ في التوزيع، ولا يعاني المواطن العربي أيضا من عجزٍ عن العمل أو الإبداع، أو عدم قدرةٍ على تأمين حاجاته الأساسية، لكنه مبتلى بأنظمة حكمٍ تمثّل، في مجملها، نوعا من "الاحتلال الوطني"، وهو تعبيرٌ يختصر كثيرا من المعاني، وخصوصا أن كل البلاد العربية نالت استقلالها نظريا، باستثناء فلسطين، غير أن مرحلة الاستقلال الحقيقي لم تصل إلى العرب، حيث خرج المستعمر الواضح بجنوده وسلاحه، ونصّب حكاما لا يزالون يدينون له بالولاء، وقد عمد كل بلد "مستقل نظريا" إلى تأسيس "جيش" وعلم ونشيد وطني، و"دولة عميقة" تنفذ أجندة سرية، هدفها تجويع الشعب، وإرهاقه بالجري وراء الرغيف، مع البطش بكل من يرفع رأسه مطالبا بالعدالة، على تفاوتٍ بين أنظمة الحكم العربية، لكنها في المجمل لا تحيد عن نظرية "الاحتلال الوطني"، بل تحولت أجهزة الأمن في بلدان عربية كثيرة إلى سوط يلهب ظهور الشعب، بدلا من الدفاع عنه وحمايته.
ومع ازدياد حالة الضغط على حياة الناس، ومأسسة الفساد ونهب الخيرات، تكوّنت طبقةٌ ضخمة من الجوعى، ليس لرغيف الخبز فقط، بل للكرامة والشعور بالاحترام، والانتماء الوطني، الأمر الذي أحدث فجوةً ضخمةً بين طبقة الحكم ومن يساندها من أنياب الدولة العميقة، و"الدعم" الخارجي، من جهة وعامة الناس من جهة أخرى. ومع اتساع هذه الفجوة، قامت ثورات الجوعى للخبز والحرية في سياق ما سمي "الربيع العربي" الذي ووجه بحملاتٍ شرسةٍ لسرقته وشيطنته وإفشاله، وبدلا من أن تركز الثورة المضادة على معالجة أسباب الثورات، أمعنت في إذلال الشعوب، وقهرها، ولم تضع حلولا تُذكر لوقف نهب المال العام، أو محاسبة الفاسدين، ولا اهتمت، ولو بمقدار قليل بحفظ كرامة المواطن العربي، أو إشعاره بكينونته. ولم تنتبه بالقطع لجوعه للحرية، ناهيك عن الخبز، الأمر الذي فجر الثورات مجدّدا في لبنان والسودان والعراق، (ومصر على استحياء لبشاعة القمع ووحشيته).
كما هي العادة، استيقظت قوى الثورة المضادة، فحاولت أن تُخمد النيران المشتعلة في غير بلد،
ولم تصل بالقطع إلى الجمر المتقد تحت الرماد، وظلت على اتقاد بصوابية القول "جوّع كلبك يتبعك"، ولم تنتبه إلى أن مستوى الجوع وصل إلى حدٍّ يهدّد حياة الناس، فلم يعد محتملا، فغدا القول أقرب إلى صيغةٍ أخرى، هي "جوع كلبك يأكلك". ولعل ما زاد من فداحة هذا الجوع للخبز وللحرية أيضا، جنوح عدد من أنظمة الحكم العربية إلى الانخراط فيما يشبه الخيانة العلنية، بالتحالف علنا مع المشروع الصهيوني، والتعاون معه ضد شعوبهم، سواء باستيراد أنظمة التجسّس عليهم منه، او حتى استلهام أساليبه واستيرادها في احتلال الوجدان والعقل الجمعي، والاستعانة بخبراته الكبيرة في الاعتقال والتعذيب والاستجواب، والسير في ركابه "علنا" في خذلان أكثر قضايا التاريخ المعاصر عدالةً، وهي قضية فلسطين.
كل هذه المعطيات التي لم تزل تتعمّق، وتزداد سوءا، تجعلنا على يقينٍ بأن ثورة الجياع للخبز وللحرية قادمة، وهي وشيكة الحدوث، وفاقد البصر والبصيرة هو من ينكر رؤيتها.
لدى أصحاب الأرقام والإحصاءات في دنيا العرب صورة أكثر وضوحا عن أعداد الجوعى العرب، ولا نقول الفقراء، فثمّة تصنيفات للفقر ابتدعها القوم، تتراوح بين المدقع والنسبي
لا يعاني الوطن العربي من شحٍّ في المصادر الطبيعية، أو من نضوبٍ في سبل العيش الكريم، بقدر ما يعاني من وفرة في الدخل وسوءٍ في التوزيع، ولا يعاني المواطن العربي أيضا من عجزٍ عن العمل أو الإبداع، أو عدم قدرةٍ على تأمين حاجاته الأساسية، لكنه مبتلى بأنظمة حكمٍ تمثّل، في مجملها، نوعا من "الاحتلال الوطني"، وهو تعبيرٌ يختصر كثيرا من المعاني، وخصوصا أن كل البلاد العربية نالت استقلالها نظريا، باستثناء فلسطين، غير أن مرحلة الاستقلال الحقيقي لم تصل إلى العرب، حيث خرج المستعمر الواضح بجنوده وسلاحه، ونصّب حكاما لا يزالون يدينون له بالولاء، وقد عمد كل بلد "مستقل نظريا" إلى تأسيس "جيش" وعلم ونشيد وطني، و"دولة عميقة" تنفذ أجندة سرية، هدفها تجويع الشعب، وإرهاقه بالجري وراء الرغيف، مع البطش بكل من يرفع رأسه مطالبا بالعدالة، على تفاوتٍ بين أنظمة الحكم العربية، لكنها في المجمل لا تحيد عن نظرية "الاحتلال الوطني"، بل تحولت أجهزة الأمن في بلدان عربية كثيرة إلى سوط يلهب ظهور الشعب، بدلا من الدفاع عنه وحمايته.
ومع ازدياد حالة الضغط على حياة الناس، ومأسسة الفساد ونهب الخيرات، تكوّنت طبقةٌ ضخمة من الجوعى، ليس لرغيف الخبز فقط، بل للكرامة والشعور بالاحترام، والانتماء الوطني، الأمر الذي أحدث فجوةً ضخمةً بين طبقة الحكم ومن يساندها من أنياب الدولة العميقة، و"الدعم" الخارجي، من جهة وعامة الناس من جهة أخرى. ومع اتساع هذه الفجوة، قامت ثورات الجوعى للخبز والحرية في سياق ما سمي "الربيع العربي" الذي ووجه بحملاتٍ شرسةٍ لسرقته وشيطنته وإفشاله، وبدلا من أن تركز الثورة المضادة على معالجة أسباب الثورات، أمعنت في إذلال الشعوب، وقهرها، ولم تضع حلولا تُذكر لوقف نهب المال العام، أو محاسبة الفاسدين، ولا اهتمت، ولو بمقدار قليل بحفظ كرامة المواطن العربي، أو إشعاره بكينونته. ولم تنتبه بالقطع لجوعه للحرية، ناهيك عن الخبز، الأمر الذي فجر الثورات مجدّدا في لبنان والسودان والعراق، (ومصر على استحياء لبشاعة القمع ووحشيته).
كما هي العادة، استيقظت قوى الثورة المضادة، فحاولت أن تُخمد النيران المشتعلة في غير بلد،
كل هذه المعطيات التي لم تزل تتعمّق، وتزداد سوءا، تجعلنا على يقينٍ بأن ثورة الجياع للخبز وللحرية قادمة، وهي وشيكة الحدوث، وفاقد البصر والبصيرة هو من ينكر رؤيتها.