جدلية اليأس والأمل عربياً
ثمَّة لازمة تتكرّر في النقاشات العامة حول الواقع في العالم العربي، مفادها أن الوضع ميؤوس منه وأن التغيير مستحيل. ولا عجب في ذلك، فبارقة الأمل التي رافقت رياح الثورات العربية أواخر عام 2010، انتهت، لأسباب كثيرة، إلى نكسةٍ قاسيةٍ بشكل أصبح اليأس من إمكانية إحداث تغيير عنواناً للمرحلة. وتعمل الأنظمة القمعية العربية، وأبواقها الكثيرة في الفضاءات الإعلامية والفكرية والدينية، على تعميق منسوب اليأس هذا لدى الشعوب، بل وتستثمر فيه، وتسعى إلى تشريعه وتسييجه، فآخر ما يريدونه ثورات جديدة، أسبابها قائمة، تهزّ أركان عروشهم. ولذلك، فضلاً عن مساهمة بعض تلك الأنظمة في إيجاد حالة الفوضى والحروب في المنطقة أو تعزيزها، كما في ليبيا واليمن، والعبث في غير ساحة عربية، لإبقاء التوترات والاستنزاف، كما في السودان وتونس، فإننا نجدها كذلك، وعبر أبواقها المختلفة، تعمل بشراسة على مماهاة التغيير بسفك الدماء والخراب الذي تعيشه دول كسورية. وللأسف، ساهم كل ما سبق في إشاعة حالة اليأس والاستسلام للواقع الآسن القائم عربياً، خصوصاً في ظل فشل النخب التي حملت لواء التغيير وانقساماتها المخزية، وعجزها عن تقديم رؤية وصياغة جَمَعِيَّةٍ لما يعنيه التغيير المنشود، وكيف سيكون.
نحتاج اليوم برنامجاً ومشروعاً فكرياً شاملاً ومتكاملاً يستوعب كل مكونات مجتمعاتنا العربية المتنوعة، من دون تهميش ولا إقصاء
أمام هذا الحال، أضحى الحديث عن الأمل وَهْماً لدى كثيرين، الأمر الذي يتطلب إعادة ترميم، بل قل بناء مفهومه وإعطائه بعداً عملياً يجعل منه قابلاً للتجسيد واقعاً ضمن مدى زمني منظور، وليس فقط في عالم الغيب. يستلزم ما سبق برنامجاً ومشروعاً فكرياً شاملاً ومتكاملاً يستوعب كل مكونات مجتمعاتنا العربية المتنوعة، من دون تهميش ولا إقصاء. كما يستلزم خريطة طريق، فضفاضة ومرنة، يتوافق عليها الفرقاء جميعاً، بغض النظر عن خلفياتهم الإيديولوجية والسياسية، من ناشدي التغيير والانعتاق من ربقة التخلف والاستبداد والتشرذم التي نحياها. أيضاً، يستلزم الأمر وجود رموز وقيادات ونشطاء، من كل المشارب، ينتمون لهذا البرنامج أو المشروع، يؤمنون به ويعملون عليه. تلك بعض الشروط على سبيل المثال. المهم، أنه من دون ترميم الأمل أو إعادة بنائه، فإننا نخاطر بتأبيد اليأس، وبالتالي الاستكانة والرضوخ للواقع البائس القائم حالياً.
تعرّف أستاذة أمراض الشيخوخة، السويدية، إليونور أنتليوس، الأمل بأنه صيرورة بناء المعنى. أي الخروج من حالة الخواء والإحباط إلى حالة من وجود الرؤية والدافعية لتنزيلها على الأرض. في حين تعرّفه أستاذة الأنثروبولوجيا، الأميركية ماتينجلي شيريل، بأنه صيرورة تتطلب عملاً كبيراً وجادّاً. كلا التعريفين يتضمنان توصيفاً دقيقاً لبعض أبعاد الأمل، فبدون مشروع ورؤية واستشراف لمستقبل أفضل (المعنى)، وبدون عمل وجهد وكفاح، فإن تلك الرؤية وذلك المشروع لن يتحققا. وكما يقرّر القس والأستاذ الجامعي الأميركي وليام ف. لينش، محقاً، الأمل هو أساس الوجود البشري، إذ تختزن حياة الإنسان، من حيث التعريف، ضمناً، إمكانية اليأس أمام صعوبات الحياة ومصاعبها ومآسيها وإكراهاتها. وبالتالي، لولا الأمل في غريزته، أي الإنسان، لانتهت حياته سريعا، أو لأنهاها هو نفسه، واستتباعاً، ستعني فناء الجنس البشري.
لا بد من تقديم بناءٍ يمكن تخيله أو تصوّره للأفضل الذي نرتجيه. كما لا بد أن تكون هناك خطط للعمل وكوادر تنفذها
إذن، حياتنا نحن البشر رهينة تلك الجدلية القاسية: اليأس والأمل. وإذا لم ننتبه إلى تلك الجدلية في سياق ما يعيشه الإنسان العربي اليوم نكون نصدر على أنفسنا، بصفتنا عربا، حكماً بالإلغاء والبقاء أسارى لما نحن فيه من تيه وضياع. ومن ثمَّ، وكما سبقت الإشارة، لا بد أن يكون ترميم الأمل أو بناؤه على رأس قائمة أولوياتنا. ولا بد من تقديم بناءٍ يمكن تخيله أو تصوّره للأفضل الذي نرتجيه. كما لا بد أن تكون هناك خطط للعمل وكوادر تنفذها. ويتطلب هذا كله نوعاً من التوافق، ولو بالحدود الدنيا، بين كل الفرقاء الفكريين والسياسيين، على الخطوط العامة لذلك المستقبل الذي نريد إنجازه. بغير ذلك، تكون نخب التغيير ذاتها قد أفسحت المجال واسعاً للأنظمة القمعية أن تنتصر في معركة الوعي والإرادات والتصورات والمستقبل. لا تملك الشعوب في سياقها العام ترف صرف وقتها وجهودها في البناء الفكري والتصورات المستقبلية الجَمَعِيَةِ. هذا دور نخبها، أو هكذا يفترض.
أسباب اليأس عربياً اليوم أكثر من أسباب التفاؤل والأمل، ولكن الاستسلام لهذا التوصيف القاسي يعني هزيمة ساحقة
في القرآن الكريم، تركيز على بناء منظومة الأمل، بما تقدّمه من معنى وتصور لغد أفضل، وكذلك بما يستلزمه ذلك من عمل وجهد دائبيْن. ومن ثمَّ يفرّق القرآن بين الأمل الحقيقي والوهم الذي يلغي العمل والجهد من حساباته. "ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" (الحجر: 3). أما الأمل الحقيقي، الذي يختزن المعنى والرؤية والمشروع، فهو الأمل الذي يقوم على الجدّ والعمل. بل ويذهب القرآن إلى أبعد من ذلك في هذا السياق، ليجعل من اليأس صنواً للكفر. "يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف: 87). وفي الحديث الشريف: "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أَهْلَكَهُمْ"، وفي رواية أخرى: "أَهْلَكُهُمْ" (صحيح مسلم). هذا غيضٌ من فيض، إذ يجعل الإسلام من الأمل (الرجاء) ركيزة أساسية في العلاقة مع الله جَلَّ شأنه، وفي حياة البشر، شرط قيام الإنسان بدوره.
باختصار، أسباب اليأس عربياً اليوم أكثر من أسباب التفاؤل والأمل، ولكن الاستسلام لهذا التوصيف القاسي يعني هزيمة ساحقة، قد لا ننهض منها عقودا وقرونا، وهو ما يتطلب تراكماً تنظيرياً في صيرورة الأمل. وكما تقول ماتينجلي شيريل، الأمل يؤثر على بناء التوقعات وتصوراتها. وفي الحديث الشريف: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا" (متفق عليه). هذا بعض تأسيس مفرط في العمومية، وبعض خواطر، قد يكون الكاتب نفسه محتاجاً إلى تذكّرها.