11 سبتمبر 2024
جبهة التحرير الجزائرية بعد إطاحة سعداني
أيها الحزب المحجرْ/ أيها الحزب الذي فرّخ غابات الطحالبْ/ ونمت مثل المخالبْ/ إننا نطلب شيئاً واحداً منك: تجددْ أو تعدّدْ أو تبددْ.
كانت هذه الجملة الشعرية للشاعر الجزائري، عمر أزراج، أول تمرّد صريح من مثقفٍ على حزب جبهة التحرير في الجزائر. في قصيدته "العودة إلى ثيزي راشد" التي قرأها في ملتقى محمد العيد آل خليفة للشعر في مدينة بسكرة العام 1984، ينتفض الشاعر ضد مصادرة الحريات وطغيان أفكار القمع ودكتاتورية الحزب الواحد.. لاحقت الأجهزة الأمنية بعدها عمر أزراج، وأصبح أمره حديث الخاص والعام، وصل إلى مجلس الوزراء، برئاسة الرئيس الشاذلي بن جديد الذي تناول، في إحدى جلساته، موضوع القصيدة ومصير الرجل الذي ترك البلد بعد ذلك فارّا بجلده من آلة القمع إلى بريطانيا.
بعد ثلاثين سنة، لا يبدو أن الكثير من مطالبات أزراج تحقق، فعلى الرغم من تعدّدية الأحزاب التي أعقبت أحداث أكتوبر/ تشرين الأول 1988، إلا أن الحالة السياسية في الجزائر تراوح مكانها، فحزب جبهة التحريرالوطني ما زال إلى جانب "التجمع الوطني الديموقراطي" ذراعي السلطة في إحكام أرتاج السياسة، وما زال ضعف الأداء السياسي يميز الأحزاب الكثيرة الأخرى التي ولد عديد منها من رحم السلطة، أو تم تفريخها لأجل تعويم الحالة السياسية في البلاد، وإنهاك الطبقة المعارضة التي تحاول جاهدةً لملمة شتاتها وتشرذمها الذي فرضته عدة عوامل ذاتية داخلية في هذه الأحزاب، أو خارجية متمثلة في عراقيل شتى، تبادر إليها الإدارة، لوضع العصا في عجلة الأحزاب التي ترفع صوتها، من حين إلى آخر، وكثير منها إما من أجل مشاركة السلطة في كعكعة الريع والنفوذ أو لأهدافٍ انتخابية محلية ظرفية.
تأتي إطاحة الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، عمار سعداني، امتداداً لممارساتٍ سابقة للسلطة، تحكم من خلالها في زمام أمور الحزب، عندما تشعر بعدم التزام الشخص المخوّل له
قيادة الحزب التعليمات أو التوجهات الصادرة من أعلى رأس في هرم السلطة. لم يتوقع سعداني إطاحته بهذه السرعة، بل إنه بدا في اجتماع اللجنة المركزية الأخيرة للحزب أكثر تحكماً في أعضاء اللجنة المركزية للحزب الذين صفقوا لخطبه كثيراً. لم يخطر ببال هؤلاء أن الاتهامات التي كالها سعداني لمختلف المسؤولين، سابقين وحاليين، ستأتي بأجله وبهذه السرعة، فلم تمرّ إلا أيام قليلة من اتهاماته قائد جهاز الاستخبارات السابق محمد مدين، وغريمه في جبهة التحرير ورئيس الحكومة الأسبق، عبد العزيز بلخادم، بإثارة الفتن الطائفية في غرداية ومدن جزائرية أخرى، والعمالة لفرنسا، حتى جاءه خبر إقالته من الأمانة العامة لأعتق أحزاب البلاد في رسالةٍ شفوية عاجلة، نقلها إليه مسؤول كبير في الرئاسة في أثناء انعقاد اجتماع اللجنة المركزية. لم تكن الإطاحة لتراجع منسوب الولاء لدى سعداني، لكنها الخشية من تماديه في توجيه رماحه يمنة ويسرة، وقد تصيب بعض "الصفوة" من حيث لا تحتسب. تضمنت الرسالة نفسها تعيين جمال ولد عباس أميناً عاماً جديدا للحزب، بما يضمن ولاء كاملا للسلطة، نظرا لما يتميز به الأخير من خبرة طويلة في تسيير الترتيبات، والتي دشنها بأول تصريح له أميناً عاماً للحزب بتأكيده بصفته طبيبا "أن استقالة عمار سعداني من منصبه كانت بسبب ظروف صحية" (وليس ضغوط).
كان حزب جبهة التحرير الوطني، سنواتٍ طويلة، الحزب الوحيد في الجزائر التي اختارت هذا النمط من التسيير المبني على وحدة الفكرة ووحدة المصير، والتي تعني سلوك منهج الشمولية في العمل السياسي الذي يرفض أي صوت آخر معارض، سواء من داخل الحزب أو من خارجه، على الرغم من محاولاتٍ كثيرة قام بها بعض زعماء الثورة التحريرية الجزائرية الذين كان موقفهم أن مهمة جبهة التحرير الوطني انتهت بالحصول على الاستقلال، وأنه يجب فتح المجال أمام التعدّدية السياسية بإنشاء أحزاب، مثل حسين آيت أحمد الذي أنشا جبهة القوى الاشتراكية ومحمد بوضياف الذي أنشأ حزب الثورة الاشتراكية.
سارت مياه كثيرة في النهر، وتحول الحزب مع الأيام، منذ عهد الرئيس أحمد بن بلة إلى عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، إلى مجرد جهاز تنفيذي لسياسات السلطة، يأتمر بأوامرها وينتهي إذا أوعز له بذلك. حاولت الأحداث التي شهدتها الجزائر في أكتوبر تشرين الأول 1988 أن تحرك سواكن هذا الحزب، حيث خرجت الجماهير غاضبةً يومها، ومطالبة بالتعدّدية الحزبية، حينها تلقفت أجهزة السلطة المختصة الرسالة، فعمدت إلى توضيب تعدّدية سياسية على المقاس، روعيت فيها أساليب تدجين العمل السياسي، وتعويم الأداء الحزبي لتتحول معظم الأحزاب إلى "دكاكين سياسية"، تنتظر المواعيد الإنتخابية، لتفوز منها بما تجود عليها به إدارة تخيط اللباس السياسي على المقاس.
لم تشذ جبهة التحرير عن القاعدة، على الرغم من محاولاتٍ عديدة لشق عصا الطاعة، بعيد
إقرار التعدّدية الحزبية في بداية التسعينيات. يومها، حاولت جبهة التحرير بقيادة عبد الحميد مهري استعادة بعض جمهورها ومريديها المؤمنين بمبادئها الأولى. ولكن آلة الإدارة أبت إلا أن تقصي فريق مهري من قيادة الحزب، في اثناء اجتماع اللجنة المركزية للحزب في مارس/ آذار 1996 بانقلاب سمي يومها "الانقلاب العلمي"، نظرا لما روعي فيه من تخطيط محكم، لإعادة الحزب إلى سكة السلطة. ولم يأت تأسيس "التجمع الوطني الديموقراطي" العام 1995 إلا في سبيل إنشاء رديف لجبهة التحرير، يكون له معيناً في مواجهة فرضية تمرّد أحزابٍ أخرى، ومن أجل الإمعان في إظهار التعدّدية الحزبية بصورتها الشكلية، ليس إلا.
عاش عمار سعداني مشهداً سوريالياً، وهو يعلن استقالته في جلسة اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني. سأل أعضاء اللجنة المركزية عن تحديد موقفهم من رغبته في الاستقالة، الأمر الذي شكل لهم مفاجأة كبرى، فلم يجرؤ أحد منهم على رفع يده للموافقة على مغادرة سعداني الأمانة العامة. خاطب سعداني بعد ذلك الصحافيين الحاضرين، ليكونوا شهوداً، ويسجلوا أن لا أحد من اللجنة المركزية سحب الثقة من الأمين العام. وقال سعداني: هناك طريقان لا ثالث لهما، إما أن تكون وفياً وشجاعاً وصريحاً، أو أن تكون مارقاً، ويعني أن تكون منافقاً وجباناً في المواقف الصعبة .. سيتذكر المراقبون يوماً أن سعداني كان أجرأ أمين عام لأكبر حزب يُحكم باسمه في الجزائر، قال صراحةً ما لم يتجرأ الآخرون على قوله في السر. اتهم القائد السابق لجهاز الاستخبارات محمد مدين بالتآمر على البلاد، واتضح، فيما بعد، أن الأمر تم بمهماز فوقي، حيث كان سعداني يُعلن عن حملة لخلع مدين من أعتى سلطة أمنية، وتم ذلك بالفعل بعد سنة، حيث أقيل الرجل، وهو الأقوى في الأمن العسكري 25 سنة. ولكن سعداني، بقدر ما كان أجرأ الناس وأقدرهم على كيل الاتهامات لشخصيات سياسية كبيرة، ظهر أخيراَ مجرد "موظف" في آلةٍ سياسيةٍ، لا تتحرك إلا بأوامر القصر الرئاسي، بصرف النظر عمن يتحكم في هذا القصر مع غياب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أقعده المرض منذ سنوات.
لا يبدو أن ذلك الرمز السياسي الذي التف حوله الجزائريون قاطبة، والإطار التنظيمي الذي ولد من رحم ثورة التحرير على يد مجموعةٍ من الشباب الذين اختاروا أن يتحرّروا من ربقة الاستعمار، ومن تلكؤ سياسيين وطنيين آخرين في إعلان الثورة الجزائرية، لا يبدو أن هذه الجبهة التي تحولت حزباً بعد الاستقلال ستتحرّر من قبضة الجهاز السلطوي وسوق الاستثمار السياسي، فلقد تحول الحزب إلى مجرد جهاز تحت وصاية نظام ولا يريدان التفريط في بعضهما بعضاً، نظرا لما يتبادلانه من مصالح تحافظ على ديمومة نظام حكم، يتهم بالفساد السياسي والمالي والإداري، من خلال مواصلة الاستفراد بالسلطة، أشاع لدى المواطنين خيبات أملٍ متلاحقة في تغيير سياسي إيجابيٍ، يضمن ديمومة الدولة.
كانت هذه الجملة الشعرية للشاعر الجزائري، عمر أزراج، أول تمرّد صريح من مثقفٍ على حزب جبهة التحرير في الجزائر. في قصيدته "العودة إلى ثيزي راشد" التي قرأها في ملتقى محمد العيد آل خليفة للشعر في مدينة بسكرة العام 1984، ينتفض الشاعر ضد مصادرة الحريات وطغيان أفكار القمع ودكتاتورية الحزب الواحد.. لاحقت الأجهزة الأمنية بعدها عمر أزراج، وأصبح أمره حديث الخاص والعام، وصل إلى مجلس الوزراء، برئاسة الرئيس الشاذلي بن جديد الذي تناول، في إحدى جلساته، موضوع القصيدة ومصير الرجل الذي ترك البلد بعد ذلك فارّا بجلده من آلة القمع إلى بريطانيا.
بعد ثلاثين سنة، لا يبدو أن الكثير من مطالبات أزراج تحقق، فعلى الرغم من تعدّدية الأحزاب التي أعقبت أحداث أكتوبر/ تشرين الأول 1988، إلا أن الحالة السياسية في الجزائر تراوح مكانها، فحزب جبهة التحريرالوطني ما زال إلى جانب "التجمع الوطني الديموقراطي" ذراعي السلطة في إحكام أرتاج السياسة، وما زال ضعف الأداء السياسي يميز الأحزاب الكثيرة الأخرى التي ولد عديد منها من رحم السلطة، أو تم تفريخها لأجل تعويم الحالة السياسية في البلاد، وإنهاك الطبقة المعارضة التي تحاول جاهدةً لملمة شتاتها وتشرذمها الذي فرضته عدة عوامل ذاتية داخلية في هذه الأحزاب، أو خارجية متمثلة في عراقيل شتى، تبادر إليها الإدارة، لوضع العصا في عجلة الأحزاب التي ترفع صوتها، من حين إلى آخر، وكثير منها إما من أجل مشاركة السلطة في كعكعة الريع والنفوذ أو لأهدافٍ انتخابية محلية ظرفية.
تأتي إطاحة الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، عمار سعداني، امتداداً لممارساتٍ سابقة للسلطة، تحكم من خلالها في زمام أمور الحزب، عندما تشعر بعدم التزام الشخص المخوّل له
كان حزب جبهة التحرير الوطني، سنواتٍ طويلة، الحزب الوحيد في الجزائر التي اختارت هذا النمط من التسيير المبني على وحدة الفكرة ووحدة المصير، والتي تعني سلوك منهج الشمولية في العمل السياسي الذي يرفض أي صوت آخر معارض، سواء من داخل الحزب أو من خارجه، على الرغم من محاولاتٍ كثيرة قام بها بعض زعماء الثورة التحريرية الجزائرية الذين كان موقفهم أن مهمة جبهة التحرير الوطني انتهت بالحصول على الاستقلال، وأنه يجب فتح المجال أمام التعدّدية السياسية بإنشاء أحزاب، مثل حسين آيت أحمد الذي أنشا جبهة القوى الاشتراكية ومحمد بوضياف الذي أنشأ حزب الثورة الاشتراكية.
سارت مياه كثيرة في النهر، وتحول الحزب مع الأيام، منذ عهد الرئيس أحمد بن بلة إلى عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، إلى مجرد جهاز تنفيذي لسياسات السلطة، يأتمر بأوامرها وينتهي إذا أوعز له بذلك. حاولت الأحداث التي شهدتها الجزائر في أكتوبر تشرين الأول 1988 أن تحرك سواكن هذا الحزب، حيث خرجت الجماهير غاضبةً يومها، ومطالبة بالتعدّدية الحزبية، حينها تلقفت أجهزة السلطة المختصة الرسالة، فعمدت إلى توضيب تعدّدية سياسية على المقاس، روعيت فيها أساليب تدجين العمل السياسي، وتعويم الأداء الحزبي لتتحول معظم الأحزاب إلى "دكاكين سياسية"، تنتظر المواعيد الإنتخابية، لتفوز منها بما تجود عليها به إدارة تخيط اللباس السياسي على المقاس.
لم تشذ جبهة التحرير عن القاعدة، على الرغم من محاولاتٍ عديدة لشق عصا الطاعة، بعيد
عاش عمار سعداني مشهداً سوريالياً، وهو يعلن استقالته في جلسة اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني. سأل أعضاء اللجنة المركزية عن تحديد موقفهم من رغبته في الاستقالة، الأمر الذي شكل لهم مفاجأة كبرى، فلم يجرؤ أحد منهم على رفع يده للموافقة على مغادرة سعداني الأمانة العامة. خاطب سعداني بعد ذلك الصحافيين الحاضرين، ليكونوا شهوداً، ويسجلوا أن لا أحد من اللجنة المركزية سحب الثقة من الأمين العام. وقال سعداني: هناك طريقان لا ثالث لهما، إما أن تكون وفياً وشجاعاً وصريحاً، أو أن تكون مارقاً، ويعني أن تكون منافقاً وجباناً في المواقف الصعبة .. سيتذكر المراقبون يوماً أن سعداني كان أجرأ أمين عام لأكبر حزب يُحكم باسمه في الجزائر، قال صراحةً ما لم يتجرأ الآخرون على قوله في السر. اتهم القائد السابق لجهاز الاستخبارات محمد مدين بالتآمر على البلاد، واتضح، فيما بعد، أن الأمر تم بمهماز فوقي، حيث كان سعداني يُعلن عن حملة لخلع مدين من أعتى سلطة أمنية، وتم ذلك بالفعل بعد سنة، حيث أقيل الرجل، وهو الأقوى في الأمن العسكري 25 سنة. ولكن سعداني، بقدر ما كان أجرأ الناس وأقدرهم على كيل الاتهامات لشخصيات سياسية كبيرة، ظهر أخيراَ مجرد "موظف" في آلةٍ سياسيةٍ، لا تتحرك إلا بأوامر القصر الرئاسي، بصرف النظر عمن يتحكم في هذا القصر مع غياب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أقعده المرض منذ سنوات.
لا يبدو أن ذلك الرمز السياسي الذي التف حوله الجزائريون قاطبة، والإطار التنظيمي الذي ولد من رحم ثورة التحرير على يد مجموعةٍ من الشباب الذين اختاروا أن يتحرّروا من ربقة الاستعمار، ومن تلكؤ سياسيين وطنيين آخرين في إعلان الثورة الجزائرية، لا يبدو أن هذه الجبهة التي تحولت حزباً بعد الاستقلال ستتحرّر من قبضة الجهاز السلطوي وسوق الاستثمار السياسي، فلقد تحول الحزب إلى مجرد جهاز تحت وصاية نظام ولا يريدان التفريط في بعضهما بعضاً، نظرا لما يتبادلانه من مصالح تحافظ على ديمومة نظام حكم، يتهم بالفساد السياسي والمالي والإداري، من خلال مواصلة الاستفراد بالسلطة، أشاع لدى المواطنين خيبات أملٍ متلاحقة في تغيير سياسي إيجابيٍ، يضمن ديمومة الدولة.