تعد جزيرة غوريه الواقعة على بعد كيلومترات عن العاصمة السنغالية داكار المكان الشاهد على أبشع جريمة في تاريخ الإنسانية وهي العبودية، فمن هنا جرى نقل ملايين الأفارقة نحو العالم الجديد ( أميركا) خلال عدة قرون، ولأن المأساة لا تزال تعيش حتى اليوم في أكثر من مكان في العالم، ثمة من يعتقد جازما من السنغاليين بأن أصوات ضحايا العبودية الذين تم سوقهم من هنا، لا تزال تتردد في أرجاء الجزيرة التي صارت متحفا يقصده زوار السنغال، واللافت أن عدد الزوار من الأفارقة يفوق عدد الأجانب.
وحين يزور الغريب الجزيرة يذهب الأمر ببعض الناس هنا للطلب إليه لأن يصغي جيدا كي يسمع الصوت، وثمة بعض آخر يقول إن الأصوات لا تعلو إلا في أوقات معينة كالفجر، حين كان يتم تسفير الآلاف، أو يتطلب الأمر التقدم قليلا في البحر، حيث تعلو الأمواج التي ابتلعت الملايين في طريق السفر، ووسط كل هذه التهويمات والتداعيات يجد الزائر نفسه وقد انساق وراء الحكاية وأخذ يحاول إصاخة السمع لعله يلتقط بعض تلك الأصوات التي تبددت وسط هدير المحيط الأطلسي، لكنه لا يلبث أن يدرك أن هذه الأصوات إنما تأتي من داخله، كنوع من التعاطف مع الملايين الذين لاقوا ذلك المصير المرعب وكناية عن الألم على استمرار العبودية بأشكال كثيرة في عالم اليوم، حيث لا تزال أفريقيا تكافح من أجل استقلالها من الاستعمار الذي نهب ثرواتها وأغرقها في الفقر والمرض والأمية والديون.
جزيرة غوريه (goree) أو جزيرة غوري هي ضحية موقعها الجغرافي بين الشمال والجنوب، ولكونها تشكل مرفأ طبيعياً لرسو السفن، ومن هنا جاء اسمها الذي يعني الميناء الجيد. تقع في المحيط الأطلسي، وتبلغ مساحتها 28 هكتارا، قبالة سواحل داكار على بعد 3.5 كيلومترات عن اليابسة، وتعد في كافة الروايات، من القرن الخامس عشر ولغاية القرن التاسع عشر، المركز الأكبر لتجارة العبيد في الساحل الأفريقي ومحطة وسوقا لبيع وشراء العبيد. وقد "خضعت على التوالي لسيطرة البرتغال وهولندا وإنجلترا وفرنسا، ما جعل هندستها تتميز بالتناقض بين أحياء العبيد المظلمة ومنازل تجار الرقيق الأنيقة" حسب توصيف اليونسكو.
وشكلت الجزيرة من منتصف القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر المنطقة الاستراتيجية للنفوذ الاستعماري في المنطقة، ومكانا للتنافس بين الدول التي كانت تتسابق على تجارة العبيد، وتوالى على احتلالها كل من البرتغاليين عام 1444م ثم الهولنديين عام 1617م حيث سموها غود ريد Good Rade (الميناء الجيد) ومنه جاء الاسم الحالي للجزيرة، ثم استولى عليها الفرنسيون عام 1677م، ولكن نشأ بين الفرنسيين والبريطانيين نزاع مرير حول الجزيرة تم حله في معاهدة أميان 1802م، بعدها أضحت خاضعة للسيطرة الفرنسية حتى استقلال السنغال عام 1960.
وكانت الجزيرة تمثل النقطة الأخيرة لنقل العبيد من غرب أفريقيا إلى أوروبا والأميركيتين، وكل أثر فيها يشهد على هذه المأساة التي دامت قرابة أربعة قرون، وهناك أقيم تمثال على أرض الجزيرة لتخليد ذكرى ضحايا تجارة العبيد. ويؤكد المؤرخون أن عدد الأشخاص الذين نقلوا من أفريقيا عبر جزيرة غوري إلى القارة الأميركية يتراوح بين ستين مليوناً ومائة مليون شخص، هذا بالإضافة إلى ملايين من الذين قضوا أثناء رحلة العذاب وهم في السفن، وآخرين عانوا من الأمراض فرمى بهم تجار النخاسة في البحر، وكذلك الذين قضوا نحبهم في الأشغال الشاقة داخل الجزيرة قبل نقلهم في رحلتهم إلى العالم الجديد. ولكنّ المؤرخين الغربيين يشككون في صدقية هذا الأرقام ويعتبرون أنها تحمل مبالغة كبيرة، ذلك أن مناطق أخرى في القارة مثل جنوب أفريقيا كانت نقاط انطلاق لنقل الأفارقة نحو الأميركيتين.
تعتبر الجزيرة اليوم بمثابة محج عالمي رمزي شاهد على تاريخ العبودية، و"لا تزال تجسّد حتى اليوم رمزاً للاستغلال البشري وموطناً للمصالحة"، وذلك وفق ما ورد في عام 1978 في إعلان منظمة اليونسكو، حين وضعتها على لائحة مواقع التراث العالمي، ومن يزور الجزيرة يجد أنها منطقة عامرة يعيش فيها عدة آلاف، وتعد واحدة من مقاطعات العاصمة داكار، وحسب روايات سكان محليين فقد تم هدم غالبية المساكن التي كانت تستخدم كمراكز لانتظار الترحيل، وتم الإبقاء على واحد منها على شاطئ الأطلسي وبات بمثابة متحف صغير، وهو يتشكل من عنابر احتجاز، وأسلحة وقيود للأيدي والأرجل ووسائل تعذيب بدائية، وحتى غرفة خاصة بالأطفال. وبني هذا المنزل الكبير بأبواب مشرعة قبالة البحر عام 1780 لاحتجاز "المعتقلين" من الجنسين ومن جميع الأعمار قبل ترحيلهم. ولا تتجاوز مساحة الغرفة 6.76 أمتار مربعة. عنبر للنساء، وعنبر للأطفال، وعنبر للفتيات، وآخر للرجال، بالإضافة إلى عنابر للمتمردين. لا يتجاوز ارتفاع سقفه 0.8 متر. ويستخدم هذا العنبر كنقطة بيع وترحيل الرقيق، حيث تبدأ العملية بمقايضة الرقيق بالبضائع، ومن ثم ترحيل الضحايا عن طريق باب اللاعودة الشهير، وهو البوابة الخلفية للدار المطلة على المحيط الأطلسي.
وأمام هذا البيت ينتصب تمثال "حرية العبيد" الذي يمثل فتاة أفريقية تعانق فتى أفريقياً كسر القيود، رافعاً رأسه نحو سماء السنغال. تمثال يعبر عن نهاية زمن الرق، نفذه الفنان من جزر المارتينيك جوادولوبو عام 2002. ويبرز تحت التمثال طبل كبير. والفكرة الفنية التي أراد الفنان التعبير عنها هي أن الطبول حينها كانت تستخدم لجذب الناس وخروجهم من مخابئهم في الغابات، فيتم اختطافهم إلى رحلة الموت أو الاستعباد.
في طريق العودة إلى داكار، بانتظار العبارة التي تقوم برحلة كل نصف ساعة في الاتجاهين، تحوم فوق الميناء طيور سوداء، ليست بالغربان. لها حجم النوارس، طيور لا تليق إلا بالمأساة التي عاناها الأفارقة الذين عاشوا على هذه الأرض قروناً عدة.