لعل أبرز ما آلت إليه سيرة حياة صاحب "نقد نقد العقل العربي" تلك العزلة وشبه الصمت اللذين ختم بهما مسيرته الفكرية الطويلة؛ فمن حزب البعث، فرداً حزبياً ملتزماً بمبادئه في بدايات شبابه، إلى معارضة الحزب فالسجن، ثم الذهاب بعيداً في تحليل دوامات القومية والماركسية والوجودية في ذروتها، ثم الحفر عميقاً في إشكاليّات النهضة والحداثة، وانتهاءً بصمته في نهاية مشواره.
صمتٌ أثار الكثير من الأسئلة حوله كصاحب مشروع نقدي تغييري، ولا سيما موقفه مما يحدث في بلده سورية؛ إذ تكاد تنعدم آراؤه في ما يحصل باستثناء بعض مقالات يدين فيها كلّ ما يحصل هناك: "إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير، الذي هو موت الوطن".
بصمته ذاك، ومن ثم برحيله؛ تكون الثقافة العربية العربية خسرت واحداً من أبرز أبناء جيل المفكّرين السجاليين العرب. في سجالاته الأساسية، التفت طرابيشي إلى المفاهيم النفسية في تحليل الخطاب العربي المعاصر؛ ثيمة جديدة كانت الأبرز في محاججاته؛ إذ ساعده في ذلك أنه كان سبّاقاً إلى نقل وترجمة مُنجَز فرويد وأعمال لفيلسوف وناقد "سيكولوجي" مثل سارتر.
في كتابه "من النهضة إلى الردّة، تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة" (الساقي 2000)، يمضي طرابيشي مسكوناً بهواجس النهضة عبر مقالات سجالية حاور فيها منظّري النهضة العرب، من طه حسين وقاسم أمين، إلى محمد أركون وزكي أرسون وجلال أمين وغيرهم. سجالات كانت أقرب إلى النقد والتفكيك منها إلى التحليل والتفسير.
يشرع فيها مشروعه هنا بالقول: "إنني أنتمي إلى جيل الرهانات الخاسرة. فجيلنا قد راهن على القومية وعلى الثورة وعلى الاشتراكية، وهو يراهن اليوم على الديمقراطية، لا لقيم ذاتية في هذه المفاهيم، بل كمطايا إلى النهوض العربي وإلى تجاوز الفوات الحضاري، الجارح للنرجسية في عصر تقدّم الأمم".
ذهبت أهم توصيفات طرابيشي في نقده لمشروع النهضة العربي إلى أنه مسكون بجرح أنثروبولوجي قائم على إدراك التفاوت الحضاري الحاصل بين العرب والغرب، لكن هذا الجرح الذي يسكن الوعي العربي عميقاً، لم يؤسّس إلى وعي نهضوي يقوم على المحاكاة والتماهي مع الذات كشرط أول للانطلاق، بل كانت "ضرباً من ضروب التقمّص وإعادة التماهي"، إذ إن هذه الجهود لم تكن معنية أصلاً بخلق قطيعة مع عصور انحطاطها، ما يقف حائلاً أمام مسارها إلى المستقبل.
الأمر ذاته عاب فيه طرابيشي، في أحد سجالاته، حالة التماهي مع أوروبا عند طه حسين، في ما أسماه "سكة الحديد التي توحي بنوع من الحتمية"، في إشارة منه إلى النموذج الحلم الذي خطه حسين للمستقبل العربي في قول الأخير: "علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء"، مقترحاً في هذا السياق أهمية أن يتخلّى العرب عن استراتيجية البدائل وإحلال ما أسماه بآليات النهضة التي تتجاوز التراثية في العقل العربي الجمعي، وتبتعد أكثر ما تبتعد عن اللاتطور والتكرار؛ سمة مشاريع النهضة العربية في العصر الحديث.
يواصل طرابيشي الحفر عمودياً في أزمة العجز القائمة على روح القصور تجاه الغرب، مقدِّماً فرضيتين فارقتين، أولاهما: أن مواصلة "تضخيم" الذات/ الأنا العربية بمقابل "تحجيم" الآخر/ الغرب هو بمثابة استمرار لهذا النزيف النرجسي؛ أي التخلّف المطعون بالشك والتوتّر والهشاشة، وهو التضخيم ذاته الذي يذهب آباؤه إلى مواصلة الحديث بشكل هذياني عن فضل العلم العربي والفلسفة الإسلامية على الغرب الأوروبي أو مديونية هذا الغرب للأنا في العصور المتوسّطة. في حين يعزو طرابيشي جرح الإنتلجنسيا إلى مرحلة النهضة الأوروبية اللاحقة لهذه المديونية والتي عمقت وعي التفاوت بين الثقافتين بشكل كبير.
وثاني الفرضيتين، إحالته صعود الأصولية الإسلاموية إلى العجز عن تضميد جرح الوعي من جرّاء فشل مشروع التحديث العربي.
اقرأ أيضاً: محمد أركون.. عقلنة الفضاء الإسلامي