انتقلت المواجهة الإسرائيلية الإيرانية في سورية إلى مرحلة صراع معلن، مع اعتراف إسرائيل رسمياً بتنفيذها غارات، فجر الإثنين، على مواقع ومستودعات تابعة للحرس الثوري الإيراني، في محيط العاصمة السورية دمشق وفي ريف دمشق وفي السويداء وفي درعا، في قصف هو الأعنف في سورية والأوسع نطاقاً، إذ شمل أربع محافظات، على الرغم من أن الاحتلال شنّ عشرات الغارات السابقة في سورية، إلا أنه كان يلتزم الصمت تجاهها من دون تبنّيها رسمياً. لكن اللافت في هذه المستجدات، الغياب الروسي، حتى على التعليق السياسي على الغارات الإسرائيلية، بما يشير إلى ضوء أخضر من موسكو لتنفيذ هذه الهجمات التي يفترض أن تراعي خطوطاً حمراء من موسكو، أبرزها عدم تهديد النظام السوري، وعدم الاقتراب من أماكن انتشار القوات الروسية في سورية، وعدم تهديد خط الطيران الروسي فوق الأجواء السورية.
وقصف سلاح الطيران الإسرائيلي، فجر أمس الإثنين، عدة مواقع تابعة لـ"فيلق القدس" الإيراني داخل سورية، وأخرى تابعة للدفاع الجوي السوري قرب دمشق، بعد ساعات قليلة من استهداف مواقع عسكرية تابعة لمليشيات إيرانية وللنظام في وضح النهار. وفي خطوة غير مسبوقة، أكد الجيش الإسرائيلي، في بيان، أنه قصف أهدافاً لـ"فيلق القدس" الإيراني داخل الأراضي السورية، محذراً "القوات المسلحة السورية من محاولة المسّ بالقوات أو الأراضي الإسرائيلية".
كذلك، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه لن يسمح "بالأعمال العدوانية الإيرانية". وقال في حفل تدشين مطار جديد جنوب إسرائيل أمس "مساء أمس، وجّه سلاح الجو ضربة قوية ضد أهداف إيرانية في سورية، بعدما أطلقت إيران صاروخاً من هناك في اتجاه إسرائيل". وأضاف "لن نسمح بمثل هذه الأعمال العدوانية. نحن نعمل ضد إيران وضد القوات السورية التي هي أدوات العدوان الإيراني".
من جهتها، قالت وكالة "سانا" التابعة للنظام، إن الغارات الإسرائيلية "شُنّت من فوق الأراضي اللبنانية، ومن فوق الأراضي الفلسطينية، ومن فوق بحيرة طبريا" في الجولان السوري المحتل، مشيرة إلى أن "الدفاعات الجوية السورية أسقطت عشرات الأهداف المعادية التي أطلقها العدو الإسرائيلي باتجاه الأراضي السورية"، وفق الوكالة. وتحدث الجيش الروسي عن مقتل أربعة جنود سوريين وإصابة ستة آخرين، فيما لفت المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى مقتل 11 مقاتلاً، بينهم سوريان. وأكدت مصادر في دمشق لـ"العربي الجديد" أن قصف فجر الإثنين "كان عنيفا جداً... كانت هناك أصوات مرعبة نتيجة قصف من الطيران الإسرائيلي والمضادات الأرضية التابعة للنظام".
وفي رد ضمني على الغارات الإسرائيلية، قال قائد القوات الجوية في الجيش الإيراني، العميد طيار عزيز نصير زاده، إن "أجيالنا الحاضرة والقادمة على أهبة الاستعداد، وهي تنتظر بفارغ الصبر المعركة مع الكيان الصهيوني ومحوه من الوجود". وأضاف في تصريحات أمس لنادي المراسلين الشباب الإيراني، أن "أجيالنا المقبلة تعكف حالياً على تعلّم المهارات اللازمة لليوم الموعود ومحو إسرائيل".
مقابل الرد الإيراني غير المباشر، بدا لافتاً الصمت الروسي، خصوصاً أن إسرائيل التي كثّفت، في الآونة الأخيرة، من عمليات القصف لأهداف تابعة للنظام والحرس الثوري الإيراني داخل سورية، أعلنت عن مسؤوليتها عن قصف الإثنين، ليشكّل رسالة واضحة لإيران أن الطيران الإسرائيلي يقف بالمرصاد لمحاولات الحرس الثوري الإيراني تجذير وجوده في سورية، غير بعيد عن حدود إسرائيل الشمالية. وفي هذا السياق، نقلت وكالات أنباء عن وزير الاستخبارات والنقل الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، قوله إن بلاده دخلت في مواجهة علنية ومفتوحة مع إيران ولن تسمح لها بتثبيت وجودها في سورية. وأكد أن إسرائيل مستعدة لتأجيج هذه المواجهة عندما يتطلب الأمر ذلك، ولم يستبعد أن تبذل بلاده جهوداً أكبر لمنع انتشار النفوذ الإيراني في سورية، مضيفاً، في حديث لإذاعة الجيش الإسرائيلي: "لقد تغيرت سياستنا وباتت مواجهة مفتوحة مع إيران، وعندما سنحتاج لتشديد هذه المواجهة، سنقوم بذلك".
لكن السؤال المطروح يبقى عن القدرة الإسرائيلية على الاستمرار في غاراتها في سورية، خصوصاً أن "هامش المناورة الإسرائيلية في سورية يعتمد بشكل أساسي على التفاهم مع روسيا"، وفق قول صحيفة "معاريف" في وقت سابق. ومن الواضح أن إسرائيل التزمت بالتنسيق مع روسيا في الضربات التي وجهتها، الأحد والإثنين، وهو ما أكدته وسائل إعلام إسرائيلية. كما أن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، جوناثان كورنيكوس، أكد للصحافيين أمس تشغيل تل أبيب خط الاتصال الساخن مع موسكو خلال الغارات التي شنّها الطيران الإسرائيلي على سورية، وقال إن "آلية منع وقوع الحوادث العرضية في سورية يلتزم بها الطرفان الإسرائيلي والروسي، وهي قيد الاستخدام". وكانت إسرائيل وروسيا قررتا في 2015 وضع آلية "لتجنّب الصدام" بين الجيشين في سورية.
ومن الواضح أن روسيا لم تعمد إلى استخدام منظومات الدفاع الجوية المتطورة التي تملكها في سورية "إس 400"، أو تلك التي زودت بها قوات النظام السوري من طراز "إس 300"، والتي يقوم بتشغيلها خبراء روس، لاعتراض الطائرات الإسرائيلية. وكان التنسيق قد اهتز عندما تم إسقاط طائرة عسكرية روسية عن طريق الخطأ من قبل دفاعات النظام، بعد غارة إسرائيلية في 17 سبتمبر/أيلول 2018، وقُتل 15 عسكرياً روسياً كانوا على متنها. ومذاك، تحاول إسرائيل الحفاظ على تنسيق مع روسيا، في موازاة إبقاء هامش يتيح لها تنفيذ عمليات قصف في الأراضي السورية. وأعلن الجيش الإسرائيلي، الخميس الماضي، أن ضباطاً إسرائيليين وروساً عقدوا اجتماعات بهدف "تحسين" التنسيق بين الجيشين و"تجنّب الاحتكاك" خلال العمليات الإسرائيلية ضد إيران في سورية.
لكن يبقى السؤال عن الخطوط الحمراء الروسية أمام العمليات الإسرائيلية في سورية. وتبرز هنا التسريبات التي كشفت عنها وسائل إعلام إسرائيلية بعد قرار الانسحاب الأميركي من سورية، من حصول تفاهمات بين واشنطن وتل أبيب وعمان والرياض والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على مواصلة سماح روسيا لإسرائيل بحرية الحركة في الأجواء السورية ضد أهداف لإيران و"حزب الله"، وضد نقل أسلحة إلى الحزب كاسرة للتوازن. حتى إن محللين إسرائيليين كانوا قد أشاروا إلى أن بوتين معنيّ بالعمليات الإسرائيلية من أجل تسهيل مهمة إخراج القوات الإيرانية من سورية. وتحدّث مسؤولون عسكريون إسرائيليون عن أن قرار الروس عدم السماح لقوات النظام السوري بالتحكم في منظومة "إس 300"، يمثّل تلميحاً بأنه لا يوجد لدى موسكو توجّه لإعاقة عمل سلاح الجو الإسرائيلي في الأجواء السورية، إذا حصل بالتنسيق مع روسيا. وبالتالي، يبدو أن موسكو لن تعترض على الغارات الإسرائيلية طالما تحصل بتنسيق معها، وطالما لا تهدد وجود نظام بشار الأسد، بل تركز على ضرب التموضع الإيراني في سورية ولا تؤذي الوجود الروسي ولا أهدافه السياسية والعسكرية.
من جهته، رأى المحلل الاستراتيجي العميد أحمد رحال، أن القصف الإسرائيلي يأتي استمراراً للهدف الإسرائيلي المعلن، باستهداف الوجود الإيراني في سورية، وتقنيات الأسلحة والصواريخ التي ينقلها الإيرانيون إلى هناك، مضيفاً، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "إسرائيل زودت صواريخها الموجهة بتقنية تصوير الهدف حتى لحظة الاصطدام، وهو ما ينفي كلام قوات الأسد عن التصدي للصواريخ الإسرائيلية". وأشار رحال إلى أن القصف الإسرائيلي، فجر الإثنين، كان لسبيين: الأول كان هناك إطلاق قذيفة صاروخية باتجاه الجولان السوري المحتل، والثاني كانت هناك طائرة شحن إيرانية أبعدت عن مطار دمشق في القصف الجوي، صباح الأحد، ولكنها عادت ليلاً فتم تدمير المستودعات داخل المطار.
وقال رحال إن "هناك تصعيداً إسرائيلياً كبيراً تمثّل في قصف اللواءين 112 و38 التابعين لقوات النظام"، ومرابض مدفعية وصاروخية، مضيفاً: "هناك حالة إسرائيلية نوقشت مع الجانبين الأميركي والروسي بأنه لم يعد من المجدي محاولة فصل نظام بشار الأسد عن إيران، وأن إبعاد إيران عن سورية يجب أن يتضمن إبعاد الأسد عن السلطة". وأعرب رحال عن اعتقاده بأن الضربة الإسرائيلية المقبلة "لن تشمل فقط مواقع للحرس الثوري الإيراني وحزب الله، بل ستشمل مواقع حساسة لنظام بشار الأسد".