أزمة اللاجئين والمهاجرين تصدرت الحرب الكلامية بين البلدين بعد تصريحات نائب رئيس الوزراء الإيطالي، لويجي دي مايو التي اعتبر فيها أن فرنسا "لم تتوقف عن ممارساتها الاستعمارية في عشرات الدول الأفريقية". وذهب زعيم حزب حركة خمس نجوم، الذي كون الائتلاف الحاكم مع تحالف أحزاب أقصى اليمين، إلى حد دعوته الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على "فرنسا وجميع الدول التي تحاكيها في إفقار أفريقيا وحمل الأفارقة على مغادرتها لأن الأفارقة ينبغي أن يكونوا في أفريقيا، لا في قاع البحر المتوسط". لكن سرعان ما ظهرت الخلافات السياسية، تحديداً في الملف الليبي، الذي تحضر فيه حسابات سياسية واقتصادية تفسر جزءاً كبيراً من التوتر بين البلدين.
تولى نائب رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو سالفيني، أمس الثلاثاء، الهجوم على فرنسا قائلاً إنها لا ترغب في تهدئة الأوضاع في ليبيا. وربط سالفيني، في حديث للقناة التلفزيونية الخامسة، بين عدم رغبة فرنسا في استقرار الوضع الليبي وبين "تضارب مصالحها النفطية مع مصالح إيطاليا". وتتنافس روما وباريس على ليبيا والدول المجاورة لها، وقد انعكس ذلك في أكثر من محطة وأكثر من سجال سواء بشكل مباشر أو عن بعد، لكن اللافت أن الخلاف الجديد يتزامن مع بدء اللواء الليبي، خليفة حفتر، حليف فرنسا الأبرز في ليبيا، حراكاً عسكرياً في الجنوب قبل أيام.
تاريخياً تعتبر فرنسا نفسها صاحبة إرث تاريخي في الجنوب الليبي (فزان) وتمتلك فيه مصالح تتحتم عليها رعايتها. اعتمدت في السابق على قوى قبلية محلية لها امتدادات في دول الجوار الأفريقي موالية لفرنسا، كما أنها أنشأت قاعدة عسكرية في منطقة مادما شمال النيجر الحدودية مع ليبيا.
وتصاعد الدور الفرنسي في ليبيا في السنوات الماضية بعد أن تصدرت باريس في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي الحملة التي أطلقت للإطاحة بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي عقب الانتفاضة الشعبية التي اندلعت ومحاولته إخمادها بالقوة. وقد حاولت على مدى سنوات ما بعد سقوط القذافي، جني مكاسب سياسية واقتصادية، من دون أن تنجح مخططاتها على نحو دائم. وبينما كانت تقود حراكاً متنوعاً في ليبيا، فإنها سعت لقيادة ملف الحل السياسي من خلال طرح أكثر من مبادرة وتنظيم اجتماعات حول ليبيا كان آخرها لقاء باريس الذي نظم نهاية مايو/أيار الماضي، وضم أبرز أربع شخصيات ليبية على الساحة السياسية راهناً، بمن فيهم معارضو حليفها حفتر كرئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري. وترافق ذلك مع تواصل مستمر مع قادة مصراته، الطيف السياسي والعسكري الأقوى غرب البلاد والمعروف بمعارضته لمساعي حفتر.
لكن يبدو أن كل ذلك لم يكن كافياً في ظل الصراعات القبلية وتمدد حركات المعارضة التشادية في الجنوب، فعمدت فرنسا، كما يبدو، إلى حثّ حليفها العسكري في شرق ليبيا أي حفتر على نقل قواته إلى الجنوب أخيراً وبدء عملية عسكرية أعلن حفتر عن بعض أهدافها المتمثلة في السيطرة على الحدود وطرد حركات المعارضة التشادية. أما إيطاليا، التي استعمرت ليبيا لعقود قبل أن تنال الأخيرة استقلالها في عام 1951، فكانت على طول خط الأزمة في السنوات الأخيرة تدعم حكومات طرابلس، وآخرها حكومة الوفاق. ودخلت على خط سباق رعاية المبادرات السياسية من خلال استضافتها لذات القادة الأربعة، في باليرمو في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بمن فيهم حفتر الذي سبق أن اتهم ايطاليا بدعم فصائل وصفها بــ"الإرهابية".
ووضع مراقبون تحرك إيطاليا في سياق سعي روما لتقوية علاقتها بحليف باريس في المنطقة للتشويش على علاقتها به. وبرأي مراقبين، فإن روما تعتقد أن استمرار الدور الأحادي لباريس من خلال إصرارها على دعم حفتر ومحاولة منحه دوراً سياسياً في أي تسوية، يهدد مصالحها. كما تعتبر إيطاليا أن الرغبة الفرنسية بوضع حفتر في الصدارة تتعارض مع رغبتها في أن تحصل أي تسوية من خلال تفاهمات تضم كل الأطراف المحلية، وبما يضمن مصالح كل الدول في ليبيا. كما لا يمكن إغفال أن ايطاليا تعتبر نفسها أيضاً صاحبة حق تاريخي مطلق في ليبيا الأقرب إليها جغرافيا، الأمر الذي لا يجعلها تقبل بسهولة وجود منافس لها فيه.
لكن في خلفيات التنافس بين الدولتين صراعا خفيا على موارد النفط والغاز، أصبح يوصف إعلامياً بصراع "إيني وتوتال" في اشارة إلى أكبر شركتين دوليتين تتواجدان في ليبيا وتتقاسمان شرق ليبيا وغربها. مصالح إيني الرئيسية تتركز بالقرب من زوارة أقصى غرب البلاد، وتوتال تمتلك وجوداً كثيفاً في مواقع النفط في مناطق الواحات في برقة، لكن الجنوب الليبي يمثل نقطة تلامس بينهما، وتحديداً في مناطق تازربو والسرير والغاني، حيث منح نظام معمر القذافي عقوداً لشركات الدولتين في هذه المناطق. كما منح عقوداً لاستخراج الغاز لشركات فرنسية في حوض نالوت غرب البلاد، قريباً من زوارة التي تتواجد فيها إيني أصلاً.
غنى الجنوب الليبي بمصادر الطاقة لا يمكن فصله عن حقيقة الصراع بين البلدين، ويمكن من خلاله أيضاً تفسير، ولو جزئياً، سبب تحول حفتر، المدعوم فرنسياً في شرق البلاد، إلى الجنوب لضبط توترها تحت عنوان "تطهير المنطقة من الجهاديين والعصابات الإجرامية". وبحسب تصريحات قادة قوات حفتر فإن المنطقة المستهدفة بعمليته العسكرية "تمتد من السرير- تازربو جنوب الشرق وحتى مناطق تراغن ومرزق جنوب الغرب". وتتواجد في المنطقة، التي لا يفصلها سوى 200 كيلومتر عن الحدود مع تشاد، قاعدتان عسكريتان أهمهما قاعدة واو الناموس التي يمكن أن توفر غطاء جوياً لحماية ومراقبة الحدود، وأربعة مواقع للنفط، بالإضافة لحوض مرزق الغني بالغاز. وتمتلك فرنسا عقوداً لإدارة إنتاج أغلب هذه المواقع باستثناء حوض مرزق الذي تمتلك إيطالياً عقوداً لإدارته.
وعلى الرغم من الحديث السياسي عن تخمة الجنوب الليبي بالعناصر المتطرفة ومسلحي المعارضة التشادية، والفوضى الأمنية التي شجعت موجات المهاجرين على التدفق للمنطقة، إلا أنها لا تحجب الشق المتعلق بوجود تضارب في المصالح الاقتصادية، ما يعني عملياً أن معادلة الصراع في الجنوب ستبقى قائمة وأن الصراع الفرنسي الإيطالي سيستمر باعتماد البلدين على طرفي السلطتين في ليبيا.
وفي حال نجاح عملية حفتر العسكرية وسيطرته على منطقة الجنوب ربما بدعم فرنسي، فإن ذلك قد لا يكفي لأن يسمح لفرنسا بالسيطرة على مواقع النفط، أخذاً بعين الاعتبار أن عودة العمل في مواقع الطاقة قرار لا تمتلكه سوى المؤسسة الوطنية للنفط التابعة لحكومة الوفاق بطرابلس، التي يترأسها فائز السراج الأقرب إلى إيطاليا.