جريمة رابعة ونظام الانقلاب في مصر

15 اغسطس 2014

متظاهر يرفع شعار رابعة في جامعة المنصورة (نوفمبر/2013/الأناضول)

+ الخط -

عندما أعلن المدير التنفيذي لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، كينيث روث، أن ما جرى في ميدان رابعة العدوية في القاهرة، العام الماضي، "واحدة من أكبر وقائع قتل المتظاهرين في يوم واحد في تاريخ العالم الحديث" لم يكن، في تصريحه هذا، مبالغاً، فقد كان هذا الحدث الدموي تعبيراً عن أسوأ أشكال العنف والإرهاب ضد الشعوب، غير أن ما ينبغي إضافته أن هذا النمط من الممارسات الدموية ليس حدثاً طارئاً، أو قراراً اعتباطيا بالنسبة لكل من يدرك طبيعة الأنظمة الاستبدادية، وطرق معالجتها كل التعبيرات الاحتجاجية المطالبة بالحرية والانعتاق.
فمشكل المستبد ليس إلا الإسقاط الذاتي لمشكل السلطة التي يرغب في الإمساك بها، بكل السبل، ومهما كان الثمن. وانطلاقاً من هذه الرغبة الكامنة في ذات الطاغية، والتي تتساوق مع مصالح مجموعة المنتفعين المحيطين به، يدعو المستبد إلى ما يعتبره وحدة وطنية لحماية البلاد من الانهيار (طلب التفويض لمنع الحرب الأهلية، حسب منطق عبد الفتاح السيسي). وباسم هذه الوحدة، يتشكل نظام الاستبداد، بحيث يُنظر فيه إلى زعيم الانقلاب بوصفه الممثل لإرادة الشعب، وعلى هذا الأساس، تسحق الأجهزة الأمنية والعسكرية كل معارضٍ، أو مخالفٍ، باعتباره إرهابياً يهدد الوحدة الوطنية. ولذلك، لا معنى في صلب هذا النظام لاستقلالية أي مجالٍ من مجالات الحياة الاجتماعية، أو السياسية، سواء كان الإعلام (تمّ إغلاق القنوات المناوئة للانقلاب المصري، ودفع باقي الوسائل الإعلامية لتتحول إلى أبواق دعائية، تدعو إلى سحق المناوئين وإقصائهم)، أو الفن (يتم تسخير هذا المجال لتشويه الخصوم وشيطنتهم) أو الدين (الفتاوى الصادرة لتبرير قتل المتظاهرين بدعوى أنهم خوارج). ففي ظل نظام الاستبداد، كما تجسد في الحالة الانقلابية المصرية، يجب أن يخضع كل شيء لنفوذ الطاغية، ولا يمكن السماح بأي وجود سياسيٍّ خارجه، ليبدو هذا النظام، وعلى الرغم مما حاول أن يضفيه عليه بعضهم من صفات الشعبية والشرعية، بوصفه نتاجاً لمظاهرات جماهيرية، النقيض الموضوعي لثورة 25 يناير، وما نادت به من أجل إقرار الحرية والعدالة الاجتماعية، ونفي كل أشكال التمييز والتفاوت، وهي مطالب ألغاها الانقلابيون، إذ لا معنى لحرية الأحزاب أو الجمعيات أو النقابات، بل ثمة فقط من هم مع الانقلاب ومن هم ضده (ترويج فكرة نحن شعب وأنتم شعب). ومن خلال ما انطلق منه نظام الانقلاب المصري، يمكن توصيف جملة علاماته المميزة التي منها:


ـ عودة جهاز الرقابة البوليسي، ممثلاً في "أمن الدولة"، وممارسة الاعتقالات خارج القانون، وتطويع القضاء لسحق الخصوم.
ـ إلغاء المنظمات غير الرسمية، أو التضييق عليها (السيطرة على الجمعيات والاستيلاء على أموالها)، وحل الأحزاب (الحرية والعدالة نموذجاً).
ـ انتشار العنف العسكري والبوليسي، حيث تم منح الضوء الأخضر للقوات بتصفية الخصوم خارج القانون، من دون خوف من المحاكمة (إعلان السيسي أن أحداً لن تتم محاكمته على خلفية مثل هذه التصفيات).
ـ محاصرة وسائل الإعلام وتوجيهها، بحيث تحولت، في جملتها، إلى مجرد أبواق سلطوية، تبرر عنف النظام، وتصوره على أنه السبيل الوحيد لحماية "الأمن القومي"، وتزامن ذلك مع تصفيات لحقت الصحافيين الأحرار، من خلال محاكمات جائرة (صحفيو الجزيرة مثالا).
ـ محاولة توجيه الاقتصاد في كليته والمشاركة الإلزامية للناس في مشاريع النظام (إنشاء صندوق "تحيا مصر" وتصريح السيسي المعلن "حتدفع يعني حتدفع")، وصولاً إلى تحول النظام ذاته مقاولاً يحول مشاريع وطنية كبرى إلى مصدر ربح للعسكر، القوة الداعمة للانقلاب (مشروع تنمية قناة السويس مثالاً).
وتحيل كل هذه الخصائص إلى قضية أساسية، هي أنه، في ظل نظام الاستبداد، تغيب أية مقاييس واضحة ومعلنة لما هو شرعي، أو قانوني، وتسود مشيئة الطاغية، ما يجعل نمط الحكم الاستبدادي اعتباطياً نزوياً كيفياً، ما يلغي مبدأ حكم القانون وسيادته، لتحل محله إرادة الفرد.
فنظام الحكم الانقلابي في مصر، اليوم، يخضع لانحرافات مزاج الطاغية، وهو تعبير أقصى عن "مركب عسكري/مافيوي" مستعد لاقتراف أقسى الجرائم من أجل الاحتفاظ بالسلطة، والبقاء فيها، ومن هنا، جاءت جريمة فض اعتصام ميدان رابعة، حيث تمت تصفية المتظاهرين "بصورة منهجية ومخطط لها"، وفق تعبير منظمة "هيومن رايتس ووتش". وهي في جوهرها رسالةٌ إلى المجتمع المصري برمته، وقواه الحية خصوصاً، لجعله ينضبط لقرارات السلطة الانقلابية، ويقبل بالوضع الجديد، بوصفه مصيراً قدرياً، لا يمكن التحرر منه، أو الخروج عنه، غير أن حقائق التاريخ تقول إن كل الأنظمة الاستبدادية كان مصيرها الزوال، ولنا في أنظمة الاستبداد العسكري في دول أميركا اللاتينية خير مثال (تشيلي والأرجنتين وغيرها) وإن تواصل الحراك الثوري في الشارع المصري خير تعبير عن تواصل نبض الحرية لدى الشعب، لأنه لا يمكن التعايش مع الطغيان، أو قبوله، بوصفه أمراً واقعاً لا يمكن مجاوزته، وكما يقول مونتسكيو "ما من شر أعظم وما من استتباعات أخطر من التسامح مع الاستبداد، إنه يؤبده"، وينبغي أن نتذكر دوماً "أن كل الجرائم مصدرها الطغيان"، كما قال يوماً الثائر الفرنسي سان جوست.

 

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.